زمن ما بعد الحداثة في المفهوم الغربي « هو حركة فكرية واسعة نشأت في النصف الثاني من القرن العشرين كردة فعل على ادعاءات المعرفة القديمة المنتهية والمرتبطة بحداثة عصر النهضة ولإنهاء الافتراضات المزعوم وجودها في الأفكار الفلسفية الحداثية المتعلقة بالأفكار والثقافة والهوية والتاريخ وتحطيم السرديات الكبرى وأحادية الوجود واليقين المعرفي وتبحث في أهمية علاقات القوة، والشخصنة أو إضفاء الطابع الشخصي، والخطاب داخل بُنية الحقيقة والرؤى الشمولية، وينطلق العديد من مفكري ما بعد الحداثة، من إنكار وجود واقع موضوعي ومن إنكار وجود قيم أخلاقية موضوعية والتشكك في السرديات الكبرى والبحث عن خيارات جديدة، وتشمل الأهداف المشتركة لنقد ما بعد الحداثة الأفكار العالمية للواقع الموضوعي والأخلاق والحقيقة والطبيعة البشرية والعقل والعلم واللغة والتقدم الاجتماعي.
ووفقًا لذلك، يتميز الفكر ما بعد الحداثي على نطاق واسع بالميل إلى الوعي الذاتي، والإحالة الذاتية، والنسبية المعرفية والأخلاقية، والتعددية، وعدم الاحترام».
ونحن اليوم نتعامل مع هذا التوجه الفلسفي والفكري ولا بد لنا من الوعي به، ومعرفة أبعاده وأنساقه حتى نتمكن من السيطرة على قيم المجتمع العربي المسلم من الانهيار والتفسخ القيمي، وعلينا أن ندرك أن التقدم المستمر للعلوم والتقنيات، وثورة التكنولوجيا – التي نصحو كل يوم على جديد في عالمها – قد أدخل إلى الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية عوامل جديدة للتغير والتبدل من طور إلى طور، مما ساهم في انهيار المعايير والقيم الثقافية والأخلاقية للمجتمعات، فنحن نعيش عصر العولمة وذوبان الثقافات والهويات في بوتقة واحدة وهذا الانهيار يخدم في نهاية المطاف مصالح النظام الرأسمالي، حيث تحدد الحرية الفردية القدرة ونمط المصالح المتبادلة، وفي ظل هذه الصيرورة الاجتماعية بمختلف اتجاهاتها، تحدد السياق العام « لمفهوم الحداثة بوصفه ممارسة اجتماعية ونمطا من الحياة يقوم على أساسي التغيير والابتكار.»
ومن الملاحظ أن الحداثة في التجربة العربية، لا تحيد عن طابع التقليد والمحاكاة الجوفاء لمظاهر التمدن الغربي ونماذجه الثقافية والحضارية، فالعرب أتباع كل ناعق لا يبتكرون واقعا حضاريا يشير إلى وجودهم وهويتهم ولكنهم يصرون على تمثل التجارب الغربية، وفي الغالب فالثقافة الغالبة أو ثقافة الأقوياء تفرض وجودها على وعي المجتمعات، وهذا أمر من المسلمات التي لا جدال فيها، فهي متواترة في النسق الاجتماعي والثقافي التاريخي .
«وغالبا ما يظهر أن هذه النماذج الحضارية تتعارض مع النسق الحضاري العربي في أصوله وتجلياته الذاتية. وهذا يعني أن استجلاب مظاهر الحداثة من الغرب، قد يؤدي إلى مزيد من الضياع والاحتضار. وقد يعني ذلك – وهذه هي الحالة الأغلب في عالمنا العربي- تعايش منظومتين اجتماعيتين متنافرتين في آن واحد، هما: مجتمع تقليدي يمارس حياته وفق معايير وقيم تقليدية، ومجتمع حداثي يعيش وفق أحدث المعايير العصرية دون أن يتمثل روح هذه المعايير ويتشرب من تدفقاتها الذاتية. ووفقا لهذه التصور فإن التحديث العربي في التاريخ المعاصر يأخذ صورة متناقضة مع الحداثة الحقيقية.» .
