الهنديات يكتبن القصص العابقة بروائح ظفائرهن


عندما كتبت الهنديات القصة القصيرة أظهرن براعة مدهشة في الحكي والتقاط التفاصيل الصغيرة واستبطان المشاعر الداخلية الدقيقة التي تمور في صدور شخصيات قصصهن.
هذا ما يكشفه كتاب “لكل ما يخصها”(1) الذي ضم مختارات قصصية لإحدى عشرة كاتبة هندية صنفها وأعدها د.فاندانا آر. سينغ وترجمها إلى العربية د.عبدالوهاب المقالح ومن إصدارات هيئة أبوظبي للثقافة والتراث “كلمة”.
لقد ألفنا في بلداننا العربية أن نرى النساء الهنديات يعملن في مهن متواضعة وهو ما كرس في وعينا صورة نمطية تبسيطية عنهن. ولكننا عندما نقرأ هذا المجلد الزاخر بالإبداع الفني تتبدل نظرتنا كلياٍ إلى المرأة الهندية وندرك أن مستوى التأليف القصصي النسوي في القارة الهندية قد بلغ درجة عالية من التطور الفني والرهافة في تصوير المشاعر الإنسانية وهذه الاحترافية في كتابة القصة القصيرة أزعم أن مثيلتها في بلداننا العربية لم تصل إليها إلا فيما ندر.
تضعك قصص هذا الكتاب -22 قصة قصيرة- في قلب الهند المعاصرة وبالأخص ما يتعلق بالصراع بين الرجل والمرأة حول قضايا الحرية الشخصية وحق العمل وحق إنجاب طفل دون أب واستقلال المرأة بسكن خاص خارج نطاق العائلة.
إن قيام المرأة الهندية بمناقشة هذه المسائل المثيرة للجدل علناٍ عبر فن القصة القصيرة ودفاعها البليغ عن حقوقها في مجتمع محافظ وتقليدي كالمجتمع الهندي يْعدْ مجازفة كبيرة غير محمودة العواقب ولاشك أن طرق موضوعات حساسة كهذه تطلب منهن شجاعة أدبية فائقة النظير.
“جيتنجالي شري” ولدت عام 1957 وتحمل ماجستير في تاريخ الهند الحديث وحصلت على الدكتوراه عن بحثها “بين عالمين: سيرة فكرية لـ”برمتشاند” تكتب القصة القصيرة والرواية ونالت جائزة “إندو شارما” الرفيعة كما أنها تعمل في مجال المسرح تسرد في قصتها الشائقة “حياة خاصة” حكاية شابة عصرية تركت سكن الطالبات واستأجرت سراٍ شقة لتعيش فيها بمفردها ثم اكتشف شقيقها “تشاتشا” فعلتها .. ودار بينهما حوار عاصف قدم خلاله كل واحد منهما حججه نقتطف منه ما يلي:
تشاتشا: هناك حاجة. البنات في مجتمعنا يعشن دائماٍ تحت مسؤولية شخص ما. في البداية أبوها ثم زوجها ثم ابنها يتولى رعايتها.
هي: لكني سأتولى رعاية نفسي.
تشاتشا: أستطيع أن أرى تماماٍ كيف ستتولين رعاية نفسك. أن تعبثي باسم الأسرة الشريف وتشوهي سمعتها. البنت في مجتمعنا تقف على قاعدة رفيعة إنها إلهة. وشرفها ألا يجب يؤخذ باستخفاف إن عليها أن تتحسس مواطئ أقدامها بحذر شديد. عليها أن تنظر موطئ كل خطوة. بالنسبة إلى الفتاة حركة رمشيها لها معانُ كثيرة. وشرفها هو كنزها ورأس مالها.
هي : ما تظنه شرفاٍ هو بالنسبة إلي أعظم عار ألحقه بنفسي.
