الأنظمة العربية تتحول إلى حليف صريح لمشروع الاحتلال الأمريكي-الإسرائيلي

 

الثوةر / يحيى الربيعي

في مشهد بالغ القتامة والصدمة، تكشفت تفاصيل التواطؤ الصريح والخضوع المطلق الذي تتبناه غالبية الدول العربية والإسلامية أمام العدوان السافر الذي تتناوب عليه سلطات الاحتلال والولايات المتحدة. إن المشهد الإقليمي شهد تحولاً ديناميكياً دراماتيكياً عقب اغتيال أحد أبرز قادة «حزب الله» بغارة نفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي وبغطاء واضح من البيت الأبيض، لتتحول المطالبة بنزع سلاح المقاومة من هَدَف «إسرائيلي» بحت إلى موقف رسمي مُعلن تتبناه عواصم عربية وإسلامية ذات نفوذ. هذا السلوك لا يُعد مجرد خذلان سياسي فحسب، بقدر ما يُمثّل مُتغيراً استراتيجياً جوهرياً يُعاد على أساسه رسم خرائط النفوذ الإقليمي، دافعاً لبنان والمنطقة بأسرها نحو هيمنة أحادية صهيو-أمريكية مُطلقة.
في خضم هذا التحول، تستثمر واشنطن وتل أبيب، بذكاء شديد ومُخطط مُحكم، الضغوط العربية والإسلامية على «حزب الله» لزيادة الضغط الاقتصادي والسياسي على الدولة اللبنانية ككل. فبدلاً من أن تعمل العواصم العربية على دعم لبنان لتعزيز سيادته ومنع الاعتداءات عليه، تساهم هذه العواصم في خنق بيروت وإحكام الحصار عليها عبر ربط أي مساعدة أو دعم اقتصادي بـ»الالتزام بقرارات الشرعية الدولية» و»نزع سلاح الجماعات غير الحكومية»، وهو ما يخدم في نهاية المطاف الأجندة التوسعية للكيان الإسرائيلي.
يُشير تحليل في «المركز اللبناني للدراسات» إلى أن هذا الضغط المُركّب، الذي يجمع بين عدوان المحتل وغدر الإقليم، يضع لبنان أمام خيارين قاسيين لا ثالث لهما: فإما الانصياع المطلق للامتيازات الصهيونية والتخلي عن قوة ردعه الوحيدة، أو مواجهة الانهيار الاقتصادي الكامل والعزلة الدولية المُميتة. إن هذا المأزق يُفسر ببراعة كيف أن تضافر الأعداء والأشقاء يسعى لتركيع الدولة اللبنانية عبر ورقة المقاومة، مما يُؤكد أن الخضوع العربي أصبح أداة فاعلة في يد المشروع المعادي.
التغطية الأمريكية للغارة.. حق «دفاع» يُشرّع الاغتيال
في إطار لا يقبل التأويل بتنسيق الأدوار والدعم غير المشروط، جاء التصريح الرسمي للبيت الأبيض، يوم الاثنين الماضي، ليُشرعن عملية الاغتيال الممنهجة التي نفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قلب العاصمة اللبنانية بيروت، والتي استهدفت رئيس أركان «حزب الله»، هيثم علي الطبطبائي. لم تتردد السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، كارولين ليفيت، في تأكيد موقف الرئيس دونالد ترامب الداعم لـ»حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها والقضاء على أي تهديدات إرهابية في المنطقة» حسب زعمها، وذلك رغم إقرارها بأنها لم تتحدث معه تحديداً بشأن الغارة، وهو ما يُعدّ غطاءً سياسياً وقانونياً مسبقاً لسلوك عدواني متواصل.
هذا الدعم ليس وليد اللحظة؛ فالولايات المتحدة كانت قد صنّفت الطبطبائي «إرهابياً» منذ عام 2016، وعرضت وزارة الخزانة مكافأة قدرها خمسة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه، ما يكشف عن ملاحقة استخباراتية طويلة الأمد وتنسيق عميق مع سلطات الاحتلال. وقد أفادت القناة 12 الإسرائيلية بأن واشنطن كانت على علم مُسبق بخطط الاحتلال لتصعيد الضربات في لبنان، مما يضع واشنطن في موقع الشريك المتواطئ لا المراقب المحايد.
