دولة فلسطين: من الوهم إلى الحقيقة

د. محمد المدهون *

 

 

على مدى عقودٍ من الدم والنار، حاولت قوى الاحتلال وأعوانها طمس حلم فلسطين الحرة، لكن الأرض التي أنجبت الشهداء لا تنكسر، والدم الذي سال على ثراها لا يجف. من خديعة أوسلو إلى سراب “خريطة الطريق”، ومن شعارات “حل الدولتين” إلى مجازر غزة الأخيرة، تكشّف للعالم وجه الاحتلال العاري، حيث تحوّل السلام إلى قناع لسياسات الضم والقتل، وأصبحت المؤسسات الدولية الغربية مجرد أدوات لتجميل الاستعمار وتخدير الشعوب. ومع ذلك، وفي ذروة المجازر، انبثق شعاع أمل من رحم الصمود، فبعد عملية طوفان الأقصى ومحرقة غزة ارتفع صوت العدالة من قارات الأرض، ليعترف أكثر من 150 دولة بدولة فلسطين، في صرخة دولية تُعيد الحق الفلسطيني إلى خارطة العالم، وإن ظل الاعتراف هشًّا، رمزيًّا، بلا حدود مرسومة ولا قدسٍ معلنة عاصمة، ولا آليات تنفيذية تُحوّله إلى واقع.
إن هذه الاعترافات، رغم صخبها الإعلامي، ما لم تُترجم إلى خطوات عملية، تظل مجرد أوراق دبلوماسية تخفي عجز الحكومات الأوروبية عن مواجهة الإبادة المستمرة منذ عامين. فالغرب الذي يرفع رايات القانون الدولي، يترك آلة القتل تدك غزة، ويغض الطرف عن التهجير، ويواصل إدانة من يدافع عن وطنه، في تناقض فاضح بين الخطاب والفعل. وفي ظل هذا الغموض، يواصل الاحتلال مخططاته: تهجير ممنهج في غزة والضفة، سنّ قوانين تمنع قيام الدولة، تضاعف الاستيطان، والاعتداء على المسجد الأقصى، مهددًا بتحويل الصراع إلى حرب دينية شاملة، بينما تغرق (إسرائيل) نفسها في أزمات داخلية وانقسامات عميقة وتراجع استراتيجي يفضح هشاشة مشروعها.
لكن فلسطين تعرف أن خلاصها لن يأتي كهبة من مجلسٍ دولي أو بيان أوروبي. فطريق الدولة الحقيقية يبدأ من الداخل: وحدة وطنية صلبة، إصلاح مؤسسات منظمة التحرير، استراتيجية مقاومة شاملة تُعيد الثقة بين الشعب وقيادته، حكومة وحدة تمثل كل الفصائل، بناء أجهزة أمنية محترفة، وتنمية اقتصادية متينة تُحصّن المجتمع، مع تعليم وثقافة تُغذّي روح الصمود وتورّث الأجيال معنى الحرية. وخارجيًا، يتطلب النضال تكثيف الاعترافات الدولية، ملاحقة الاحتلال قانونيًا في كل محفل، وتفعيل دور الشتات الفلسطيني كذراعٍ عالمي للمشروع الفلسطيني، مع عدالة انتقالية تنصف الضحايا وتعزز المصالحة الوطنية.
دولة فلسطين المنشودة ليست منحة ولا مكافأة، بل معركة تحرر تاريخية تُخاض بالإرادة والصمود، لا بالرضوخ للهيمنة. هي دولة كاملة السيادة، عاصمتها القدس، قائمة على وحدة الأرض والشعب والكرامة الإنسانية. وكل ما عداها وهمٌ واستسلام. وما الاعترافات الدولية اليوم سوى جسر يجب أن يُعبر عليه الفلسطينيون بدمائهم وصمودهم، ليحوّلوا الرمزية إلى قوة، والورق إلى واقع، وليكتبوا بيدهم – كما كتبوا دوماً – أن فلسطين، رغم الظلم والخذلان، ستنهض حرة أبية، وأن إرادة شعبها هي الفصل الأخير في بناء دولة فلسطين.
“والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.”

*رئيس مركز غزة للدراسات والاستراتيجيات

قد يعجبك ايضا