يأتي شهر أكتوبر كي يذكرنا بقضايا التحول والتبدل التي شهدتها وتشهدها المنطقة العربية، ففي عام 1963م اندلعت ثورة الرابع عشر من أكتوبر في جنوب اليمن وتلك الثورة أحدثت تحولا عميقا في لعبة التوازن الدولي بكله، بعد صراع مرير بين الدول الاستعمارية الكبرى، وبين معسكر الشرق والغرب، وقد تمخض عن ثورة 14اكتوبر فكرة الحرية والاستقلال كمبادئ أساسية، وطرأت فكرة الوطنية، وفكرة العدالة الاجتماعية، وفكرة الطبقة العاملة، ومال ثوار الجنوب إلى المعسكر الشرقي، وهم بذلك أنهوا معاناة قرن ونيف من الزمان من السيطرة الغربية والاستعمار البريطاني، ثم بعد ذلك حدث السادس من أكتوبر عام 1973م في مصر وهي معركة وجود عربي بين الكيان الصهيوني الغاصب وبين مصر، واستعادت مصر الكثير من الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عام 1967م، عام النكسة كما توافق الكتاب العرب والساسة على تسميته، وحققت مصر بالسادس من أكتوبر حالة تحول كبرى في التاريخ العربي، رغم التفوق العسكري لإسرائيل في ذلك الوقت، لكن صوت الحق، وصوت الإرادة كان أقوى من كل الأسلحة ومن تقنيات التفوق .
ويرتبط أكتوبر بمراحل تحول كبرى عالمية، منها ذكرى الحرب العالمية الثانية في بعض البلدان، كما يرتبط بأحداث سياسية وثقافية ذات عمق في بعض البلدان، ويبدو أن هذا الشهر يشكل حضورا مكثفا في الوجدان الإنساني العربي والعالمي بسبب الأحداث الكبرى التي حدثت فيه وشكلت نفاط تحول في مسار التاريخ .
وها هو يتجدد في الوجدان لارتباطه بالسابع من أكتوبر من عام 2023م حين الإعلان عن بدء العملية العسكرية ” طوفان الأقصى “، وهي عملية عسكرية أطلقتها الفصائل الفلسطينية المقاومة، وهي معركة الوجود العربي التي ما يزال مشتعلا أوراها حتى الآن، وقد اتسعت دائرتها لتشمل محور المقاومة العربية، وما يزال الصراع بين العدو الإسرائيلي والمسلمين مشتعلا، ولن يهدأ إلا بتحقيق النصر واستعادة الأرض المغتصبة، فالمعركة لم تعد ذات بعد تحرري أو استقلال أو حرية بل معركة وجود .
ولعل الذاكرة ماتزال حية وهي تشاهد رئيس وزراء الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة، وهو يستعرض الخارطة العربية، ويقول : لقد تخلصنا من تهديد وجودي لبلدنا ولا يجوز السماح لإيران بإعادة بناء قدراتها النووية “، وكان يستعرض الخارطة، ويقوم بشطب الدول التي كانت تقاوم صلف الكيان حتى وصل إلى اليمن وقال : لقد فضينا على جزء من القدرات اليمنية باستهداف حكومتهم، وهو موقف كان مستفزا لكل القوى الحرة في العالم، وليس في الوطن العربي والإسلامي، وقد ضاعف من دائرة السخط على العدو الإسرائيلي في نفوس أحرار العالم، وربما أيقظ بعض مشاعر الكرامة عند المطبعين العرب خاصة الذين شعروا بالخطر من خلال انتهاك سيادة بعض الدول مثل قطر والقيام بمحاولة اغتيال لبعض قادة حركة حماس.
ما تقوم به إسرائيل في غزة على مدى عامين من الزمن كشف القناع الصهيوني، وكشف قناع النظام الدولي، وكشف زيف الحقوق والحريات والقضايا المدنية، التي يتشدق بها الغرب الرأسمالي، فالجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة لم يتحمل وحشيتها الضمير الإنساني الحي، بل سارع إلى كشف عورتها وبيانها للناس، حتى أن وجود نتنياهو في الأمم المتحدة لم يتحمله الناس، إذ سارع الكثير إلى مغادرة القاعة، في مشهد دال على عدم الرضى عن الجرائم التي يرتكبها نتنياهو ونظامه في قطاع غزة، ومثل ذلك الموقف الإنساني للدول كان سوطا ملتهبا يجلد قادة الأنظمة العربية المطبعة والصامتة إزاء ما يحدث من جرائم في حق الإنسان والأرض والعزة والكرامة في قطاع غزة .
لقد اشتغل النظام الدولي على المنطقة العربية محاولا تطويعها عبر عدد من الاهتزازات، مثل اهتزاز الربيع العربي الذي أحدث اختلالا في النظام العام والطبيعي، وأحدث اختلالا في مفاهيم الحرية والاستقلال والوطنية وغيرها من المفاهيم، إلى الدرجة التي بتنا نشهد فيها كتابا وساسة يميلون إلى العمه الثوري وطغيانه، إذ أصبح الوطني دخيلا والمستعمر صديقا، وأصبح المستعمر محررا، وابن الوطن مستعمرا، وأصبح التدخل الأجنبي وفرض ثنائية السيطرة والخضوع على الشعوب مساعدة إنسانية تحت لافتة عودة النظام الشرعي كما هو في اليمن، وكان للحرب الناعمة واحتلال اللغة من خلال مفرداتها دور في الحال الذي وصلت إليه الشعوب العربية والإسلامية، وهو حال من الذلة والهوان، حتى لغة الاستعلاء التي كان عليها رئيس وزراء الكيان في خطابه في الأمم المتحدة لم يستفزهم، وهناك من يبارك ما تقوم به إسرائيل من عدوان غاشم ومتوحش على اليمن، ولم نر أو نسمع عن نخوتهم …ودور صنعاء تدمر ومتاحفها تقصف ومقدراتها تستهدف، فقد تبدلت لديهم المفاهيم، فأصبح أولئك يرون في نظام صنعاء – المقاوم والمدافع عن الوجود العربي والإسلامي – عدوا، ويرون في العدو الصهيوني صديقا، هذا التبدل في اختلال اللغة والمفاهيم انعكس على معركة العرب والمسلمين الوجودية مع الكيان الصهيوني، وهي معركة مصيرية، كما قالها نتنياهو نفسه، لكن على قلوب أولئك صبغة من ران العداوات البغيضة .
ولعل هذا الشهر وهو شهر التحولات سيعيد الأمور إلى نصابها، ولعله يعيد تعريف سؤال الحرية والاستقلال والسيادة والوجود ويعيد تعريف العدو والصديق، وفق معطيات الواقع وتموجاته، ولا بد من إثارة السؤال اليوم وتكثيف حضوره في المشهد الثقافي العربي إن أردنا وجودا والله المستعان .