قراءة سيميائية في مجموعته الشعرية (احتضار الغروب)

فايز البخاري
العلاقة بين النقد والشعر  أي بين النظرية والإبداع  علاقة حميمة ، إذ أن الشعر
خطاب موجه إلى قارئ يهدف إلى التعبير عن إحساس الشاعر ودفعه إلى العمل على
التعبير عنه بلغة مؤثرة تملك من الطاقة ما يمكنها من أن تنقل الإحساس نفسه وبالقوة
نفسها إلى قارئ أو سامع بحيث تدفعه إلى أن يشارك الشاعر في الفكرة
والانفعال اللذين يجسدان هذا الإحساس. وتكمن الطاقة التأثيرية
في الطاقة الجمالية التي تستطيع إن تهز النفس وتفتح شهيتها
لاستقبال رسالة النفس إلى النفس بلا واسطة. غير إنّ هذا الدافع
الجمالي الإبداعي يبطنه دافع الإيصال الذي يقوم على المشترك من
الضوابط النظرية التي تصبح تواضعاً تعاقديا بين القارئ والكاتب.
وبتعدد الثقافات لدى المتلقين تتعدد قراءاتهم للنص. ونحن
هنا سنتناول مجموعة ((احتضار الغروب)) للشاعر أحمد علي
المعرسي من ناحية سيميائية، إيماناً من الباحث بأنّ هذه الطريقة
في التلقي تُعَدُّ طريقةً مُثلى في قراءةِ النص؛ كونها تجمع بين القديم
والجديد في التلقي؛ ولا تقصر نفسَها على بُعدٍ محدد، إذ تتناول
البنية العميقة للنص بقدر تناولها البنية السطحية التي التزمَت بها
وقصَرَتْ نفسها عليها المدرسة البنيوية. لذا تربط السيميائية وتُدخِلُ
في دراستها الجوانب اللسانية والفلسفية والتاريخية والاجتماعية
والسياسية والنفسية مِن أجل استنطاق علامات الفضاء الخارجي للنص  الذي يعد
نصاً تداولياً  بُغية إيجاد تأويلاتٍ لها.
أحمد المعرسي، هذا الشاعر المسكون بالحزن والتأمل يستنطق اللغة بأسلوب
فريد لا يسعها حياله إلا أن تكشفَ له عن أصدافِ لؤلؤِها ومكامنِ جواهرِها لينتقي
بعدها ماشاء منها مُطرِّزاً بها قصائدَه التي تأسرُ الألبابَ وتأخذُ بمجامعِ الفؤاد. مقدمة
المجموعة كتبها أستاذنا الفاضل شاعر اليمن الأكبر الأستاذ/ حسن عبدالله الشرفي
فقال : (لست ادري إن كان هذا ديوان شعر أو إن كان خابية سحر. كذلك لا أدري إن كان
صاحب هذا الديوان شاعراً واحداً أم إنه كل شياطين الوادي في عبقر).
ونحن سنتناول المجموعة من خلال قصيدة (صبابات الحصى) التي تتبين لنا فيها
المستويات النقدية لبنية النص عند المعرسي، حيث نجد في هذا النص غلبة للأسماء
على الأفعال بشكل كبير وملفت، حيث بلغت الأسماء 134 اسماً بينما كان نصيب
الأفعال مجتمعة 58 فعلا، منها اثنان للأمر و 15 فعلاً ماضيا و 41
فعلاً مضارعا. ومن خلال السياق الدلالي لغلبة الأسماء على الأفعال
تتضح لنا الرغبة العارمة لدى الشاعر في تجسيد معاناته التي
يجدها بعد وفاة والده الذي كتب هذا النص إليه. وهو ما يشي بأنَّ
الشاعر يريد أنْ يقول إنَّ حالة الحزن والمعاناة قد صارت شيئاً ثابتاً
وملازماً له لا يستطيع الفكاك منها، خاصة وإنّ مفردات الحزن قد
وردت في النص بشكلٍ طاغٍ على مفردات الفرح، وهو ما نجده واضحاً
وجلياً في الأبيات التالية:
إني وقفتُ وكلُّ أهدابِ الضنى ** هَمٌّ يزمزمُ حسرةً وصعابا
أستمطرُ الصمتَ المُسجّى بالأسى ** شجناً فيمطرُ في حشايَ
ترابا
أبتاهُ أرّقني السكونُ وصاغني ** طولُ الوقوفِ المستهامِ
خرابا
في هذه الأبيات الثلاثة وردت مفردات الحزن كالتالي : (الضنى
هَمٌّ  حسرة  صعاب  صمت  مُسجّى  أسى  شجن  في حشاي ترابا  أرّقني  طول
الوقوف  المستهام  خرابا).
بينما نجد مفردات الفرح والأمل تختفي تماماً منها؛ بما يدل دلالة قوية على الحزن
الذي سيطر وسكن المعرسي بشكلٍ أصبحت معه مفردات الفرح تكاد تنعدم من قاموسه
أو معجمه.