نتنياهو يرفع سقف الإملاءات
في استثمار وقح لهذا الدعم، سارع رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، إلى إصدار بيان صحفي مساء الأحد لم يتوقف فيه عند إعلان مسؤولية الكيان الإسرائيلي عن اغتيال الطبطبائي- الذي وصفه بـ»القاتل الجماعي» الذي كان يقود جهود إعادة التسليح- بل رفع من سقف المطالب السياسية ليُحمّل الحكومة اللبنانية مسؤولية نزع سلاح «حزب الله».
في تهديد مبطن وإملاء لا يقبل الجدل، قال نتنياهو: «لن تسمح إسرائيل لحزب الله بإعادة بناء قوته»، مضيفاً أنه «يتوقع من الحكومة اللبنانية الوفاء بالتزامها بنزع سلاح حزب الله»، معتبراً أن «بهذه الطريقة فقط سيحظى كل مواطن لبناني بمستقبل أفضل، وبهذه الطريقة فقط يمكن أن تسود علاقات جوار سلمية وآمنة بين إسرائيل ولبنان». هذه التصريحات تكشف بوضوح أن هدف العدوان يتجاوز الاغتيال الفردي ليلامس نزع سلاح قوة المقاومة كشرط مسبق لأي «هدوء» مزعوم، وهو ما يُلغي سيادة الدولة اللبنانية ويدفعها نحو القبول بـ»سلام» يفرض الاستسلام المطلق.
الخنوع العربي.. من الخذلان إلى التماهي
في مقابل العدوان المعلن الذي ترعاه واشنطن وتنفذه سلطات الاحتلال، جاء رد فعل الأنظمة العربية والإسلامية التقليدية بمثابة الخنجر المسموم في ظهر المقاومة، إذ سارعت هذه الأنظمة إلى التمترس خلف خطاب الاحتلال، مطالبةً «حزب الله» بضرورة التخلي عن سلاحه والالتزام بقرار مجلس الأمن 1701 وتفاهمات وقف إطلاق النار لعام 2024.
إن هذا السلوك لا يُشكل مجرد خذلان، بل هو تحول ديناميكي دراماتيكي يكشف عن خلفيات أساسية، حيث تبرهن هذه الدول عملياً على أنها لم تعد قادرة على الخروج عن السردية الأمريكية التي تُصنّف المقاومة كـ»إرهاب»، مفضلةً بذلك رضا واشنطن وتل أبيب على التمسك بأي مظهر من مظاهر السيادة أو التضامن القومي تجاه القضية المركزية للأمة.
ناهيك عن أن المطالبة بنزع سلاح «حزب الله» تُعبّر عن هَوَس داخلي لهذه الأنظمة، التي ترى في قوة المقاومة المسلحة- القادرة على تحدي الكيان الإسرائيلي- نموذجاً خطيراً يُهدد استقرار عروشها القائمة على التبعية والخضوع، وبالتالي فهي تسعى لإخماد أي صوت أو قوة تملك إرادة القرار المستقل. لقد تبنّت هذه الأنظمة الرؤية الصهيونية التي تربط «الاستقرار الإقليمي» و»الازدهار اللبناني» بتجريد لبنان من قوى الردع التي تملكها المقاومة، مما يعني أن «الاستقرار» المطلوب هو ذلك الذي يضمن التفوق الأمني المطلق للكيان الإسرائيلي، وهو موقف يُفضي إلى خيانة القضايا الجوهرية لصالح مصالح آنية وتطبيعية صريحة أو ضمنية.
تدمير الردع وإضعاف الموقف اللبناني
لقد شكّلت القوة العسكرية لـ»حزب الله» دوماً الرادع الفعلي والوحيد أمام الأطماع الإسرائيلية المتواصلة في لبنان، خاصة في ظل عجز الدولة اللبنانية عن بناء جيش قادر على صد العدوان، بسبب استقطاباتها الداخلية وعجزها السياسي. وعندما تنضم دول عربية وإسلامية، بشكل علني، إلى سردية الاحتلال الإسرائيلي المطالبة بنزع هذا السلاح- الذي وصفه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بـ»التهديد الإرهابي»- فإنها تُنتج تأثيرات وخيمة تُهدد الأمن القومي اللبناني.
