أي مشعل للفكر قد انطفأ..!!
سامي عطا
منذ أن توفي المفكر المغربي البارز محمد عابد الجابري يوم الاثنين 3|مايو2010م في مدينة الدار البيضاء عن عمر ناهز 75 عاما ولم يستطع أي مفكر أن يملأ فراغ الساحة الفكرية العربية بذلك الوهج الذي أشتهر به, ولقد أشتهر الجابري بسلسلة كتبه النقدية, التي تضمنت أطاريح مثيرة للخلاف عن العقل العربي وتراثه الفلسفي.
أستهل حياته العامة في خمسينيات القرن العشرين مناضلا جسورا ضد الاستعمار الفرنسي للمغرب, وكان أحد أبرز قيادات حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية, ثم أعتزل العمل السياسي متفرغا للعمل الأكاديمي.
نشر العديد من المؤلفات منها :العصبية والدولة.. معالم نظرية خلدونية في التاريخالعربي الإسلامي(1971م)أضواء على مشاكل التعليم بالمغرب(1973م) مدخل إلى فلسفة العلوم(1976م) في جزءين. من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية(1977م)نحن والتراث.. قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي (1980م)الخطاب العربي المعاصر(1982م)تكوين العقل العربي(1982م)بنية العقل العربي(1986م)إشكاليات الفكر العربي المعاصر(1989م)العقل السياسي العربي(1990م)التراث والحداثة(1991م)العقل الأخلاقي العربي(2001م). كما أصدر عددا من المؤلفات حول القرآن الكريم” مدخل إلى القرآن”,و” معرفة القرآن الحكيم أو التفسير الواضح حسب أسباب النزول” ( في ثلاثة أقسام).
شكلت هزيمة العرب في حزيران 67 م, لحظة فارقة في حياة العرب على كل المستويات, السياسية والاقتصادية والاجتماعية, ولم يكن المجال الفكري بمنأ عن ذلك. إذ مثلت الهزيمة, بداية نكوص وتراجع مشروع اليسار العربي برمته. لقد بدأ العد التنازلي له. منذئذ أنقلب المشهد على مختلف الأصعدة, باتجاه تكريس ثقافة دينية أصولية, ذات أبعاد سلفية ترتكن إلى الماضي, وتحاول تأصيلها في بنية المجتمع العربي المعاصر, و تحول صراع العرب من كونه صراعا من أجل الوجود واستمراره إلى صراع بحثا عن هوية ضائعة وفردوس مفقود.
ترافق ذلك كله, مع حقبة الطفرة النفطية فلم تأت هذه الطفرة, إلا وبالا على العرب ومستقبلهم إذ حكمت عليهم بشلل رعاش أبقاهم تحت الإعاقة الدائمة يبدو أن النفط, عوضا عن أن يكون عاملا مساعدا لأحداث نهضة, أضحى عاملا معيقا وكابحا لها إذ حكمت الطفرة النفطية على العرب البقاء في حالة إعاقة دائمة, وكان الشاعر الفرنسي المقاوم جان جينيه ـ أنظر مقابلة مع محمد بينيس مجلة الكرمل يوليوـ سبتمبر83م ـ محقا, عندما قال ” سيظل تاريخكم نزيفا من الدماء, حتى تنضب آخر قطرة نفط”. بات مؤكدا, أن العرب يصرون على البقاء خارج التاريخ فأضحت طفرة النفط لعنة ونقمة على العرب ومستقبلهم. تكرست التبعية على كل المستويات, لم تنحصر هذه التبعية في الإطار السياسي والاقتصادي, بل تعدتهما إلى الإطار الفكري. هذا المناخ السبعيني ولد ظاهرة هروب المثقفين من واقعهم إلى اليوتوبيات والبحث عن مشاريع للخلاص.
في ظروف كهذه, نشأت مشاريع فكرية عديدة ( حضرت الشعارات وغاب الإنسان فيها أو غيöب), اتجهت جميعها تنقد التراث, وتبحث عن حلول من الماضي لمعالجة تخلف الحاضر, وإن اختلفت حلولها, إلا أنها اتفقت جميعا, بأنها حلول تستمد من الماضي, حلولتمجد الماضي على حساب الحاضر والمستقبل, وخلال العشرين سنة التي تلت الهزيمة, ظهر غير مفكر من أصحاب المشاريع الفكرية الكبيرة أو الداعين إلى ضرورة قراءة التراث وعصرنته. وعلى أساس من ذلك ظهر مشروع د.حسين مروة الضخم ” النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” ومشروع د. الطيب تيزيني ” مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط” وأتبعه “من التراث إلى الثورة”, ومشروع د. حسن حنفي ” من العقيدة إلى الثورة”. ولقد كان الجابري محقا, في نقده للمشاريع جميعها اليسارية والقومية والأصولية, فاليساريون بدلا من تطبيق المنهج الجدلي المادي على المشكلات التراثية, جعلوا من النظرية المادية الجدلية, نظرية يتم قياس ومطابقة مشكلات التراث عليها, أي أضحت النظرية كـ “سرير بروكرست”. ولم يسلم مشروع الجابري من الوقوع في نفس الفخ.
في مناخ كهذا, ينضح بعدد من المشاريع الفكرية الكبيرة, جاء مشروع الجابري مشروعا للخلاص فأراد أن ينظف “إسطبلات أوجياس “( إسطبلات خيول في أثينا تراكمت فيها الأوساخ ,ولم يتم تنظيفها لفترة طويلة, حتى جاء هرقل ونظفها, وهي كناية تستخدم, لكل محاولة تهدف إلى تأسيس شيء على أسس جديدة). أن فلسفة الجابري ما برحت تؤكد أنه” من المفيد أن نضع علامات استفهام بين الحين والآخر على الأمور المسلم بها” (برتراند راسل).
هذا المناخ أوج