وهذا يعني أننا نعيش قشور المدنية وأن الروح الحقيقية للمجتمع المدني لم تستطع أن تأخذ مكانها في بنية الحياة الاجتماعية والروحية في المجتمع العربي.
فنحن نعيش على قشور المدنية وتتأصل فينا البداوة الشرسة التي تغيب معها القيم الإنسانية الأصيلة التي تضع الإنسان في صدارة غاياتها، رغم أن الغاية الكبرى للإسلام هي القيم والبنية الأخلاقية التي تعمل على ترتيب نسق الحياة وبما يتسق مع مضامين الرسالة المحمدية وغايتها المثلى.
مشكلتنا اليوم أننا وقعنا في عمق الأزمات المعقدة، ولم نستطع حل قضايا حقيقية ومعقدة ومتكاملة ومرتبطة ببعضها، مثل الحداثة وفكرة الحرية وفكرة الاستقلال، وفكرة تطوير المجتمع، وتحديث قانون حركة التغيير في الطبيعة والمجتمع.
فلا يمكن اختزال حركة الثقافة في المجتمعات إلى “نمطية مماثلة”، كونها ليست جامدة أو ميكانيكية، وبالتالي فالتيار النظري والمنهجي الذي يعتمد مقاربة ثقافية دينامية، ينظر إلى الفرد بوصفه فاعلًا اجتماعيًا، يؤثر ويتأثر، وينفعل ويتفاعل، في بيئة اجتماعية وثقافية محددة، لتصبح التشكيلات الاجتماعية، كخيارات الولاء والانتماء، معطًى يشارك الأفراد في تكوينه.
ومع هذا التصور الدينامي للثقافة، تكون الهوية بحد ذاتها كجدل إنساني واجتماعي، وتكون في ضوء هذه المقاربة صيرورةً تكوّن نسقًا ذا معنى عند الفرد الذي يتفاعل مع الآخرين، وفي الوقت نفسه الذي يتفاعل فيه مع النسق الرمزي بشقيه الموروث والسائد، حيث يتطورون معًا.
ومثل ذلك من القضايا التي يجب الوقوف أمامها وإعادة تعريفها وبما يحفظ مضمون الرسالة القيمي والأخلاقي في زمن ما بعد الحداثة الذي ينذرنا بانهيار قيمي وانحطاط اجتماعي، ومؤشرات الواقع في توجهات النظام الدولي معلنة اليوم وهي جزء من حربه معنا وإن لم نستنفر طاقاتنا الفكرية والفلسفية والثقافية وبما يخدم مشروعنا الإسلامي فإننا سوف نصبح لعبة في يد مصالحه.
وما يحدث اليوم من تموجات في الإطار العربي وفي الجزيرة العربية بالذات، يبرز بوضوح كامل الصراع بين المجتمع التقليدي والمجتمع الحداثي، وما يحدث اليوم في قطاع غزة الذي خاض على مدى عامين حربا مدمرة، امتدت شرارتها إلى المنطقة العربية وهي اليوم تتشكل في دول المغرب العربي كنوع من التململ الذي سوف يفضي إلى حركة تبدل إلى المجتمع الحداثي الذي ينشده الغرب ويريد تنفيذه في المنطقة العربية، لتكون المنطقة العربية والإسلامية أكثر استجابة للمشروع الاستعماري الغربي الذي يرغب في السيطرة على مقدرات الأمة وإدارتها بما يحقق استدامة مصالحه وذلك من خلال الفصل الثقافي وابتكار منظومة ثقافية جديدة، لا ترى الماضي عنصرا فاعلا في الحياة المعاصرة، بل حالة معيقة للتقدم والنهضة.