يُفقد هذا التواطؤ، الذي يُنظر إليه كتطبيع أمني وإقليمي متقدم، بيروت أي ورقة ضغط ذات مصداقية في مواجهة التهديدات الإسرائيلية، وبالتالي يصبح لبنان مُطالباً بالتنازل أحادي الجانب تحت ضغط إقليمي مُضاعف، وهو ما يُعرّض أمنه القومي للخطر المباشر، كما تُشير التحليلات السياسية للأحداث المتسارعة.
أكثر من ذلك، فإن هذا التدخل الإقليمي المُعادئ للمقاومة يُعزّز بشكل حاد الانقسام الطائفي والسياسي في لبنان، ويُقوّض أي جهد محلي لبناء إجماع وطني حول سبل حماية البلاد. يصبح خطاب المطالبة بنزع السلاح، الذي تتبناه أطراف لبنانية داخلية، مُدعوماً ومُشجعاً بقوة من عواصم عربية وإسلامية ذات نفوذ مالي وسياسي، ما يُهدد بإشعال فتيل الفتنة الداخلية المُدمرة. كما أن هذا الموقف، بحد ذاته، يعمل على شرعنة الانتهاكات الإسرائيلية، بحيث يصبح اغتيال القادة والاعتداء على السيادة اللبنانية، كما حدث في الضاحية الجنوبية لبيروت، جزءاً من حملة «مكافحة الإرهاب» الدولية والإقليمية المقبولة، بدلاً من أن يكون عملاً عدوانياً يستوجب الإدانة.
قلب مفهوم «الأمن» وتكريس الهيمنة
على المستوى الإقليمي الأوسع، يكشف هذا الخضوع العربي عن تغيير جوهري في مفهوم «الأمن» العربي ذاته. لقد تماهت الأنظمة المنهزمة مع الرؤية الأمريكية-الإسرائيلية التي ترى في قوى المقاومة التهديد الأكبر، بدلاً من رؤية الاحتلال الإسرائيلي والسياسات الأمريكية العدوانية كمصدر حقيقي لعدم الاستقرار، وهذا التحول يعني إعفاءً كاملاً للكيان الإسرائيلي من مسؤولياته كقوة احتلال ومصدر للعدوان الإقليمي.
إن المطالبة بنزع سلاح «حزب الله» هي خطوة متقدمة على طريق التطبيع الذي لم يعد يقتصر على التبادل الاقتصادي والسياحي فحسب، بل تحوّل إلى تطبيع أمني واستخباراتي عميق، حيث تتشارك الأنظمة العربية والأمريكية والكيان الإسرائيلي الأهداف الرئيسية، وهي تحييد وإزالة أي قوة قادرة على الوقوف في وجه المشروع الصهيوني التوسعي. هذا الموقف الانبطاحي يعزز من معادلة القوة الصفرية، القائمة على فكرة أن أي قوة عربية أو إسلامية قادرة على الردع يجب إزالتها لضمان هيمنة الكيان الإسرائيلي المطلقة. إن ترك الساحة فارغة أمام الكيان لفرض إرادته وشروطه الأمنية والسياسية على المنطقة دون أي خوف من عواقب رادعة، يُؤكد عمق الانهيار الأخلاقي والسياسي الذي وصلت إليه العديد من العواصم العربية.
شرعنة الاغتيالات وإعادة تعريف قواعد الاشتباك
في ظل هذا التواطؤ العربي والإسلامي غير المسبوق الذي يطالب بنزع سلاح «حزب الله»، يجد جيش الاحتلال الإسرائيلي الفرصة مواتية لتنفيذ تحولات استراتيجية سريعة وعميقة على طول الجبهة الشمالية، مستغلاً هذا الخذلان لترسيخ قواعد اشتباك جديدة تُكرّس سيادته الأمنية وتُضعف الموقف اللبناني بصفة دائمة. إن الهدف يتجاوز مجرد «الدفاع عن النفس» إلى إعادة تشكيل ميزان القوى لصالح الكيان في المنطقة.
