سوابق “العاصفة” تجليات الإشكالية السعودية اليمنية، طوال القرن الماضي.!
د. صادق القاضي
حتى لو انسلخت اليمن عن جغرافيتها، لتصبح جزيرة نائية في محيط بعيد، لا يمكن لهذا البلد المضطرب بشكل مزمن أن ينسلخ عن امتداده الجيني والاجتماعي، وعمقه السياسي والاقتصادي، وكينونته الثقافية والقومية والدينية .. المتواشجة بشكل عضوي ومصيري بدول الخليج العربي.
ينطبق المثل على دول الخليج، في علاقاتها ببعضها، وفي علاقاتها، كدول، أو كتكتل سياسي، باليمن، ما يوفر شروطا مثالية لعلاقات ثنائية مميزة، وتكتل إقليمي نموذجي، على امتداد الجزيرة العربية الواحدة.
بيد أن الواقع، يجري، وكان يجري دائما خلال القرن الماضي وحتى الآن، على العكس تماما من هذا الممكن المفترض، ويجري في كل مرة باتجاه المزيد من التأزم، لينفجر بشكل كارثي، في كل مرة تتجاوز فيها الاحتقانات نقطتها الحرجة، كما حدث خلال “عاصفة الحزم”.!
هل كان يمكن أن تحدث الأمور بطريقة مختلفة؟ ومن المسؤول؟!
دور اليمن، في صناعة المشكلة اليمنية، هو أوضح من أن يتم الإشارة إليه، لقد فشلت جميع السلطات، وكافة النخب السياسية، ومختلف مراكز القوى الاجتماعية والدينية.. في اليمن، طوال حوالي مائة عام من الاستقلال عن الدولة العثمانية، وخمسين عاما من النظام الجمهوري، وربع قرن من تحقيق الوحدة اليمنية، من بناء دولة مؤسسية مدنية، ولو بالحد الأدنى من المعاصرة.!
على أن تحميل اليمن وحدها مسؤولية هذه “المشكلة المحلية والإقليمية”، فيه الكثير من التسطيح والتبسيط المخل لمنظومة مركبة ومربكة من الاختلالات العميقة والمتقادمة التي فخخت وتفخخ واقع المنطقة بالكثير من المخاطر والمفاجآت.
لقد كان للسعودية نصيب الأسد في صناعة هذا الواقع الإقليمي المؤسف، ولإدراك ذلك من خلال “عاصفة الحزم”، لا بد من الانفتاح بإيجابية على الدروس والعبر التي تقدمها بأثرٍ رجعي، كمحطة أخيرة مؤسفة، لعلاقة قديمة كانت بالضرورة طافحة بالسلبيات طوال القرن الأخير من تاريخ الجغرافيا السياسية للمنطقة..
السعودية والدولة في اليمن:
بعيدا عن الأساطير التي تتحدث عن وصية الملك الأب عبد العزيز بن سعود لأولاده بشأن الربط بين ضعف اليمن وبقاء المملكة، فقد كان الاضعاف المنهجي للدولة المركزية في اليمن هو جوهر السياسة السعودية خلال العقود السابقة، وبات من المعروف على نطاق واسع ان هذه السياسة محكومة بعقدتين متداخلتين تمثلان الخلفية التفسيرية والدوافع الحقيقية لمجمل هذه الظاهرة النشاز في منطق الجغرافيا السياسية.
العقدة الأولى: رهاب النظام الجمهوري، وهي سياسة من الوضوح بمكان، حتى للعوام فضلا عن المثقفين في اليمن والمختصين في الشأن اليمني خارجه، وحسب هؤلاء فإن:(جمهورية ناجحة في شبه الجزيرة العربية ليست مصدر ارتياح للأسرة السعودية. وبقاء أمر اليمن اقتصاديا معلقاً بالرياض أضمن وسيلة للأسرة السعودية بعدم نجاح مشروع الجمهورية في الجزيرة العربية المتمثلة في اليمن وإبقائها ضعيفة ومفككة).
العقدة الثانية: السادية، فعلى أساس الحكمة البدوية التراثية “جوع كلبك يتبعك” ترى السعودية أن الطريقة المثلى للحفاظ على تبعية اليمن كحديقة خلفية للملكة هي عرقلة الاستقرار والتنمية والوحدة في هذا البلد من خلال إضعاف مؤسسات الدولة ونخر حكومته المركزية.
