القضية الفلسطينية جرح إنساني نازف. هذه القضية التي جنى عليها ساستها من أبناء الأرض.. وجنى عليها الساسة العرب وخاصة أصحاب القرار. كما شارك العالم بأسره في استمرارها.
منذ نعومة أظافري أو بالأحرى منذ الوعي الأول على وجه البسيطة وأين ما وليت تحاصرنا دماء وتضحيات شعب فلسطين الجبار.. وتضج فيِ جرائم ودسائس الآخر فيه وفي أرضه.. هي كثيرة جرائم المحتل لكنا لو وقفنا فقط على جريمة مذبحة صبرا وشاتلا لكفت لتكون سببا في أن يقف العالم بشرقه وغربه وشماله وجنوبه كي يناصر هذا الشعب ويحل قضيته وإنشاء دولته.
اليوم تتسارع أحداث العالم.. وتتغير التوجهات.. وتشتعل في معظم أقطارنا العربية حرائق لا يعرف نهايتها.. والحبل على الجرار. وفيما يدور في أقطارنا العربية لا أحبذ نظرية المؤامرة التي تصورنا مجتمعات قطيعية.. وفي الوقت الذي يروج لها من يعيثوا ويفسدون بطغيانهم فينا بغرض إسقاط جرائمكم تلك وعمن يجرمون في شعوبنا بدرجات متفاوتة.. أتحدث هنا كأديب تسيره أخلاق ومبادئ العدالة والمساواة وقيم الخير والحرية.. لأن تلك النظرية التي تزيل عنهم قبح أقترفوه في حقنا وحق شعوبنا.. وهم بذلك يروجونها لتخلى المسؤولية عنهم فيما مارسوه من تدمير لمجتمعاتنا بترسيخ تلك النظرية وتحميل دوائر القرار في شعوب أخرى مسؤولية ما يدور.. وإن كانت تلك الدوائر تشارك في تدميرنا لكن عبر من بيدهم التسلط علينا.
من نتائج تلك الحرائق التي تزداد مساحتها في أقطرانا العربية أن تحولت قضية فلسطين من قضية مركزية إلى قضية من الدرجة الخامسة أو الثالثة والثانية .. نتيجة لذرائع كل مشغول بحرائق بيته.
إلا أن أبناء فلسطين وخاصة الأدباء والإعلاميون دوما ما يضعون المجتمعات العربية أمام مسؤولياتهم.. أدباء ومبدعون سموا بقضيتهم وعاشوا من أجلها.. بل هي الأكسجين الذي يتنفسونه. ولذلك كانوا ولا يزالون ضمير أمتهم. والبوصلة التي تعيد الجميع إلى الاتجاه الصحيح. ومنهم دكتور يوسف حطيني الذي ينشط مشاركا فاعلا في المحافل الإدبية.. وكذلك من خلال نتاجه الغزير والمتنوع في سبيل القضية الفلسطينية.. وقضايا أمته. واليوم بين يدينا أحد إصدارته التي تجاوزت العشرين إصدارا.. تنوعت بين النقد والشعر والسرد والمسرح والفكر. وهذا الإصدار النوعي في مجال القصة القصيرة جدا وهي بعنوان “جمل المحامل” صادرة عن دار الوطن بالرباط 2013م. والتي احتوت على المائة نص نوعي.
تتمحور جميع نصوص هذه المجموعة حول الإنسان الفلسطيني.. فكره .. كفاحه.. أرضه.. تطلعاته.. نظرته لكل ما يدور حوله.. وقضيته التي هي قضية كل إنسان عربي حر. حطيني يتناولها في نصوصه من منظور مثقف إنساني . ويمكننا أن نميز الكثير من نصوص هذه المجموعة التي تناجي من خلال القضية الفلسطينية قضايا إنسانية .. وتناهض الظلم والتسلط . ونورد نصين من نصوص المجموعة كأمثلة لتلك النصوص التي تدور حول قضايا التحرر الإنسانية في القارات الخمس.. ومنها نص بعنوان مصير الأمواج: وقفت على شاطئ البحر تأكلني أنياب الغربة, رأيت على بعد مئات الأمتار موجة عالية متلاطمة, لاحظت أنها كانت تضعف كلما اقتربت, وعند أقدام الشاطئ تلفظ أنفاسها, تذكرت آنئذُ موجه عاتية هبت على شاطئ الوطن.
