مدن متمردة
< من المهام الأساسية التي وضعها الجغرافيون أمامهم هناك اكتشاف العالم. لكن الجغرافي الانجليزي دافيد هارفي اعتبر أنه على الجغرافي أن يبحث أولا عن كيفية تغيير العالم. وأولى أهمية خاصة لدراسة المدن ذلك على أساس أنها موقع تجمع بشري هائل ومن هنا تملك رأس مال بشريا هائلا ويمكنه أن يلعب دورا مركزيا في عملية التغيير. خاصة وأنه يرى أن المدن تمتلك الجزء الأساسي من القوى الحية للتغيير الاجتماعي. ويكرس هذا الجغرافي كتابه الحديث لما سماه: «المدن المتمردة».
نجد أن المؤلف يضع المدينة في الكتاب ضمن قلب الصراع الذي عرفته المجتمعات الحديثة في ما بعد الصناعية. وذلك من خلال كونها المحرك الأساسي لرأس المال ولأنها مجال التباين الاجتماعي الذي يمكن أن يولد الصراعات ذات الطابع الطبقي. لا شك أن الكثير من الكتاب قدموا نصوصا عن المدن نالت شهرة كبيرة.
وخصوا بها فنها المعماري وبعدها العمراني وطرق تنظيمها وكيفية توزيع المقاعد في حدائقها العامة بحيث لا تشجع على النوم كما كتب مايك دينيس. فإن أعمالا كثيرة عرفتها رفوف المكتبات عن البندقية وباريس ولندن وغيرها من مدن العالم. ولكن مؤلف الكتاب دافيد هارفي يتعرض لموضوع المدينة من خلال طبيعتها الحديثة وخاصة من خلال دورها في صياغة معالم العالم القائم.
ومن الأدوار الأساسية التي يؤكد عليها المؤلف بالنسبة للمدينة الحديثة دورها الاقتصادي إذ يضعها في قلب خلق رأس المال وفي الدورة الاستهلاكية لبلدانها. ويؤكد في هذا السياق على أن المدن ساهمت في مسارها التطوري بتحويل قسم كبير من الفئات الفلاحية الريفية إلى فئات عمالية. وذلك من خلال عملية الهجرات الداخلية من الأرياف إلى المدن.
ويرى مؤلف الكتاب أنه ينبغي البحث عن دور المدن في الثورات الصناعية السابقة وكذلك عن دورها في تعاظم ظاهرة الهجرة من الأرياف إلى المدن في البلدان الصاعدة وعلى رأسها الصين والهند. وهكذا استقبلت مدينة شنغهاي مئات الآلاف من الذين وفدوا إليها من الأرياف القريبة والبعيدة فتشكلت فيها أحياء قد تكون بؤرة لتمردات قادمة.
إن دافيد هارفي يولي الكثير من الأهمية في تحليلات هذا الكتاب إلى مسألة ما يسمى بـ»الأحياء القصديرية» في ضواحي عدد من المدن الأكثر سكانا في العالم. وهذه الأحياء تشهد أكثر فأكثر كما يشرح قدوم رجال الشرطة وأحيانا عناصر الجيش وخلفهم آلات الهدم «بلدوزرات» لإنهائها.
ولكن في حالات أخرى منحت سلطات البلدان المعنية لأصحاب الشأن حق البقاء في أحيائهم بل وقدمت تسهيلات كبيرة كي يصبحوا مالكين لبيوتهم. وفي كل الحالات يتم النظر إلى البشر الذين يعيشون في مثل هذه الأحياء أنهم على هامش عالم الرأسمالية الاحتكارية وليس لهم أي دور يذكر في الأسواق المالية. وهؤلاء البشر بالتحديد يجد فيهم المؤلف نواة للتمرد على غرار ما فعلته كومونة باريس في عام 1871م.
ويتوقف المؤلف عند الفيلم السينمائي المعروف بعنوان «ملح الأرض» الذي يتحدث عن عالم العمل والعمال ونقاباتهم. ويشير في هذا السياق الى أهمية عاملين أساسيين في تنمية الوعي لدى أبناء الأحياء الهامشية والمهمشة في حياة المدن. هذان العاملان هما: التربية حراسة الأطفال. ويشدد أيضا على أن السكن والتغذية يتجاوزان كثيرا حدود كونهما اهتمامات ثانوية.
وذلك على أساس أنهما يمكن أن يخدما كوسيلة في يد النظام الرأسمالي وذلك في ما يتعلق بالرقابة على عالم العمل. وعلى قاعدة تأكيد المؤلف أن التاريخ يتضمن باستمرار البعد الاقتصادي يرى أن المدن قد لعبت دورا مهما في الاقتصاد.
وبالتالي هي تلعب دورا حيويا في التاريخ. وهذا ما تؤكده بامتياز «السوابق التاريخية» كما يقول. ويحذر في هذا الإطار من أنه لا ينبغي القيام بمحاولات استخدام الأوضاع الصعبة لشرائح واسعة من سكان المدن في اتجاه زيادة مكاسب الأسواق المالية في ظل النظام الليبرالي الجديد السائد.
إن الكتاب يمثل وفي أحد وجوهه دراسة لواقع التداخل بين الرأسمالية ودور المدن خلال مسار تطورها في تاريخ مجتمعاتها. ويحاول المؤلف شرح وجود علاقة بين الأزمة المالية العالمية التي تفجرت في خريف عام 2008 وفي صعود الاحتجاجات المدنية في مصر واليونان ونيويورك وغيرها. ويؤكد أن الطريقة التي تم فيها خلق مجالات مدنية عبر أنماط متميزة لتكدس رأس المال جعلت من المدن المعنية بؤرا للتعبئة السياسية وللنزاعات باعتبار أن لها دورا في خلق رؤوس الأموال وفي حركتها.
الكتاب: مدن متمردة.. من حق المدينة إلى الثورة العمرانية – تأليف: دافيد هارفي – الناشر: فيرسو بوك- لندن 2012 – الصفحات: 112 صفحة – القطع: المتوسط.