على أساس هاتين العقدتين تتفسر الخطوط العامة للعلاقة السعودية اليمنية طوال القرن الماضي، بدءاً بحروب الإدريسي، مروراً بأحداث ثورة 26سبتمبر المجيدة، وحرب الثمان سنوات، والحرب الأهلية اليمنية صيف 94م، وصولا إلى عاصفة الحزم.
شرعية الإدريسي.. ونخوة “آل سعود”!!.
فعلها ” الحسن الإدريسي” من قبل. في العقود الأولى من القرن الماضي. حدث خلاف يمني يمني، فطلب هذا “الإمام” تدخل المملكة الشقيقة لحماية سلطته، وبطريقتهم في النجدة قام “آل سعود” باجتياح الأراضي اليمنية: نجران وجيزان وعسير .. والتي ما تزال تحت سيطرتهم حتى الآن.!
هذا ما فعله الرئيس هادي، بعد قرابة قرنٍ كامل. كلاهما كان حاكما هزيلا مشؤوماً، استجار من الرمضاء بالنار، وخرج من التاريخ من نافذة الجغرافيا!.
الفرق أن الإمام الإدريسي ندم على حماقته الفادحة بعد فوات الأوان، فهرب مع أهله وأقاربه من قبضة أعدائه إلى خصومه من بيت” حميد الدين”، ودعا إلى مقاومة الاحتلال السعودي..
في المقابل لا ندري إن كان الرئيس هادي- والذي يجب أن يندم ربما على كل القرارات التي اتخذها في الرئاسة-نادم على فعلته الزنيمة هذه! لكنه -على الأرجح-ليس نادما، وإلا لتمكن -ببراعته المعهودة في الفرار- من التسلل بسهولة من ملجئه أو معتقله الفخم في الرياض.
والفرق أيضاً أن اليمن كلها هذه المرة، على محك الضم والإلحاق، لا كجزء في المملكة الشقيقة الطامعة، ولا كعضو في مجلس التعاون العربي، كما يروج الهراء، بل كحديقة خلفية للمملكة، وتابع هزيل بلا حول ولا قوة.!
بالمناسبة هكذا تقريبا كانت اليمن بالنسبة للسعودية خلال معظم عهدها الجمهوري.. وما يحدث اليوم أن السعودية تريد أن تتعملق إقليميا أكثر من خلال تقزيم اليمن أكثر.. ولطالما تعملقت من خلال الضم والإلحاق، وعلى حساب اليمن بالذات..
في البدء ظهرت هذه “الدولة اللقيطة” التي أصبحت “الشقيقة الكبرى” في نجد، وكانت تعرف بـ”إمارة الدرعية وملحقاتها” ثم بعد ضمها للحجاز أصبحت (مملكة الحجاز وسلطنة نجد وملحقاتها)” وفقط بعد ضم دولة الأدارسة اليمنية.. أصبحت (المملكة العربية السعودية).
…
الشرعية .. وحروب الثورة.
كما لو أن السعودية لا تعرف كيف تبدع، تبدو عاصفة الحزم اجترارا لحروب ستينيات القرن الماضي، بذات الشعارات والممارسات، لقد استغلت الجارة الملكية حينها، شجاراً يمنياً يمنياً، للتدخل في شئون هذا البيت الذي يبدو مصاباً بالخلافات العائلية بشكل مزمن.!
كان السياق الإقليمي مختلفاً، لكن أشكال وأساليب التدخل السعودي، لم تختلف جوهرياً، فكما يحدث الآن:
– تدخلت السعودية حينها تحت لافتة حماية ودعم “الشرعية”.
– اشترت بمالها لنفسها مقاتلين يمنيين، من القبائل، وأنفقت في عام 1963 وحده”15″ مليون دولار، تكاليف تموينهم وتدريبهم، وتجهيزهم بالسلاح.
-استأجرت مرتزقة أجانب، من فرنسا، وبلجيكا، وإنجلترا.. خبراء عسكريين ومحاربين قدامى .. تقدر بعض المصادر عددهم بـ “15,000 ” مرتزق أوروبي!.
– تدخلت عسكرياً بقواتها من عناصر الحرس الوطني السعودي.
– اشترت سياسيين ومثقفين ورجال إعلام.. بلا حدود.
– أنفقت بسخاء، على شراء الولاءات المحلية والإقليمية والدولية.
