الفن القصصي.. ككائن حي..¿

المقالح عبدالكريم


المواصفات والمقاييس تجدها في كل شيء.. إلا في الأدب والفن..!
العمل المبدع هو الذي ينسق كل المواصفات المتعارف عليها.. ليفرض صيغته الخاصة به..!
مواصفات الفن القصصي.. لم تخلق من قبل الرواية.. لكن تم استنباطها مما أبدعه الأدباء الكبار..!!

-1-
منخذل الخطو.. خائب الروح.. في تثاقل قائد مهزوم يسير مترنحا شاردا فكره.. فقاعات المرارة قعره.. تتطاير.. تصل إلى حلقه تنفجر باسا وحسرة..!
خناجر لامعة كاوية تنبت داخله.. تدميه.. تحرقه.. يرنو بعيون تقطر خيبة وهوان.. في كفه يمسك أوراقه.. شهادة وفاته..دليل فشله.. برهان خسرانه..!
فجيعته أنه التزم الصمت.. أثناء سماعه الحكم القاطع والحازم.. الحكم النهائي الصادر على قصته..!!¿
-2-
نظر إليه من خلف نظارته المعلقة على طرف أنفه.. وهتف ببرود بطيء.. يليق بدوق انجليزي.. لا بمحرر ثقافي في تلك الصحيفة..
– يؤسفني ياصديقي إخبارك أن قصتك هذه غير صالحة للنشر.. إذ ليس فيها من مقاييس ومواصفات الفن القصصي شيء.. كما أنها مخلوق هجين.. لا هي قصة ولا هي خاطرة.. ولا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تكون هذه أو تلك.. إن الذي……
-3-
محاضرته كانت طويلة سمجة.. قاطعها ناهضا يغادر.. في عينيه يقدح شرر كره بريء.. كره شفاف لا حقد فيه أو غل أو مقت.. لملم نفسه وخرج والمحرر الثقافي يناديه أن يرجع.. لكنه لم يفعل..
ماذا يرجع..¿¿! أليفجر بركانه المكبوت في وجهه..¿¿!!
لقد كتم عبارة مدوية.. كان يريد إنزالها على رأسه كالصاعقة:
– ألم تسمع أو تقرأ ما قاله رائد مسرح اللا معقول ” يوجين يونسكو”: (المشكلة في معظم النقاد أنهم يريدون أن يلتزم الفنان بقوانين مسبقة من اختراعهم..!¿
لكن كتم انفعاله وجرجر أذيال تعبه وذله وغادر..!
-4-
وها هي كلمات أذى في أعماقه.. يسمعها كطبول وحشية الصدى في ساح قبيلة من أكله لحوم البشر.. يحيلون طقوسهم¿¿!
يسمعها الآن.. كل الكلمات الهادرة التي كان يريد أن يدافع بها عن نفسه.. أصغى لإدعاءات المحرر الثقافي بخصوص التهمة الموجهة إلى أدبه.. ورغبة غامضة تدغدغه أن يدافع عن نفسه.. فلم يفعل خشية ذهاب كل ذلك سدى.. فلن يفهمه.. ثم هل كان سيكلف نفسه عناء الانصات لوجهة نظر أديب صغير.. لا زال على بعد ميل من أول خطوة في مشوار الألف ميل.. في درب الأدب الطويل..¿¿!
كان يريد أن يرد عليه.. أن يدحض حجته الواهية.. بشاهد إثبات قوي.. لا يقبل نقاشا.. أو حتى مجرد إعادة النظر فيه..!!
-5-
ألا يعرف هذا المحرر أو سواه.. أنهم يمسخون الأدب حين يحنطونه في قوالب حديدية جامدة محددة .. حين يطلبون من الكاتب أن يسكب أفكاره فيها ..!!¿
المواصفات والمقاييس تجدها في كل شيء .. إلا في الأدب والفن ..!
هناك مواصفات ثابتة ومعايير محددة لإعداد مركب كيميائي معين ..يلتزم بها كل العلماء في كل مختبرات العالم.. في موسكو .. في بومباي .. في لندن .. في نيويورك . هناك خطوات ثابتة متسلسلة لإنتاج محلول ما..فلكي نحضر الماء في المعمل .. لابد من نسبة معينة من غازي الأوكسجين والهيدروجين .. وفق معادلة واحدة عند أي كيميائي في أي مكان..
أوكسجين + هيدروجين = ماء
O2+H2?H2O
ولا يمكن لأي كيميائي _ مهما كانت درجته العلمية – أن يحضر الماء معمليا إلا بهذه الطريقة .. تبعا للقوانين الكيميائية المعروفة والمتداولة عالميا, فماذا حين نطلب من روائي أن تكون قصته مستوفية متسلسلة العناصر العامة من : فكرة + حدث + شخوص + زمان ومكان + عقدة + نهاية.. وإلا ضربنا بنتاجه عرض الحائط..
ميخائيل نعيمة .. الأديب والناقد .. حدد المقاييس .. أو الحاجات الروحية التي يجب أن نقيس بها الأدب .. في أربع نقاط:
1 الحاجة إلى التعبير والإفصاح عن عالمنا النفسي.
2 الحاجة إلى نور الحقيقة.
3 الحاجة إلى الجمال.
4 الحاجة إلى الموسيقى.
-6-
الكائن الصغير الغاضب “مشروع أديب” كان يريد أن يتفجر في وجه المحرر الثقافي بهذه الكلمات كقنبلة نابالم حارقة.. كان يريد أن يصرخ:
– إذا كنت تريد المزيد من المواصفات فابحث عنها تجدها في كتب تعليم فن الطبخ المعاصر أما في الأدب – وهو مطلب عسير – فالعمل المبدع هو الذي ينسف كل المواصفات المتعارف عليها ليفرض صيغته الجديدة الخاصة به. وليست نهائية كوشم لا يمحى والكاتب المبدع هو الذي يضيف إلى ما سبق دونما خوف ويحاول باستمرار تجاوز نفسه وسواه ليقدم ابداعا جديدا يخلد أجيالا وأجيالا.
وكان سيضرب أمثلة على صحة دعواه.. لكن المحرر الموظف لن يفهمه.. فهو كالخياط يقيس كل قطعة قماش بالمتر.. ويفصل الثياب بالمتر أيضا..
-7-
لن يفهمه لذا احتفظ بمهذار هذيان

قد يعجبك ايضا