
تضحيات جسيمة توجت مسيرة النضال برحيل المستعمر وانتصار الإرادة الوطنية
إعادة تحقيق الوحدة مثلت الهدف الأسمى لجماهير الشعب وحركات التحرر الوطني
مخرجات الحوار تؤسس عملياٍ لبناء دولة حديثة وتحقيق الحلم اليمني الكبير
الاستقلال الوطني الذي تحقق لليمن في يوم الــ30 من نوفمبر من عام 1967م والمتمثل في طرد آخر جندي من جيش الاستعمار البريطاني للجزء الجنوبي من الوطن هو مناسبة عظيمة ومفخرة لكل اليمنيين عبر العصور.
هذا الحدث التاريخي الذي تحتفل جماهير الشعب اليمني اليوم بذكراه الــ47 كان ثمرة لتضحيات كبيرة وتتويجاٍ لمسيرة نضال استمرت لسنوات دفع اليمن خلالها خيرة أبنائه .. وللحديث عن هذه المناسبة الوطنية الخالدة وعن مدلولاتها العميقة بعد قرابة خمسة عقود من تحقيقها لا بد من العودة إلى الزمن البعيد للوقوف على المعطيات والمسببات وصولاٍ إلى الاستقلال وآفاقه المستقبلية المتجددة في حياة الشعب اليمني المتطلع إلى تحقيق الانجازات والانتصارات على مختلف الأصعدة والمجالات.
عدن وأهميتها الاستراتيجية
أعاد يوم الـ30 من نوفمبر من عام 1967م الاعتبار للإنسان اليمني وكبريائه فبعد عقود من الاستعمار الانجليزي تحقق الحلم اليماني بالتحرر والانعتاق من قبضة المستعمر الأجنبي الذي استولى على خيرات ومقدرات الشعب والوطن قبل أن يتهاوى أمام ضربات المقاومة الشعبية التي سطرت أروع الملاحم البطولية في مقارعة هذا الجبروت العالمي وآلته العسكرية العتيدة.
وظلت مدينة عدن بموقعها الاستراتيجي الهام مطمع الغزاة على امتداد العصور كونها تقع على بوابة البحر الأحمر بامتدادها الطبيعي داخل البحر العربي والمحيط الهندي.
فهذا الموقع الاستراتيجي لعدن جعلها محط أطماع واهتمام الدول الصناعية التي بدأت في القرن الـ 15 تبحث لها عن مراكز تجارية وعسكرية حيث حاول البرتغاليون احتلالها في بداية القرن الــ15 إلا أن محاولتهم فشلت أمام المقاومة الباسلة للشعب اليمني رغم التفوق العسكري للغزاة وتعددت المحاولات إلى أن تمكنت بريطانيا في اختلال مدينة عدن بالقوة في الــ19 من يناير من عام 1839م ولم تستطع المقاومة اليمنية التي استبسلت في الدفاع عن المدينة صد الهجوم البريطاني الكاسح الذي اعتمد على قوات بحرية وأسلحة متطورة.
لكن بعد الاحتلال البريطاني لعدن كما يقول المناضل والباحث راشد محمد ثابت في كتابه (ثورة 14 أكتوبر اليمنية من الانطلاقة حتى الاستقلال) لم تستقر لهم الأوضاع في المدينة خاصة وأن الأراضي المحيطة بها من الناحيتين الغربية والشمالية ظلت تحت سيطرة المقاومة الشعبية التي ما لبثت أن تقهقرت نتيجة للتفوق العسكري للقوات الغازية من حيث العدد والعتاد واجادتها استخدام السلاح الحديث وبناء الاستحكامات الحصينة على الجبال وفي المواقع المحيطة بمدينة عدن ومينائها البحري المحكم وبعد أن اتقن البريطانيون إدارة العمل العسكري لحماية مدينة عدن وتفننوا في استخدام الوسائل العسكرية والسلمية لإخماد المقاومة الشعبية باشروا في استخدام الوسائل السياسية المرنة من خلال استخدام الاغراءات المالية والمساعدات السخية للسلاطين والمشائخ في منطقتي لحج وأبين وهو ما مكن الغزاة من توسيع نفوذهم داخل الدويلات المحيطة بعدن التي أصبحت تحت قبضة القوات البريطانية.