بجانب إيران، أنفقت السعودية خلال الأعوام” 62 : 1970م” على الحرب في اليمن، أموالاً كانت حينها مهولة بحيث أسالت لعاب شركات بيع الأسلحة في العالم، وأطماع دول مصنعة للسلاح، كـ “باكستان” التي “رأت في الحرب فرصة للتكسب”.
لكن، وكما نعرف، انتهت تلك الحرب لصالح اليمن، واضطرت السعودية – التي اعترفت لاحقا بالنظام الإرهابي لطالبان في يومه الأول- إلى الاعتراف بالنظام الجمهوري في اليمن، لكن بعد ثمان سنوات من حرب أكلت الأخضر واليابس، وراح ضحيتها قرابة: “1000” جندي سعودي، و”26000″ جندي مصري، وما بين “100,000 : 200,000” قتيل يمني من الطرفين “.!!
..
كانت “إسرائيل” حاضرة أيضاً.
بعيدا عن المبالغات والمبالغات المضادة، “إسرائيل” اليوم حاضرة، بجانب السعودية، في “عاصفة الحزم”. قد لا نعرف -مؤقتاً- كيف؟ ولا إلى أيّ مدى؟ ولكن الأمر قد لا يختلف جوهريا عنه خلال حروب ستينيات القرن المنصرم!
حينها، كان العدو اللدود لإسرائيل “جمال عبد الناصر”، وخصمه الإقليمي “السعودية” يغرقان في حروب اليمن، بما وفّر فرصة ذهبية لإسرائيل لدعم حلفائها، أو بالأحرى لإغراق خصومها أكثر، فانتهزت الفرصة، وقامت بدعم القوى الموالية للسعودية سياسيا وماديا ولوجستيا..
“كانت الطائرات الإسرائيلية تحلق على طول السواحل السعودية، تلقي الأسلحة في اليمن، وتتزود بالوقود في الصومال وجيبوتي، وتعود إلى إسرائيل”. و”استمرت بتزويد المرتزقة الأوروبيين والقبائل بالأسلحة لمدة سنتين”.
أخفى الإسرائيليون مصدر تلك الأسلحة، كأمور وتفاصيل كثيرة أخرى، عن عملياتهم العسكرية تلك التي أطلقوا عليها بأنفسهم اسم “عملية النيص” بمرادفه الإنجليزي :(Operation Porcupine).
لكن المؤرخ المصري الشهير “حسنين هيكل” كتب حينها إن إسرائيل:
– قامت بإعطاء شحنات من الأسلحة للمرتزقة اليمنيين والأجانب.
-أقامت اتصالات مع المئات من المرتزقة الأوروبيين الذين شاركت في جلبهم للقتال في اليمن.
– قامت بإنشاء جسر جوي سري بين جيبوتي وشمال اليمن.
مضيفاً : لقد “أعطت الحرب الفرصة للإسرائيليين لمراقبة وتقييم التكتيكات الحربية المصرية، وقدرتها على التكيف مع ظروف المعارك”.
“بعد ثلاثة عقود من الحرب، أكد الإسرائيليون كلام هيكل”، عن دور إسرائيل في تلك الحروب التي اتفق المؤرخون المصريون والعبريون على وصفها بـ “فيتنام مصر”.
..
“فيتنام السعودية”
ما يجعل اليمن اليوم “فيتناما للسعودية”، كما كانت فيتناما لمصر، أن السعودية لم تتعلم من التجربة المصرية، وأكثر من هذا لم تتعلم من تجاربها هي نفسها خلال الماضي، في سلسلة حروبها على اليمن.
في كل مرة كانت السعودية تراهن على الجواد الخاسر، وتُفشل حوار الفرقاء، وتعول على المرتزقة، وتصمم على الحسم العسكري..
وفي كل مرة كانت تنكسر الجرة، على رأسها، من حروب ثورة 1962م، إلى “عاصفة الحزم”، حيث الرياح اليوم أكثر معاكسة للشراع السعودي من أيّ وقت مضى.
في حصار السبعين كانت الظروف أكثر ميلا لصالحها، محليا وإقليميا ودوليا:
محلياً: كان الصف الجمهوري منقسما، بجيش لا يتجاوز عدده( 4,000) مقاتل، مقابل (50,000 ) مقاتل ملكي، بجانبهم (8,000 ) جندي نظامي، ومعهم المئات من المرتزقة الأجانب، في تفوق عسكري شاسع من حيث عدد الافراد والاسلحة الحديثة والقيادة والخبرة الاجنبية.
