»المـوت في الشـمس«.. وخيانة الترجمة..!!

الغربي عمران

قليلة هي الأعمال الروائية الإفريقية المترجمة إلى العربية. ونادرا ما تترجم الرواية الإفريقية من لغتها الأصلية إلى العربية.. حيث نجد ما يصلنا في العادة عبر لغة وسيطة كالفرنسية والإنجليزية وغيرها.. ولذلك أجزم بأن تلك الروايات المترجمة عبر لغة ثالثة تفقد الكثير حتى تصل إلى القارئ العربي.
بين يدينا رواية صادرة عن المشروع القومي للترجمة.. مصر . للروائي التنزاني “بيتر بالانجيو” ترجمة سمير عبد ربه.. وتأتي تحت رقم 344..لعام 2002م.
الرواية هي العمل الأول المترجم لروائي من تنزانيا .. إحدى دول شرق إفريقيا.. وكانت تسمى زنجبار.. حين كانت تابعة للدولة العمانية.. حيث ولا تزال بعض ملامح الثقافة العربية ماثلة للعيان.. خاصة في العاصمة دار السلام.
الموت تحت الشمس 150 صفحة.. من القطع المتوسط.. صيغت بالأسلوب السهل الممتنع.. حيث تعالج أوضاعا إنسانية.. انطلاقا من مجتمع  الريف التنزاني.. فيها يقدم لنا  الروائي مجتمعا بدائيا ممثلا بقرية “كاشا ونجا”.. قرية من عدة أكواخ تتناثر على تلال خضراء .. تحيطها الأشجار والنباتات  الاستوائية..  ريف معزول عن العالم.. لكن معاناة ذلك الإنسان لا تختلف عن معاناة إنسان المدينة في أي مكان من كوكب الأرض.. فها هي العقائد المتداخلة التي يدين بها مجتمع هذه القرية.. وها هي العلاقات الشائكة التي عادة ما تنشأ بين الأفراد في أي مجتمع.
كما أن لدينا عدداً من الشخصيات التي يتمتع بعضهم بالسذاجة.. والبعض بالدهاء والمكر ومن تلك  الشخصيات: تانيا الشخصية المحورية.. وهو شاب مطحون ..عانى من معاملة أبيه القاسية.. ونتيجة لذلك هجر القرية ليعمل في المدينة لعدة سنوات.. لكنه يعود بعد أن أخبره أحدهم بأن أبيه  يحتضر.
جيمس صديق طفولة تانيا.. والموظف الحكومي لجمع ضرائب مزارعي قريته.
تريسا: شابة لا أهل لها.. تقيم في ماخور ماريا.. تميل في عاطفة وليدة لتانيا ..حيث تفاجئه باعترافها ببعض العلاقات.. موضحة له بأنها  زلة يؤنبها ضميرها كثيرا.. وتبوح له بحبها ورغبتها الاقتران به.
شخصيات ثانوية أخرى  تعج بها صفحات الرواية مثل الجدة.. كاهن القرية .. أونيا أخت تانيا التي تتزوج في نهاية الرواية بجيمس.. ماريا صاحبة الماخور.. ميلا كاهن أو عراف القرية.  وشخصيات عبرت دون أسماء كصانع التوابيت ورواد الماخور وغيرهم.
الرواية مختلفة في جانبين  عما تعودنا قراءته.. فالجانب الموضوعي يذهب بنا إلى ما يشبه الأدغال.. حيث تعالج تلك العلاقات البسيطة على ما يبدو في بداية الأمر بين سكان قرية نائية .. لتظهر بعد حين نقيض ذلك فالإنسان هو الإنسان بتعقيداته.. خاصة ما يتعلق بالجانب النفسي.. حيث تتداخل تلك العلاقات بالمعتقدات والعادات والأعراف.. لتنتج معاناة تنعكس على العلاقات بين أفراد ذلك المجتمع النائي. في بيئة يسيطر على سكانها الفقر والجهل والمرض.
وجيمس محصل الضرائب يتسبب في تشريد بعض الأسر وانتحار بعض معيليهم نتيجة الجبايات الجائرة التي تفرض عليهم من قبل الحكومة. وهكذا نجد أن لكل شخصية مشاكلها وطبائعها.
وعلى الصعيد الفني .. أول ما يلفت انتباه القارئ ذلك الأسلوب البسيط الذي يوحي بسلاسة الحكي ويسرد تتابع أحداث الرواية.. إضافة إلى ذلك الوصف الممتع لشخصيات الرواية.. ومنازلهم المكونة من الأعشاب وفروع الأشجار والحشائش.. وكذلك وصف بيئة القرية وعادات سكانها في الموت والأفراح.. علاقات السكان بالطبيعة .. نزول الأمطار.. الحصاد.. الجفاف… الخ ليجد القارئ نفسه في بيئة كثيرا ما شاهدها في الأفلام .. بيئة يشعر أنه جزء منها أو أحد أفراد ذلك المجتمع.