تضاعف الأهمية الاستراتيجية
ويوضح الباحث ثابت أنه وبعد افتتاح قناة السويس في عام 1869م تغيرت نظرة المصالح البريطانية تجاه منطقة عدن والبحر الأحمر من كونها مجرد محطة لتزويد السفن بالفحم والماء إلى اعتبارها قاعدة استراتيجية عسكرية وتجارية لحماية مصالحها المتحركة عبر القارات إلى شبه القارة الهندية وإلى جنوب شرق آسيا ومنها إلى نقطة المواصلات المهمة «عدن» وعبرها إلى البحر الأبيض المتوسط ومنه إلى المحيطات التي تربط كل البلدان الأوروبية بقارات أفريقيا والأميركتين الشمالية والجنوبية.
هذه الأهمية الاستراتيجية لعدن جعلت البريطانيين يراقبون نشاط الدول الصناعية على البحرين الأحمر والعربي خاصة بعد احتلال الفرنسيين للساحل الصومالي المقابل لعدن واحتدام المنافسة بين الطرفين على الممرات البحرية فازدادت بريطانيا حرصاٍ على تعزيز السيطرة على مداخل البحر الأحمر ومنطقة عدن وهي السيطرة التي كانت عاملاٍ مهماٍ خلال الحرب العالمية الأولى بين الحلفاء والألمان إذ تحولت منطقة البحر الأحمر والجزيرة العربية إلى مسرح للصراع بين الطرفين على الصعيدين العسكري والدبلوماسي حيث اعتمد العثمانيون المتحالفون مع الألمان على نفوذهم الديني والمعنوي في المنطقة فيما اعتمد البريطانيون على مناطق نفوذهم وخاصة منطقة عدن فعملوا على تأجيج الصراع بين الحكام العرب في نجد والحجاز وعسير من خلال تشجيع حركات المقاومة ضد العثمانيين واستخدام الأساطيل البحرية البريطانية لمحاصرة السواحل اليمنية وسواحل أراضي الحجاز وقطع الإمدادات العسكرية العثمانية حتى إعلان الهدنة 1918م حين انسحب العثمانيون من أطراف عدن ومن كل الأراضي اليمنية والعربية وحينها – كما يوضح المناضل راشد محمد ثابت – كان اليأس والإحباط قد تسرب إلى نفوس اليمنيين نتيجة فشل أعمال المقاومة ضد الاستعمار البريطاني خاصة بعد أن تمكن البريطانيون من صد زحف القوات العثمانية على مدينة عدن مما ساعد المحتلين بعد رحيل العثمانيين على توسيع نفوذهم الإداري والعسكري في مناطق ما كان يسمى بمحميات عدن ومن ثم عملوا على ترتيب الأوضاع في الجنوب اليمني والعمل على إظهار الخلاف بين بريطانيا والإمام يحيى حميد الدين على أنه نزاع على الحدود التي تفصل الجنوب عن الشمال وممارسة كافة الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية على الإمام للتسليم بثبات هذه الحدود وإقرار اتفاقية الحدود التي وقعها الإمام أحمد عام 1934م .
ويضيف ثابت: لقد كان أكثر من يستفز الانجليز عدم استجابة الإمام يحيى لمطالبهم المستمرة بتوقيع اتفاقية الحدود وتهدئة الأوضاع على أطرافها.
بشائر النضال
تميز النصف الثاني من القرن العشرين ببروز حركة وطنية نشيطة اتسم نضالها بأبعاد اجتماعية واقتصادية وبرؤية وطنية شاملة قام على كاهلها متابعة ما يجري على ساحة الوطن اليمني من ظلم واضطهاد وأعمال تعسفية يمارسها الحكام على كامل الأراضي اليمنية إضافة إلى الأحكام والممارسات الجائرة التي كان يعاني منها الشعب اليمني على مستوى مدينة عدن والمحميات البريطانية الخاضعة لها.