إقليميا: تخلت مصر عسكريا عن اليمن، وكانت إيران في صف واحد مع السعودية، بجانب معظم الدول العربية باستثناء مصر وسوريا والجزائر.
دوليا: باستثناء الصين والاتحاد السوفيتي، كان هناك إجماع دولي ضد التغيير، وانسحبت معظم البعثات الدبلوماسية من صنعاء، ما عدا بعثتي الصين والجزائر.
نجح الحلف السعودي حينها في السيطرة على عدة مدن، والوصول إلى صنعاء، والسيطرة على جبلي عيبان والطويل، وصولا إلى النهدين وقصر السلاح، وبه المخزون الاستراتيجي لغذاء الجنود وسلاحهم.
لكن النهاية المعروفة.. كانت مفاجئة للداخل والخارج، التاريخ لا يعيد نفسه، لكن السعودية تعيد إدخال أصبعها إلى نفس الجحر الذي لُدغت منه عشرات المرات.. تأكيداً على تعريف “أينشتاين”، للغباء: هو فعل نفس الشيء مرتين، بنفس الأسلوب، ونفس الخطوات، مع انتظار نتائج مختلفة”.!!
..
هزائم.. وأبواب خلفية.
الحقيقة المرة المؤكدة أن اليمن دخلت القرن الحادي والعشرين، كدولة فاشلة، وأن السعودية كان لها الدور الأبرز في صناعة الوضع اليمني الراهن، وفي كل محطات علاقة اليمن بها، كانت اليمن تنتصر في المواجهات المباشرة، وفي المقابل تنتصر السعودية بالطرق غير المباشرة:
خلال حروب ثلاثينيات القرن الماضي : فشلت السعودية (عسكريا) أمام الجيش اليمني، في نجران وعسير.. لكنها وجدت من الداخل، من الأسرة الحاكمة نفسها، من فتح لها (الأبواب الخلفية)، ومكنها من احتلال “الحديدة” بدون قتال، فنجحت في فرض شروطها في “اتفاقية الطائف””1934م”.
خلال حروب ثورة سبتمبر 1962م: فشلت السعودية وعملاؤها (عسكريا) في إعادة اليمن إلى النظام الإمامي البائد، لكنها عادت من (الأبواب الخلفية)، ونجحت في إفراغ النظام الجمهوري من مضامينه الجمهورية.
خلال حصار السبعين يوما: فشلت السعودية وعملاؤها (عسكريا) في إسقاط عاصمة الجمهورية، لكنها عادت من (الأبواب الخلفية)، ونجحت بتصفية قيادات ورموز تلك الملحمة البطولية الخالدة.
خلال “حركة 13 يونيو التصحيحية”: كانت السعودية ستفشل (عسكريا) لو حاولت الإطاحة بذلك النظام القومي التقدمي الذي تبلور في غفلة عنها، لكنها نجحت من خلال (الأبواب الخلفية)، في إسقاط تلك التجربة الوطنية الرائدة، وتصفية قائدها الخالد الرئيس “إبراهيم الحمدي”.
خلال احتفالات الوحدة 1990م: كانت السعودية ستفشل (عسكريا) لو حاولت الإطاحة بالوحدة اليمنية التي تحققت بالرغم عنها، لكنها من خلال (الأبواب الخلفية)، نجحت في دق مختلف الأسافين والأزمات، في مفاصل ذلك التلاحم التاريخي المجيد.
خلال حرب صيف 94م: فشلت السعودية (عسكريا) أمام الإجماع الوحدوي العارم، في إعادة اليمن إلى عهد التشطير، لكنها نجحت عبر (الأبواب الخلفية)، في إفراغ الوحدة اليمنية من مضمونها الوطني.
كنّا، في كل مرة ننجح في مواجهة السعودية، وطردها عن أبوابنا.. لكنها، كانت، وفي كل مرة، تنجح في التسلل من (الأبواب الخلفية). وتسديد الطعنات النافذة إلى ظهورنا المكشوفة.
وهذه المرة، ككل مرة: ستفشل السعودية وعملاؤها (عسكريا)، في إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، وإعادة اليمن بالقوة إلى “مقصورة الحريم” سيئة السمعة.
لكنها بالتأكيد، ستحاول العودة من (الأبواب الخلفية)، لا خوف على اليمن، من الأمام، بل من الخلف، لا خوف عليها من جيوش وعتاد الأعداء .. بل من خذلان وخيانة الإخوة والأصدقاء.
