»أساطير الإنسان المنقذ«

تحتفظ كل أمة من الأمم في ذاكرتها الجماعية أسماء أولئك الذين كان لهم شأنهم في إعلاء كلمتها أو المساهمة في تحريرها الوطني أو تركوا بطريقة أو بأخرى بصماتهم على مسارها التاريخي. وتحت عنوان «الرجال المنقذون» يقدم المؤرخ والأستاذ الجامعي الفرنسي «جان غاريغ» كتابا يتحدث فيه عن «تاريخ تعلق الفرنسيين» ببعض الشخصيات الذين برزوا في بلادهم.
وبعد «تعريف» المؤلف لما يقصده بـ«المنقذ» يقوم بطرح عدد من الأسئلة مثل: ما هي مقومات شخصية المنقذ في مختلف الحقب التاريخية¿ وما هي الظروف وما هي الوسائل والخطاب والصورة المطلوبة من أجل أن يستطيع «المنقذ» فرض نفسه على الأمة كلها¿ وكيف يمكن بكل الأحوال مواجهة الرهانات الصعبة التي يفرضها الواقع. وكيف يمكن الاحتفاظ بصورة الأسئلة الأخرى التي تصب كلها في محاولة معرفة آلية اكتساب شخص ما صفة «المنقذ».
تتوزع الإجابة عن هذه الأسئلة في أربعة أقسام رئيسية يحمل الأول عنوان «الأمل» والثاني «اللجوء» والثالث «الصعود والهبوط» والقسم الأخير مكرس لـ«أساطير الإنسان المنقذ». يشرح المؤلف أن الجميع ينتظرون باستمرار «منقذا» وهو «يأتي غالبا في موعد غير منتظر» كما يقول.
ويسأل: من كان يراهن على الجنرال ديغول عام 1940¿ أي عندما أطلق صرخة المقاومة ضد الاحتلال النازي لفرنسا من الإذاعة البريطانية في شهر يونيو-حزيران من تلك السنة. كان الكثير من الفرنسيين يرون آنذاك بالمارشال بيتان الذي تعاون مع الاحتلال النازي صورة “المنقذ المحتمل”.
من الملاحظ أن المؤلف لا يقتصر في حديثه عن “المنقذين” على التاريخ الفرنسي وحده. هكذا ينقل مثلا عن “لويد جورج” رئيس وزراء بريطانيا عام 1920 قوله عندما عرف بـ«هزيمة جورج كلمنصو» في الانتخابات الرئاسية آنذاك ما مفاده: هذه المرة قام الفرنسيون بإحراق جان دارك” رمز المقاومة الفرنسية في زمن الاحتلال البريطاني.
إن شخصيه «المنقذ» مترسخة بقوة في البعد التاريخي للجمهورية الفرنسية منذ «نسختها» الأولى عام 1799 بعد الثورة الفرنسية وحتى نسختها الخامسة ابتداء من عام 1958 عندما أسسها الجنرال شارل ديغول ولا تزال قائمة حتى اليوم. وصفة «المنقذ» تأتي من كون أن المعني بها «يجنب» الفرنسيين عامة مذلة الهزيمة. هكذا أنقذهم ديغول عام 1940 وأنقذهم جورج كلمنصو عام 1917 وكان قد أنقذهم ليون غامبيتا عام 1871.
تتمثل إحدى السمات التي يؤكد عليها المؤلف في شخصية «المنقذ» في كون أنه مرتبط بـ«ذهنية الفرنسيين» الذين يميلون دائما إلى “تجسيد” مشاعرهم في شخص.
وسمة أخرى في غاية الأهمية يركز عليها المؤلف في تحليلاته وهي أن أولئك الذين جسدوا شخصية «المنقذ» في تاريخ فرنسا الحديثة لم يتحولوا أبدا إلى «مستبدين» على غرار هتلر وموسوليني. يبقى لصورة «المنقذ» شروط ينبغي أن تحققها. ويرسم المؤلف ملامحها في الجملة التالية:
«قد ينبغي على الإنسان المنقذ بامتياز أن يمتلك حيوية وتصميم بونابرت وبصيرة شارل ديغول واستقامة بيير مندس فرانس والحس الوطني لليون غامبيتا وربما جاذبية سيغولين روايال» أي الشريكة السابقة للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ومرشحة اليسار في الانتخابات الرئاسية لعام 2007.
من الملاحظات التي يؤكد عليها المؤلف بأشكال مختلفة في الصفحات الأخيرة من الكتاب إشارته الى أن صورة المنقذ اختفت بصورة شبه كاملة من المشهد الفرنسي الحالي. ولا يتردد في القول: «إن المنقذين اليوم لا يرتقون إلى مستوى سابقيهم (…) ومن المشروع التساؤل إذا كانت توجد اليوم شخصيات سياسية ترقى إلى مستوى نابليون أو ديغول».
«المنقذ» ليس تعبيرا فرنسيا بالحصر بل صورته موجودة في تاريخ الولايات المتحدة مع ابراهام لنكولن أو فرانكلين روزفلت وفي بريطانيا مع تشرشل عند بداية الحرب العالمية الثانية لكن يبقى اللجوء «المنهجي والمتكرر» للبحث عن شخصية «المنقذ» هو الذي يمثل “الخصوصية الفرنسية”.
ولا ينسى المؤلف أن يشير إلى أن الإنسان المنقذ الأول لدى الفرنسيين في تاريخهم الحديث هو امرأة بل فتاة شابة وهي جان دارك. 

قد يعجبك ايضا