ويقول راشد محمد ثابت: إن هذه المعاناة الشعبية ومن داخل ومن أوساط المأساة المتفاقمة راحت تنبثق عنها الأعمال الوطنية التي أخذت بدايتها أشكالاٍ من النضال السلمي في التمرد ضد الحكام المحليين ومقاومة الوجود الاستعماري على أراضي الجنوب ورفض السيطرة على مقدرات الشعب بواسطة الاجتياح العسكري للمناطق الاستراتيجية وبدأت بوادر المقاومة تتجلى في الاحتجاجات المطالبة بتحسين مستوى المعيشة للعمال والموظفين في الدوائر الحكومية والمؤسسات التابعة للاستعمار البريطاني وفي المؤسسات التجارية والموانئ والورش الصناعية للشركات الأجنبية الموالية له حيث بدأت هذه المطالب تأخذ شكل المبادرات العفوية سواء الفردية منها أو الجماعية… وكان من الطبيعي أن يترافق مع هذه المطالب الإحساس الجماعي بضرورة البحث عن وسائل منظمة وفاعلة لتحقيق المطالب العمالية والرغبة في العمل على التغيير الإيجابي لحياة الناس الاجتماعية والاقتصادية وذلك على طريق تحسين الظروف المعيشية والتخفيف من سطوة السيطرة الاستعمارية التي كبلت إرادة الشعب في الجنوب عن المساهمة في العمل السياسي المرتبط بالحرية والاستقلال وكانت هذه التطورات مقدمة لعمل وطني شامل توج باندلاع ثورة الـ14 من أكتوبر المجيدة في عام 1963م وصولاٍ إلى تحقيق الاستقلال العظيم بعد ذلك بأربع سنوات.
إعلان الاستقلال
شهدت مسيرة الكفاح الوطني المسلح الذي اندلعت شرارته مجدداٍ يوم الرابع عشر من أكتوبر عام 1963م من جبال ردفان الشماء الكثير من الأحداث والمنعطفات والتطورات وتكبد المستعمر الأجنبي خلالها الكثير من الخسائر الفادحة التي أجبرته على التقهقر والانصياع لإرادة الشعب اليمني الثائر في الانعتاق من نير الاحتلال والاستعمار.
وفي صبيحة يوم الــ26 من نوفمبر من عام 1967م أصدرت الجبهة القومية كما يقول الباحث والمناضل راشد محمد ثابت بيانا أعلنت فيه أنه بعد منتصف الليلة الماضية لتاريخ صدور البيان تمت عملية انسحاب القوات البريطانية الاستعمارية من أحياء كريتر والمعلا والتواهي وبذلك لا يكون لقوات الاحتلال أي وجود في أراضي الجنوب ما عدا بعض قوات في معسكر القوة الجوية التي ستنسحب ليلة الثلاثين من نوفمبر من عام 1967م.
وأشاد البيان ببطولات الشعب العظيم وصبره وصموده في مقارعة الاستعمار وآلته العسكرية الوحشية.
وبادرت الجماهير في أحياء عدة إلى نصب أقواس النصر ورفع الأعلام في كل مكان وإضاءة الشوارع احتفاء بالنصر العظيم.
مصاعب ما بعد الاستقلال
ويؤكد راشد محمد ثابت في كتابه (ثورة 14 أكتوبر اليمنية من الانطلاقة وحتى الاستقلال) أن السلطة الوطنية الجديدة بعد الاستقلال كانت تدرك جيداٍ حجم التحديات والتعقيدات الماثلة أمامها جراء التطورات التي حدثت في المنطقة العربية بعد حرب حزيران 1967م ,وزاد من تعقيد هذه التطورات كما يقول ثابت التبني الواضح لنهج الاشتراكية العلمية والهجوم المضاد على هذا النهج في البلدان العربية الذي بلغ ذروته بعد نكسة حزيران 1967م وهو أمر كان يفرض على الحركة التقدمية أن تراجع جوانب من حساباتها في تطبيق هذا النهج ومفاهيمه الفكرية الجديدة وسلطة الثورة في اليمن الجنوبي كانت تتحمل الالتزامات والأعباء الكبيرة بسبب التبني الواضح والجذري لنهج الاشتراكية العلمية بل وبسبب اعتبار نفسها « طليعة عمالية الالتزام» وقد حتم هذا التبني أن تتلقى الدولة الفتية في اليمن الجنوبي الهجمة تلو الهجمة لكن أخطر هذه الهجمات الخارجية تمثلت في محاولة اضرام نيران الفرقة والخلافات والمنافسة بين شطري اليمن شمالاٍ وجنوباٍ خاصة عندما كانت تتخذ أراضي الشمال اليمني منطلقاٍ للهجمات الضارية ضد النظام الفتي في الجنوب في إطار المحاولات لفرض العزلة السياسية والاقتصادية التي يخطط لها الاستعمار وقوى الرجعية العربية المجاورة.
