النزوح إلى القرى.. فسúحة إجبارية لا تخلو من المنغصات

على مدى عشر سنوات لم يزر “عادل” قريته التي غادرها مع والده وعمره خمس سنوات ولم يكن يتوقع أن مسقط رأسه -الذي تسرِع والده وباعه ليكمل بناء بيته في العاصمة صنعاء- صار بكل ذكرياته الطفولية الجميلة بعيد المنال ولم يعد له أو لأسرته حتى وإن عاد “عادل” ووالده إلى القرية فلم يعد لهما منه سوى حق إسراج النظر وإشراقات الذكرى..
“عادل” الذي أصبح في الصف الثالث الثانوي- لحظة وصوله إلى القرية- تفاجأ بنتيجة كبوة والده في بيع المنزل كما تفاجأ بإجبارية العودة إلى القرية فلطالما اشتاق لمرابع الطفولة وصورها الفاتنة لكن عدم امتلاكه بيت فيها وهو ابنها وابن وريث أحد ملاكها الأصليين كان خنجراٍ يغرز ألمه ويقرع أجراس ندمه في خاصرة الشوق ويدمي كبد الذكريات.. تمنى “عادل” أن تطول به الطريق إلى ما لا نهاية فرغم أنه عائد إلى قريته ومرابع طفولته في سنواته الخمس الأولى من عمره ومنبع ذكرياته الجميلة.. إلا أن براكين الشوق مطفأة البهجة مكبلة البريق خلف حْجب المجهول الذي هو عائدَ إليه فهو ضيفَ مقيد بحكم المضيف مهما زخرف الآخرون الاحتفاء به..
البيت والقرية تغيرا تماماٍ تحت منشار عشر سنوات من الزمن فالبيت أضيف له دورين أما القرية فقد اتسعت وتطورت بعد وصول طريق السيارة إليها وأصبحت كمدينة صغيرة تزفها الجبال في حضرة المدرجات.. “لكن.. لـمِن..¿!!”.. فـ “عادل” غريب في مسقط رأسه كآلاف النازحين إلى القرى بعد أن تخلوا عن مساقط رؤوسهم.. إلى تفاصيل وقصص تحكي حال النازحين إلى القرى:

” ما أقسى هذه الظروف وما أمر نتائج عدم الأخذ بالحسبان الحفاظ على ملكية مسقط الرأس حتى الموت وما أشنع وأبشع ما يقوم به العدوان السعودي بحق الشعب اليمني ومقوماته الخدمية وموارده الاقتصادية والتنموية”.. يتنهد “عادل” –طالب الثانوية-تحت حصار هذا الحديث الداخلي إلى نفسه وتستدير به هذه العبارة مشعلة فيه وأبناء جيله نقمة لا يطفأها التقادم على عدوان التحالف العربي الشقيق اللدود وليس لكون العدوان قد تمادى في قتل الشعب اليمني وحاول عبثاٍ أن يقنع العقلاء بذرائع لا يصدقها المختلون عقلياٍ بشرعية هذا العدوان فحسب بل ولكون هذا الاستعلاء قد أزف زواله بعد أن عاث فساداٍ في الأرض وفتِناٍ بين المسلمين..
إلى إحدى قرى مديرية السلفية محافظة ريمة وصل “عادل” غير أنه نزل ضيفاٍ لدى القرية ولكن في مخيم مجاور لمنزل أحد أقاربه إلى جوار خيم لنازحين آخرين من أبناء القرية الذين قطعوا كل حبال الصلة بينهم وما يملكون من ورث فيها..  لقد فاضت بهم السبل من أبين وعدن وصنعاء والحديدة وتعز وصعدة وغيرها من المحافظات التي طالها العدوان السعودي.. وما “عادل” إلا نموذج للمئات ممن ركنوا إلى أمان الدهر في المدن فتخلوا عن مساقط رؤوسهم فتحولوا من مْلاك عقارات إلى القرى ضيوفاٍ على مشارفها في مخيمات كما هو حال “عادل”..
قرار العودة
في قاعة الدور الأرضي لسكني في حي الزراعة كنت أغط في نومُ عميق-.. الساعة تقترب من الثانية عشرة من ظهيرة يوم الاثنين 20 إبريل الماضي حيث لا دوام وظيفي في ظل الحرب.. فجأة شعرت بقاعة الغرفة تهتز من تحتي كلوح خشبي “لينُ”.. فزعت من النوم على انفجار ضخم تبع ذلك الاهتزاز بأقل من ثانيتين.. انفتحت على غراره نوافذ وباب الغرفة وكذلك الغرف الأخرى لقد حدثت جلبة مخيفة في البيت.. ما جعلني اعتقد أن الانفجار على بعد 300 متر من مكاني.. هرعت إلى الضفة الغربية من شارع الزراعة حي مستشفى الكويت فلم يكن الأمر كما توقعت فثمة سحابة سوداء وأدخنة تخيم على جبل عطان.. الأخبار العاجلة تفيد أن انفجارا بِرúكِنِ جبل عطان مدمراٍ منازلاٍ على بعد سبعة كيلو مترات في أحياء حدة والستين الجنوبي وحارة السلامي وضواحيها.. راعني فزع الأطفال والناس فكانت تلك هي لحظة اتخاذ القرار بضرورة العودة إلى القرية.. لا أريد مغادرة صنعاء ولكن الظرف عصياٍ على تبريرات من شأنها الإبقاء على الأطفال في عاصمة تنتظر مآلات الصراع السياسي والسلطوي وصواريخ الحقد والعدوان السعو أمريكي.. إنها فسحة إجبارية كان لزاماٍ علي القبول بها لتأمين الأطفال من الفزع والرعب أقل واجب..
ملاحم الصمود
لا شيء يعبر عن أصالة شعب اليمن أكثر من صموده أمام آلة القتل والعدوان إذ ظل على حيويته ونشاطه المعتاد فلم تنهر قواه رغم شناعة القصف وعنفوانه وفتك السلاح الحديث الذي أكد بما لا يدع مجالا للشك أن أمريكا حولت اليمن إلى حقل تجارب واختبار لأحدث أسلحتها وعلى يد المملكة العربية السعودية وهو ما أكده الخبراء الأمريكيون أنفسهم..
ليس ثمة علاقة لما أقوله بفكرة الموضوع في هذا المقام لكن هذا الهجس سيطر علي وأنا أمر في شوارع صنعاء لأشق طريقي في رحلة عودتي إلى القرية بعد غياب 8 أشهر كل همي من هذه الرحلة تأمين الصغار من رعب القصف وأصوات الانفجارات وزلازلها.. المحال التجارية والصيدليات والبوافي والمطاعم مكاتب السفر السياحة مقاهي الأنترنت مراكز التسوق وغيرها مشرعة الأبواب والبشر يتحركون كالمعتاد وكما لم يحدث شيء رغم احتدام معركة المضادات الجوية ورغم راجع رصاصها الذي أودى بحياة الكثير من الأبرياء ودمر وافراٍ من الممتلكات.. هذه هي صنعاء التي يغادرها ويصل إليها ويقطنها الملايين من البشر تحت نيران الحرب الضارية..
المؤذن يعلن بداية شعائر صلاة المغرب يوم 20 ابريل الماضي فيما الطائرات تباشر طقوس عدوانها دون توقف كما هو المعتاد مع كل فرض صلاة من الصلوات الخمس منذ بداية العدوان في 26 مارس 2015م.. كنا لحظتها نمر جوار مستشفى 48 الذي تعرض للقصف في فترات سابقة – متجهين نحو “يسلح” المفضي بعابريه إلى اتساعات جهران.. الأجواء ملبدة بالغيوم والحزن والحرب وروائح السخط الشعبي غير أن تلك الأجواء من ناحية أخرى تشكل لوحة أخرى لصمود صنعاء بينما الخط مزدحم بالمسافرين والمركبات بمختلف أنواعها محملة فوق طاقتها..
فقط. في ظروف الحروب تفر من صنعاء الأسر بأطفالها صوب أرياف (ذمار- المترامية الأطراف من يسلح حتى مشارف وادي الجاح بين زبيد ووصابين وعلى امتداد وادي رماع- ريمة إب البيضاء تعز وغيرها) عبر طرقُ تعج بالمبركات المحملة بأثقال سكان صنعاء التي لا تنضب فمهما نزحوا ومهما اشتدت الظروف تجد الحياة مستمرة..

