البرق

وجدي الأهدل


خرجت سلطانة وخيزران لجمع العلف وهما عائدتان هطل المطر بغزارة فاحتمتا في غار على طريقهما. وضعتا العلف في ركن جاف وقعدتا على جلمود أسود فيه حبيبات براقة. مددتا قدميهما الحافيتين وراحتا تتجاذبان أطراف الحديث وهما تمتعان بصرهما بمنظر الجبال المكسوة بالخضرة.. توقفتا عن الكلام حين ظهرت أمامهما ظبية مع رشئها الظبية وقفت أمامهما غير آبهة بالمحافظة على المسافة المطلوبة للأمان لم تضرب حسابا للمحاذير ومن مكانها القريب كانت تنظر إليهما بعينيها الجميلتين بتركيز غريب. النظرة التي تشبه إنذارا جعلت الدم يتجمد في عروق الفتاتين حتى أن سلطانة لم تتمالك نفسها من القول: “مالها تنظر إلينا هكذا.. هل سنموت¿”. ولم ترد الأخرى على تساؤلها بل لزمت الصمت لأن الذعر كان قد عقد لسانها. توارت الظبية وصغيرها بين الأحراش بينما الغيوم السود تمطر وابلا عاتيا كأمواج البحر. سمعتا صوت طائر لم يسبق لهما أن سمعتاه من قبل تساءلتا في نفسيهما هل كان طائرا¿¿ ليستا متأكدتين. ثم بغتة ضربهما البرق نزل رأسيا وقلبهما على بطنيهما ومزق الجلمود الأسود وحوله إلى شبارق وأحرق العلف حتى صار رمادا. رأى الكثيرون نزول الصاعقة فخرجوا بعد توقف المطر لتفقد آثارها. عثر عليهما شبه ميتتين فقام القرويون بإسعافهما. لقد نجتا وعادت الروح التي انفصلت عنهما لفترة وجيزة إلى جسديهما. ولكن البرق أحدث في جسديهما ضررا أشد من الموت: شقهما نصفين من الخاصرة ونقل النصف الأسفل لسلطانة السمراء إلى خيزران ونقل قدمي خيزران البيضاوين وحوضها إلى سلطانة.
حين اكتشف زوجاهما الأمر – وهما شقيقان – وقعا في حيرة عظيمة ولم يلمساهما وذهبا إلى القاضي وعرضا عليه المسألة فأفتى القاضي بأنهما – سلطانة وخيزران – قد صارتا محرمتان عليهما لأنه لا يجوز في الشريعة أن ينكح الرجل زوجة أخيه وفي حالتهما اعتبر القاضي أن وجود نصف من جسم زوجة الأخ في جسم زوجة الأخ الآخر كالكل ولذا طلب تفريق الأخوين عن زوجتيهما ونصحهما بالتعجيل بطلاقهما. دب الصراخ والعويل في بيت الأخوين – شيعان وسنان- وناحت نساء القرية كلها حين علمن بالخبر. بدا وكأن أعمدة الدار قد تداعت وهوى السقف فوق رؤوس الكبار والصغار حتى الأبقار والغنم في الطابق السفلي جافاها النوم وصدرت عنها ضجة تنبئ بمشاركتها الوجدانية في المناحة.
رحلت سلطانة إلى قريتها المضطجعة على ساحل البحر الأحمر وأمضت أوقاتها ساهمة عند الشاطئ تراقب قوارب الصيادين تروح وتجيء في عرض البحر. وكذلك خيزران رحلت إلى قريتها التي تقع في قمة جبلية شاهقة تعانق السحاب وتعشش فيها النسور.
تزوجت سلطانة من الأخ الأصغر (سنان) قبل عام وحين ضربها البرق كانت حاملا في الشهر السادس لكن حركة الجنين في أحشائها دللت على أنه لم يلحقه الأذى. الأخ الأكبر (شيعان) تزوج الأولى ثم طلقها لأنها لم تنجب ثم تزوج الثانية وطلقها لنفس السبب وكذلك فعل بزوجته الثالثة ثم تزوج خيزران التي أنجبت له ثلاثة أبناء ولما ضربها البرق كانت بوادر الوحام قد ظهرت عليها.
أسودت الدنيا في عيني الشقيقين وأثقل الحزن قلبيهما. ثم دلهما قريب لهما على رجل صالح متصوف له خوارق وكرامات يعرف باسم (صائم الدهر) وقال إن مشكلتهما لن تستعص عليه فسعيا إليه محملين بالهدايا وحين قابلاه بركا عند قدميه وترجياه أن يكشف الضيق الذي وقع عليهما. طلب (صائم الدهر) إمهاله ثلاثة أيام ثم احتجب في خلوة لا يدخل عليه أحد وفي اليوم الرابع خرج من خلوته وقال لهما: “أنتما صيادان¿”. رد شيعان: “نحن فلاحان ولكن إذا فرغنا من أشغالنا ننزل إلى الأودية لنصطاد الظباء”. قال صائم الدهر: “توقفا عن صيد الظباء البتة”. قال شيعان: “نفعل إن شاء الله”. تابع صائم الدهر: “وعليكما كفارة”. قال سنان وقد انعقد حاجباه: “ولماذا الكفارة.. هل صيد الظباء محرم¿¿”. تجاهل صائم الدهر اعتراض الأخ الأصغر وقال: “على كل واحد منكما أن يطعم ستين مسكينا.. افعلوا ما أمرتكم به ثم ارجعوا إلي” ثم مضى ولم يزد حرفا. التزم الشقيقان بكلام الرجل الصالح فامتنعا عن صيد الظباء وأطعما مائة وعشرين مسكينا ثم عادا إليه والأمل يحدوهما بقرب الفرج. احتجب صائم الدهر مرة أخرى في خلوة مدتها ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع خرج للقائهما بوجه بشوش وقال: “الأمان في الأرض والرضا من السماء”. لم يفهما مقصده فلزما الصمت. سها صائم الدهر برهة ثم تابع قائلا: “عليكما إحضار زوجتيكما إلى نفس الموضع في اليوم ذاته من العام القادم اتركاهما لوحدهما ولسوف يرد البرق بمشيئة الله لكل واحدة اللحم والعظم الذي يخصها”. لاحت تباشير الفرح على محيا الشقيقين. قال شيعان: “نذر علي إذا تم الأمر كما تقول كسوة عشرة أيتام وإطعام ستين مسكينا”. ونذر سنان كنذر أخيه.
وضعت سلطانة مولودها البكر وكان ذكرا سمته (جيلان). وبعدها بخمسة أشه

قد يعجبك ايضا