تسرع وأخطاء
ويوضح المناضل راشد ثابت أن الحماس للتغيير والمحافظة على الثورة أدى إلى التسرع في اتخاذ الإجراءات التي تؤدي إلى تحطيم العلاقات الاستغلالية القديمة واستبدالها بعلاقات جديدة وذلك من خلال الإقدام على إجراءات التأميم وخفض المرتبات في حين جهاز الدولة كان ينقصه الكثير من المقومات والخبرات فضلاٍ عن غياب الإيمان العميق بالفلسفة الاشتراكية الجديدة للدولة.
ويضيف: (ازدادت المشكلة حدة عندما قامت الدولة بتأميم قطاعات من المشروعات التي يلعب فيه العنصر الفردي دوراٍ كبيراٍ كالمساكن والفنادق والصيدليات ودور السينما وهي من المشاريع التي لم تلجأ الدول الاشتراكية إلى تأميمها إلا في المراحل المتأخرة للتطور وحينما تصبح عائقاٍ للتقدم).
وقد أثار التأميم على نطاق واسع مشكلة الادخار الفردي وعطل عملية تشجيع الاستثمار للرأس المال الهاجر.. فالخوف من التأميم للمشروعات الفردية الصغيرة أدى إلى اكتناز المدخرات وحرم البلاد من أموال طائلة كان المواطنون قد جمعوها في بلدان المهجر كما أدى التأميم بصورته الحادة والمتطرفة إلى زيادة عبء التنمية على الدولة وإلى انعدام الضمانات التي كانت تعتمد عليها نسبة كبيرة من أصحاب المشروعات للاقتراض من البنوك ما قاد إلى غياب المساهمة المطلوبة للقطاع الخاص في الإنتاج القومي.
الإنجاز الأعظم
وبالرغم من المصاعب والتحديات التي عاشها اليمنيون في شطري الوطن اليمني شماله وجنوبه إلا أن الحلم الأبرز والكبير الذي دغدغ مشاعر الشعب وسكن مخيلته تمثل في إعادة وحدة الوطن اليمني وظل هذا الهدف الأسمى لثورتي 26 سبتمبر 1962م و14 أكتوبر 1963م وبذلت لتحقيقه الكثير من الجهود الدؤوبة من قبل الجانبين.
وعلى الرغم من كل المصاعب والعراقيل الطبيعية حيناٍ والمفتعلة أحياناٍ أخرى فقد زالت كل تلك العقبات وانتصر اليمنيون لإرادتهم وحلمهم الكبير في إعادة اللحمة الوطنية وهو ما تحقق بالفعل بعد ذلك بعقدين من الزمن وبالتحديد في يوم الـ22 من مايو من عام 1990م يوم ارتفعت راية اليمن الموحد خفاقة في سماء الوطن في مشهد مهيب سيبقى في ذاكرة اليمنيين أبد الدهر .. كيف لا وهو اليوم الذي مثل تتويجاٍ لنضالات الشعب اليمني ومسيرة كفاحه الطويل وبصرف النظر عن التحديات والصعوبات التي تعيشها البلاد اليوم بفعل الأزمات والحروب والأخطاء التي شهدتها خلال السنوات التالية لتحقيق الوحدة إلا أن الشعب اليمني قد أخذ يلملم جراحه مجدداٍ ليواصل حلمه المشروع في بناء الدولة الحديثة القائمة على مبادئ وأسس العدالة والحرية والكرامة والعيش الكريم لجميع المواطنين وهو ما بدأت بشائره تلوح في الأفق بنجاح مؤتمر الحوار الوطني وخروجه بمصفوفة شاملة تضع الأسس والمداميك القوية لبناء الصرح الوطني الكبير وفق رؤى وأفكار اتفق عليها اليمنيون بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم مغلبين الحكمة اليمنية على منطق السلاح والعنف وليضربوا بذلك مثلاٍ حضارياٍ رائعاٍ وأنموذجاٍ يحتذى به في حل الخلافات والانتصار للوطن ومصالحه العليا وهو النهج الذي حظي بإعجاب العالم بأسره ونال باستحقاق أن يكون النموذج الأفضل من بين نماذج وسيناريوهات الربيع العربي.