النص الثاني بعنوان الثورة: وضع خوذته الكبيرة فوق صدر المدينة, اختنق الناس والعصافير والأزهار.. نبتة صغيرة ظهرت استطاعت أن تصنع ماءها وهواءها ..أن تكبر وتقلب الخوذة رأسا على عقب. كان الجنرال منزعجاٍ جداٍ حين شاهد, رغم أنفه, تحولت الخوذة إلى عش للعصافير الملونة.
هذه النصوص وغيرها تعبر عن أمل الإنسانية وتطلعاتها نحو العدل والحرية والعدالة.. فهاهو الأمل يزهر وقد وقف الشريد من وطنه متأملا حركة موج البحر.. متذكرا وطنه وطغيان المحتل.. ليبتسم الأمل حين يرى تحطم الأمواج التي تبدأ عاتية لتذوي وتموت على صخور الشاطئ.. رمزية دقيقة ومعبرة لنهاية طاغية أو طغيان. وفي النص الثاني ينسج لنا الكاتب مشهد لنبتة صغيرة تتغلب على خوذة حديدة لضابط متجبر.. تصارع لتعيش عكس رغبة الطغيان والأعمال العسكرية وتسلط الاحتلال ووأد آمال الشعوب.. لتحيل رمز القاتل المدمر إلى أعشاش عصافير.. دلالة على انتصار الحياة على أنقض التسلط والقوة. أن يأتي الأمل بحياة أروع وأجمل من أصغر وأرق الكائنات .. وهو إيحاء وإشارة لفعل أطفال الحجارة.. ومن يقذفون الحجارة في وجه الباطل في فلسطين وأنحاء الأرض.
وإذا كان الكاتب قد حلق بنا من خلال نصوصه إلى آفاق إنسانية .. فإن منطلقه وقاعدة إبداعه هو شعب فلسطين.. ومن أجل ذلك يجد القارئ وهو ينتقل من نص إلى آخر بأن حطيني يْعرفه إلى إنسان فلسطين الداخل وأرض فلسطين وتفاصيل الهم النازف.. موردا أسماء لمدن ووديان وقرى في سياقات مدهشة .. مثل: حيفا.. يافا.. جنين.. بلد الشيخ.. العباسية.. عكا.. الخليل.. بيت حانون.. قرية أبو ديس.. كفر قاسم.. الشيخ بريك..يازور.. الرملة.. المجدل..رفح.. دير ياسين.. الكرمل… والعديد من أسماء وديان وجبال فلسطين.. وغيرها ضمن نسيج تلك النصوص ما يجعل المتلقي عن وعي يسير متجولا في أرض لشعب يلتصق بقضيته ويعمل على تحقيق شروق شمس العدالة.. وإزالة ليل الظلم والاحتلال. تلك المدن والقرى والوديان كثيرا ما سمعنا عنها وتابعنا أخبارها.. لكن كاتبنا هنا يقدمها في نصوص فارقة ومدهشة داعيا المتلقي إلى الإندماج في بيئة عبر نسيج نصوص فارقة .. ولم يوردها لمجرد ذكرها بل أوردها في سياقات دالة على عمق المأساة التي يعيشها شعب لأكثر من سبعة عقود.
ولم يكتف كاتبنا بتلك الأسماء وغيرها من مدن وقرى ووديان وجبال.. بل أنه أستدعى إيقونات في الأدب والسياسة والنضال .. كثيرا ما قرأنا لهم أشعارا وأدبا أو تابعنا أخبار نضالاتهم مثل: سميح القاسم.. درويش .. ناجي العلي.. غسان كنفاني.. أحمد ياسين.. عز الدين القسام.. محمد الدرة وغيرهم من الأسماء التي تأتي محملة بدلالات متعددة.. ومعان لا مجال لحصرها في هذا الحيز. بل أن الكاتب ذهب إلى ما هو أشمل في توظيف شخصيات تاريخية وإبداعية تنعش ذاكرة المتلقي وتجعل مخزونه الثقافي يتفاعل ليعيش أبعاد النص تاريخيا وفنيا وإنسانيا.. ومن تلك الشخصيات التي أوردها في نصوصه: فيروز وأغانيها حول فلسطين.. أمرئ القيس والتدليل بـ اليوم خمر وغدا صمت.. والسيدة العذراء وما تحمله من دلالات الطهر والتضحية .. أبي عبدالله الصغير وضياع الأندلس .. الشافعي وإرثه العظيم.. عشتار رمز الربوبية الفارقة.. سيزيف وصخرته.. طارق ابن زياد وحرق المراكب..أمل دنقل وابو ليل المهللة ولا تصالح.. صبرى وشاتيلا جريمة في ظمير الإنسانية.. خارطة الطريق.. بلفور ووعده المشؤوم.. النبي يوسف .. شهرزاد… كل تلك الأسماء وغيرها أثرت نص المجموعة ووسعت من أفق التلقي ليتحول كل نص إلى فضاء تغمره الدلالات وسياقات التخييل.. لتدفع بوعي المتلقي إلى إنجاز نصه الذهني الموازي من واقع ما تحمله تلك الشخصيات من دلالات ومعاني تاريخية . إضافة إلى أن المتلقي يستحضر من تاريخ تلك الأسماء أحداث تاريخية موازية ومعاني قيمية وظفها الكاتب في نصوصه ناهلا من ثقافة موسوعية يمتلكها في سبيل تقريب المعنى إلى ذهن المتلقي .. وجعله في متن القضية الفلسطينية إنسانيا.