يُمثّل الدعم الأمريكي الصريح لـ»حق إسرائيل في الدفاع عن النفس»، والمطالبات العربية بنزع سلاح «حزب الله»، غطاءً مثالياً يُحرّر يد جيش الاحتلال لتنفيذ عمليات عدوانية في عمق الأراضي اللبنانية، بما في ذلك الاغتيالات التي تستهدف قادة الصف الأول في المقاومة، كما حدث مع هيثم علي الطبطبائي. يُشير تحليل نشرته صحيفة «هآرتس» إلى أن الكيان الإسرائيلي بات يعتبر أن أي عملية اغتيال أو قصف يتم في الضاحية الجنوبية لبيروت أو في مناطق نفوذ الحزب، تُصنف الآن ضمن «مكافحة الإرهاب» وليس «انتهاكاً للسيادة»، وهو ما يُشرعنها دولياً ويُصعّب الإدانة العربية الرسمية لها. هذا الاستغلال يسمح للاحتلال بتثبيت قاعدة جديدة مفادها: استهداف القادة وإضعاف القدرات هو حق مشروع ومقبول دولياً وإقليمياً.
تطبيق أحادي الجانب للقرار 1701
يستخدم الكيان الإسرائيلي المطالبة العربية بتطبيق قرار مجلس الأمن 1701 كتذكرة ذهبية لتنفيذ عمليات عسكرية أحادية الجانب في المنطقة الحدودية، ويتمثل الهدف هنا في دفع «حزب الله» بالقوة بعيداً عن «الخط الأزرق» وإزالة أي بنى تحتية عسكرية قريبة، دون انتظار أي مفاوضات أو تنسيق عبر الآلية الدولية.
يُصرح المتحدثون باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي باستمرار أنهم ملتزمون بتطبيق تفاهمات وقف إطلاق النار لعام 2024، ولكنهم يفسرون هذا الالتزام على أنه حق في الرد بقوة مفرطة على أي «انتهاكات» مزعومة من جانب «حزب الله». هذا الموقف يستغل الضعف اللبناني لفرض واقع أمني جديد يتمثل في: منطقة عازلة مُعلنة (دفع قوات الحزب خارج نطاق جغرافي محدد بالقوة)، وحق استهداف أي «جهود إعادة تسليح» أو «بناء للقوة» على الجانب اللبناني، كما صرح نتنياهو عندما قال: «لن تسمح إسرائيل لحزب الله بإعادة بناء قوته»، وهو ما يعني عملياً توسيع دائرة الاستهداف لتشمل البنية التحتية اللوجستية والتدريبية للحزب.
اللعب على وتر الانهيار الاقتصادي
يُدرك الكيان الإسرائيلي أن الضغوط الاقتصادية التي يعاني منها لبنان، والتي فاقمها التخاذل العربي عن تقديم دعم غير مشروط، هي أداة ضغط فاعلة. لذا، يعمل جيش الاحتلال على ربط «الاستقرار الإقليمي» بالتهدئة الكاملة على الجبهة الشمالية وإزالة «حزب الله» كقوة عسكرية، وهو ما يُلقي بظلاله على مساعي الحكومة اللبنانية للخروج من الأزمة الاقتصادية.
إن تصريح خارجية الكيان الإسرائيلي بأن «إسرائيل ملتزمة بالتنفيذ الكامل لتفاهمات وقف إطلاق النار» يترافق مع اتهام الحكومة اللبنانية بـ»الفشل في معالجة انتهاكات حزب الله»، مما يضع لبنان في خانة المسؤول المباشر عن استمرار حالة عدم الاستقرار المزعومة، وبالتالي يبرر حرمانها من المساعدات التي يمكن أن تقدمها الدول العربية المرتهنة للرؤية الأمريكية.
في الختام، يكشف هذا التحليل أن الخضوع العربي ليس مجرد خذلان، بل هو عامل مُحفّز يُستخدمه جيش الاحتلال الإسرائيلي ببراعة فائقة لترسيخ هيمنته الأمنية وتفكيك قوة الردع اللبنانية، مما يضمن تثبيت قواعد اشتباك جديدة على الجبهة الشمالية تخدم مصالح الكيان حصراً.
كما تؤكد هذه السردية، التي نشهد فيها تضافر الأعداء والأشقاء في آن واحد للضغط على جبهة المقاومة اللبنانية، أن هذا الانهيار يخدم في نهاية المطاف هدفاً واحداً ووحيداً: وهو إسدال الستار نهائياً على إمكانية المقاومة المسلحة الفعالة وجعل المشروع الصهيوني واقعاً مهيمناً لا يمكن تحدّيه.

قد يعجبك ايضا