ولعل طغيان ورود فعل المضارع في النص على بقية الأفعال يؤكد هذه المأساة التي
يعيشها الشاعر ومازالت ملازمة له في الوقت الراهن والحاضر كما في المقطع التالي:
وأبكي ويبكيني الزمانُ وخافقي ** ثملٌ يعبُّ الحادثاتِ شرابا
وأهيمُ في مُقلِ الخطوبِ وصارمي ** يشكي العيونَ ويتقي الأهدابا
وألملمُ العبراتِ مِن شًرَفِ الأسى ** وأخيطُ مِن دنيا الصعابِ ثيابا
أمضي على شبقِ الهمومِ وحافري ** يطوي الخطوبَ ويطحنُ الأنيابا
وأعيشُ في زمنِ السفاسفِ ضيغماً ** شَهِدَ الوجوهَ الباسماتِ ذئابا
(أبكي  يبكيني  يعب  أهيم  يشكو  يتقي  ألملم  أخيط  أمضي  يطوي  يطحن
أعيش) اثنا عشر فعلاً مضارعاً مقابل فعلٍ ماضٍ واحد هو (شهد)، إلى جانب ذلك بدت
أيضاً مفردات الحزن طاغية (أبكي  يبكيني  ثمل  الحادثات  أهيم  الخطوب  صارمي
يشكو  يتقي  العبرات  الأسى  الصعاب  الهموم  يطحن  السفاسف  ذئاب) ست
عشرة مفردة للحزن مقابل مفردة واحدة للفرح هي (الباسمات).
وعلى المستوى التركيبي نفسه لاحقَ الضميرُ السياقَ الدلالي للنص وتمسك
بمنطقيته حين انعدم ضمير الغائب في النص كاملاً بينما برز ضميرُ المخاطَب فقط
(منك  بينك  أتراك  هادنك  عليك  راحتيك) وقد كانت نبرة الأسى والحزن واضحة
في تكرار كاف المخاطب بما يشي بأنّ الحزن لدى المعرسي لم يعد غائباً أو منقطعاً وإنما
صار حاضراً وملازماً للشاعر الذي تضافرت مع نفسيته كل الأنساق الدلالية، حيث
تحركت النعوت لتؤيد ذلك من خلال ملاحقتها لأسمائها التي حولتها إلى مدلولات
أخرى غير ما هي عليه قبل التركيب في انزياحٍ جميلٍ يدل على براعة الشاعر كما في
قوله: (الوقوف المستهام، أيامي الثكلى، الأمل المسافر، الصمت المسجى بالأسى).
وقد جاءت الانزياحات اللغوية لتركيبات المعرسي برؤية جديدة وخروقات ريادية
محكومة بعودة ذات أهمية قصوى وجوهرية يستند إليها فعل التلقي عبر التفسير
والتأويل، وهو ما خول لشعره السلامة من التردي في هاوية اللا معقول والاعتباطية
القصوى، مما يعطي مصداقية للاستعمال الخاص والمتميز للغة في الأدب والشعر، وهو
مالم يحسنه كثيرٌ من شعراء الجيل الجديد.
وقد تمثلت هذه الانزياحات بالتراكيب التي ألفها الشاعر من خلال مزجه لكلمتين
غير مستخدمتين في هذا الغرض أو التركيب من قبل، كما في قوله:
اللهَ مِن أرقِ الحروفِ إذا أتت ** نحوي تجرُّ السجعَ والإطنابا
فتركتني فرداً بمفترقِ الأسى ** أجتازُ غاباً كي أصارعَ غابا
فابسطْ يراعَ الشوقِ يا علمَ الهوى ** إنّي بسطتُ لراحتيكَ كتابا
انزياحات جديدة ومدلولات موفقة، فهو يجعل للحروف الجامدة بعد إضافتها
للأرق مدلولاً جديداً أنسنها وجعلَ لها خاصية الإنسان مِن الحياة والحراك. فيما جعل
للأسى طرقاً كثيرة وأوقف نفسه بعد أبيه في مفترقها (بمفترقِ الأسى) ليزيد مُهيمِنة
النص قوةً على قوة. وليُثبِت لنفسه قبل الآخرين أنّ الأسى والحزن قد استوطنه حين
أوقفه موتُ أبيه على مفترق الأسى لا يدري أين يسير وأيَّ وجهة يقصد؟!
وزاد من قوة دلالة التركيب السابق وثبوت مهيمنة النص الذي هو (الحزن) قوله:
ن اجتيازَ الغابِ مخاطرةٌ، كونه مسكوناً بالأفاعي
ّ
(أجتازُ غاباً كي أقارعَ غابا)، ومعروفٌ أ
والوحوش، ناهيك عن شدة الخوف التي تتملك مَن يحاولُ اجتيازَه نتيجة جهله له.
إضافة إلى أنّ مَن يتجاوزُ الغابَ لا يتجاوزه إلا لضرورة، وإلا فالغالب أن يتركه، أما إذا زاد
على ذلك وقارعَه كما في آخر البيت (أقارع غابا) فإنه يثبت وبقوة أنه مضطر لاجتياز
هذا الغاب ومقارعته لأنه يخشى أن يفترسه، لهذا يتوجه بفعل الأمر الذي أتى بصيغة
الدعاء والتوسل ولكن ليس على الحقيقة لأن الميت لا يجيب، وهو ما يعرفه الشاعر
وأحسن نداءه بطلبه أن يبسط له والده (يراع الشوق) ويراع الشوق غير محسوس أو
موجود مثلما والده غير موجود.

قد يعجبك ايضا