ولم يكتف باستدعاء تلك الشخصيات بل أن الكاتب حشد العديد من الجمل ذات الحمولة والدلالات العميقة.. نورد على سبيل التقريب بعضها: سنرجع يوما خبرني العندليب. كيف نكلم من كان في المهد صبيا. معاذ الله. يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم. اليوم خمرا. بقرة عجفاء تأكل عشرين بقرة سمان. ابك مثل النساء ملكا مضاع لم تحافظ عليه مثل الرجال. لا تصالح. إنا نبشرك بغلام. الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان. إنا هنا باقون. ما تظنوا إني فاعل بكم. أخ كريم وابن أخ كريم.
تلك الجمل وغيرها حين طعم بها عدة نصوص ضمن سياقات هادفة أثرت تلك النصوص بما يريد حطيني إيصاله من معنا.. بل أن بعضها حمل معان شتى.. ما يساعد القارئ على استبطان النص واستحضار أحداث تاريخية من خلال تلك الجمل بما يثري المعنى ويخدم الغاية التي يدلل عليها النص.
وهكذا نجد أن الكاتب في العديد من نصوص المجموعة يستدعي التاريخ من خلال شخصيات كان لها حضور وأثر ترسخت في الوجدان.. ليوظفها في سبيل إيصال الفكرة بشكل أعمق إلى وجدان المتلقي. ما يدفع ذهنه ووعيه إلى خلق نصه الموازي وفق ما تحمله تلك الجمل المستدعاة. موردا أقاويل ونصوص ترقى بالنص إلى مستوى فني وموضوعي عال.
مقدما نصوص مجموعته كمشاهد مسرحية مكتملة.. كما أن بعضها جاء به في إطار لقطات سينمائية كاملة.. وأخرى أقرب إلى لوحات تشكيلية. مستفيدا من فنون عدة لإنجاز نصه.. وهكذا ندرك ما يمتلكه الكاتب من قدرات فنية عالية.
الكاتب أستطاع أن ينقل المتلقي إلى عبق روائح وألوان الأرض.. بل ولغة طيور وزهور فلسطين وفراشات وزغاريد نسائها.. فتلك نبتة الميرمية بشذى رائحتها.. والزعتر والزيتون وما تحفل به فلسطين من نباتات ومزروعات.
وأخيرا تذكرني نصوص هذه المجموعة برواية “زمن الخيول البيض” لإبراهيم نصرالله من الناحية الموضوعية.. حين تحاكم نصوصها ساسة فلسطينيون غرقوا في الفساد والحروب الداخلية التي ضيعت الكثير.. وكذلك إدانة للحكام العرب الذين ساوموا في صفقات سرية على حساب القضية..في سبيل ضمان مصالحهم واستمرار كراسيهم.. وكما هي تلك النصوص تشير إلى العرب تصرخ وتدين الضمير العالمي على صمته المريب.
نصوص هذه المجموع .. نصوص ذا بعد ثقافي ثري.. ترقى بوعي المتلقي.. يتجلى دكتور حطيني في هذه المجموعة كما هي جل أعماله من الروعة بمكان .. فشكراٍ لأروع نصوص وشكراٍ لأسلوب مكثف ومدهش.. بل نهمس للكاتب بأنك قد وضعتنا في عصف ذهني ممتع.. بعد أن شاركتنا بخلاصة خبرة تجربتك الإبداعية المتعددة لتقدم لنا نصوصا فارقة فنيا ثرية موضوعيا.. فشكرا لهذا المبدع والناقد العربي الكبير.