إضافة إلى تقنية أو أسلوب أتبعه الكاتب في التشويق.. فأثناء سرد الحكاية نجد الكاتب يقف أمام تتابع الحكي كما يقف الفران أمام نار فرنه مذكيا لهبه.. مادا بقطع العجين واحدة تلو الأخرى إلى جوار النار. هكذا  الكاتب يدير سردا تساؤليا بينه وبين المتلقي. الذي يجد نفسه متابعا باحثا عن أجوبة لتلك التساؤلات التي تتوالد نتيجة لتتابع الأحداث المغلفة بالإبهام.
ومنذ السطور الأولى يجد القارئ  نفسه مع شخصية بتانيا.. التي تخبرنا أولى صفحات الرواية عن عودته من المدينة وهو الذي غادر قريته منذ سنين طويلة.. تاركا عمله بعد أن أخبره أحدهم باحتضار أبيه.  وفي طريق عودته يتساءل: هل سيصل قبل وفاته أم أن الوقت لن يسعفه؟ ليبدأ القارئ بالتساؤل.. من يكون تانيا؟ وبماذا يموت أبيه ؟ هل من العجز.. أم لمرض ألم به؟ لنتابع  عند وصوله إلى قريته ونفاجأ بتصرفه العدائي إزاء والده الذي يصل ويجده فاقد الوعي .. تتدخل جدته طالبة الصفح عن أبيه .. لنعرف من خلال حوار تانيا مع نفسه كم كان  والده رجلا قاسيا في تعامله. يسرح مع ذكريات طفولته  لنعرف بأن أبوه كان يوما قد قتل أمه.. وكان دوما يعاقر الخمر ولذلك كانت علاقته مع الجميع تتسم بالعنف. ومن جديد تتشظى الأسئلة لماذا وكيف قتل زوجته. من جهة أخرى يتذكر تانيا أخته أمينة.. وموتها على إثر تصرف عنيف منه أدى إلى كسر أحد ساقيها.. لتعاني حتى تموت. تصاحبه تلك الذكرى الأليمة طوال حياته.
وهكذا تتوالد الأحداث ومعها الشخصيات.. بأسلوب يثير التساؤلات.. وتجذب رغبة القارئ بمعرفة المزيد ليخرج من إبهام إلى آخر..متسائلا: وماذا بعد؟ وبذلك يسيطر الكاتب على القارئ بأسلوب التشويق .. الذي يشعر القارئ بمتعة .. وهو يتابع سلاح الكاتب الذي ما يفتأ يجيب عن تساؤل  ليثير عدة تساؤلات أخرى من خلال أحداث مبهمة طوال صفحات الرواية.
ولذلك نجد أن أسلوب الروائي في إثارة القارئ اتخذت خطا متسقا منذ الصفحة الأولى إلى آخر الرواية.
الأمر الآخر استعراض بالوصف ومن خلال الأحداث  تلك العقائد المتداخلة بين الوثنية والمسيحية والإسلام.. حتى أن المتلقي ليجد نفسه أمام بعض الشخصيات  تعيش مازجة تلك الأديان في دين خاص بها.. لتذوب حدود  تلك المعتقدات ويعيش الجميع ضمن طقوس تتجلى في أحزانهم وأفراحهم وفي لحظات المصاعب والحصاد.
هي رواية لم تصلنا إلى العربية من اللغة الأم كما ذكرت سابقا.. ولذلك أشك أجزم بأنها لم تصل بزخمها الكامل.. وعلى يقين  لو أن المؤلف يجيد العربية وقرأها لأنكر أنها روايته أو على أقل تقدير سيشير إلى أنها تشبهها.. ورغم ذلك هي رواية مشوقة.. تتحدث عن عوالم مختلفة .. عوالم تقترب من الأساطير.. لمجتمع لا يزال بعيداً عن التصنع.. لكن همومه تقارب هموم الإنسان في كل مكان .. فأثناء قراءة الشخصيات سيجد القارئ من يشبهه.. أو من يشبه أحد معاريفه.. وتلك الهموم  هي نفسها .. الخوف من المرض.. الحب ومعاناته .. العلاقات بين الأصدقاء.. وتلك بين أفراد الأسرة..  المناسبات الاجتماعية.. والعلاقات في العمل.. والآمال والطموح .. والحلم في حياة سعيدة وهنيئة  .. إضافة إلى تلك المعارك الصغيرة التي يجيد إدارتها الفرد والمجتمع.
الروائي ركز على طقوس الموت.. الأعراس.. وكل ما يتصل بالزراعة والمحاصيل. ومن خلال ذلك قدم لنا مجتمعا له نظامه الخاص.. وله تقاليده.. وقيمه.. وتلك العلاقات بين الرب المفترض في ذلك المجتمع وما يتبعه ويدور في فلكه.
كم هو أجدى حين يجد القارئ العربي أعمالا عن شعوب نادرا. شعوب لها آدابها وفنونها . خاصة إذا ما جاءت الترجمة عن لغتها الأصل إلى العربية.

قد يعجبك ايضا