الأمن في الطرقات
على امتداد الطريق التي سلكناها بين صنعاء وريمة وغيرها من الطرقات يتجلى الصمود الحقيقي راسماٍ ملامح مشرفة عن تماسك الجبهة الداخلية فالنقاط الأمنية تؤدي واجبها على أكمل وجه دون توقف أو كلل..
“يسúلح- معبر- نقيل المنشية- ظوران آنس- بني سلامة- مفرق حمام علي- مدينة الشرق آنس – الكمب مديرية السلفية ريمة”.. هذه نقاط أمنية مررنا منها وجميعها ساهرة على حماية أمن الخط لقد أصبح آمناٍ- حقيقة ماثلة لا ينكرها إلا جاحد أو مزايد- بعد أن شهد هذه الخط فصولاٍ مؤلمة من تقطعات العصابات التي أساءت للمجتمع والقبيلة وأعرافها النبيلة.. فمن يقطع الطريق لا ينتمي إلا إلى الشيطان ومن يكن كذلك لا يردعها الدولة بسيف الحق..
محافظة ريمة وترويض المعاناة
في محافظة ريمة (الريفية الأصل) لا تجد صعوبة في وسائل الحياة مهما بلغت ذروة الأزمات فالغاز والديزل وبقية المشتقات النفطية ليست وسيلة الحياة الأولى رغم أهميتها في الظروف الراهنة التي شهدت طفرة تحديثية في وسائل الحياة بل لا زالت ثانوية وكمالية لمن استطاع إليها سبيلا حين تشتد الأزمات فانعدام الغاز المنزلي يعني الاستغناء المباشر عن التنور والعودة لـ”الطبون” الفْرúن المصنوع من الفخار ووقوده الحطب الذي يتوفر بكثرة فتجد كل منزل رغم تطور أدوات العيش والحياة يظل محتفظاٍ بالطبون والرحى اليدوية والفانوس القديم فبمجرد حدوث أزمة وقود أو طواحين يرجع السكان بسهولة ويسر إلى هذه الوسائل.. أما الماء فيعتمد الأهل على المياه السطحية والعيون الصخرية والغيول ويتوزعون الماء وقت الجفاف وفق نظام قيمي بسيط يحفظ للجميع حقه في الماء دون مشاكل فالأولوية لمن وصل عين الماء قبل صاحبه وهكذا إضافة للسدود والبرك القديمة “الصهاريج المائية”..

الموارد والخدمات
من خصائص الحالة اليمنية في النزوح أن نسبة التماسك الاجتماعي لا تزال كبيرة ووفيرة رغم المعاناة والمشكلات ورغم تعدد وتنوع أشكال هذا النزوح فهناك نزوح يحظى برصد ومتابعة المنظمات الإنسانية وهو النزوح إلى مخيمات رسمية ومعروفة في محافظات مختلفة وهناك نزوح داخلي يحدث بين المدن وضواحيها حيث ينزح الآلاف إلى مدارس ومباني تتبع الدولة أو القطاع الخاص وهناك نزوح لا يصنف بتاتاٍ وهو النزوح إلى القرى والأرياف حيث المواطن الأصلية للنازحين وهو بحد ذاته شكلين الأول العودة إلى المنازل المملوكة للنازحين وهي في القرى إما مقفلة أو غير أو في عهدة الأهل والأقارب وهؤلاء هم الأوفر حظاٍ بين النازحين إلى بيوتهم وقراهم وهناك نزوح إلى مخيمات في القرى نفسها ومن أبنائها الأصليين الذي لا يمتلكون بيوتاٍ يسكنون فيها نظراٍ للطفرة المتسارعة في أعداد السكان أو لكونهم تخلو عن منازلهم وباعوها كحالة “عادل” المذكورة آنفاٍ..
هذا ما فصله الأخصائي الاجتماعي والتربوي ضيف الله سعيد – تربوي قديم- مؤكداٍ أن المعضلة الأهم في النزوح إلى القرى تكمن في الضغط الكبير والهائل على الموارد المتاحة للقرى والأرياف كالمياه والغذاء والمسكن خصوصاٍ إذا ما علمنا أن 70-80% من حجم النزوح في اليمن يكون إلى القرى والأرياف وليس إلى مخيمات مركزية في الوقت الذي تنعدم فيه الخدمات الصحية وإن وجدت فيها بشكل محدود لا تكفي للساكنين الدائمين..
تقارير إحصائية
التقارير الإحصائية في تناولاتها لتوزيع الخارطة الخدمية لليمن تشير إلى أن 90% من الخدمات تتركز في المدن والكبرى والتجمعات السكنية الحضرية فيما الأرياف يفتقر للماء والصحة والكهرباء وكانت الحكومات المتعاقبة أكدت مساعيها إلى تمدين الأرياف بالخدمات هروباٍ من الهجرة الداخلية غير أن المساعي تعثرت في المدن قبل الأرياف ليظل تدفق الهجرة الداخلية من الريف إلى المدينة في أعلى مستوياتها خصوصاٍ بعد تدهور القطاع الزراعي وتراجعه نحو أكثر من 50% على ما كان عليها في السبعينيات والثمانينيات..
المنظمات الإنسانية المحلية والدولية لم ترصد ولم تعر النزوح إلى القرى أدنى اهتمام أو دراسة وركزت اهتمامها على النزوح إلى المخيمات ونادرا ما تهتم بالنزوح الداخلي كالذي يحصل في عدن وأبين لافتة إلى نزوح 300 ألف مدني إلى مخيمات معروفة في المناطق الساحلية وفي المحافظات الحدودية كمخيم المزرق الذي يعتبر أكبر المخيمات اليمنية للنازحين جراء الحروب والصراعات.. فيما توقع باحثون اجتماعيون أن أكثر من مليوني نسمة عادوا إلى القرى والأرياف ومن سكنهم في المدن (صنعاء وعدن وتعز والحديدة) فقط.

قد يعجبك ايضا