وفي مقطع آخر تقول لشقيقها:
هي : أعتقد أن من الصواب أن أحيا حياتي بطريقتي. إن قدرت هذا فيمكنك حينئذُ أن تعيش معي أنا لا أستطيع أن أجبرك على أن تفهم هذا. كل ما أردته هو أن أجعلك جزءاٍ من وجودي لكن لا تحتقرني. عليك أن تحترم خصوصيتي وفردانيتي وحياتي الخاصة. إذا لم تعجبك يمكنك أن تغادر(2).
“راجي سيث” ولدت عام 1935 وتخرجت من جامعة “لاكنو” لها سبع مجموعات قصصية وروايتان ونالت العديد من الجوائز منها جائزة “راتشنا” وجائزة “بهاراتيا بهاشا باريشاد” وجائزة “هندي أكاديمي سامن” ولها كتابات شعرية وتقدية ومقالات وترجمات.
عبرت في قصتها “عصر آخر عالم آخر” عن مشكلة حمل المرأة من علاقة غير مشروعة وإقدامها على الإجهاض تجنباٍ لغضبة المجتمع .. جمال القصة يتركز في اللقاء غير المنتظر بين العشيقة والزوجة في المستشفى. عقب إجراء عملية الإجهاض ـ وزوال كل عداوة بينهما. لقد صورت هذه الكاتبة العلاقة المستحيلة بين الزوجة والعشيقة تصويراٍ بارعاٍ واقتنصت لحظات إنسانية لا تنسى:
” كانت لمستها باردة وجريئة وعلى النقيض من نفوري الشديد كانت مريحة وجد ودودة. إن لراحة يدها صوتها الخاص الذي ينفذ في كياني كله”(3).
وفي مقطع آخر:
” لابد أنه كان هناك وقت لم يكن فيه لأي شيء اسم. وتدريجياٍ أعطي كل شيء اسماٍ من قبلنا وحسب حاجاتنا وبمرور الوقت كل هذه الأسماء صارت الحقيقة”(4).
“مانو بهانداري” ولدت عام 1931 وحصلت على الماجستير من جامعة “بنارس” الكثير من قصصها تحولت إلى أفلام ومسلسلات تلفزيونية ناجحة جداٍ. كما أنها كتبت مسرحيات وقصصاٍ للأطفال. تتميز قصتها “النظارة” بحبكة فنية متقنة حيث تمكنت من سرد قصتين معكوستين في نسيج واحد متماسك.. فالسيدة فارما بطلة القصة تعاني من إهمال زوجها لها وعدم اكتراثه بها نظراٍ لانشغاله الشديد بأعماله فلجأت إلى إثارة اهتمامه بكتابة قصة وسردها على مسامعه فإذا به يصغي إليها لأول مرة منذ سنوات ويدرك أنها تلمح إلى ماضيه كمناضل صاحب مبادئ عكس وضعه الراهن حيث أصبح ثرياٍ من وظيفته.. وفي نقطة معينة يفقد الزوج صبره ويشعر بالاختناق ويطالب زوجته بالكف عن إكمال قراءة قصتها.
القصة التي بداخل القصة هي عن شاب ثوري متطرف اضطرته ظروف ملاحقة البوليس السري له إلى الاختباء في مكان منعزل ووحدها حبيبته “شيل” ظلت وفية له وتجلب له الطعام ليبقى على قيد الحياة وعندما أصيب بالجدري اعتنت به ولم تخش من الإصابة بعدوى المرض وحين شفي وتعرض للاعتقال وأودع السجن فإنها لم تتوقف عن زيارته وانتظرت الإفراج عنه مخلصة لوعد الزوج الذي قطعته له ولكنه بعدما خرج من محنته تنكر لها وتنصل من وعوده لها.. هناك مقاطع مؤثرة في القصة تصف أحاسيس ” شيل” في الأيام الأخيرة قبل وفاتها وسبر عميق لمشاعر الحبيبين والتبدلات المرهفة في عواطفهما تجاه بعضهما:
” أوتار لا مرئية في قلب شيل الموجع وعيناها الشاحبتان وقعتا على وجه نيرمال. كان في تلك النظرة البريئة شيء جعل نيرمال يشعر وكأنه قبض عليه متلبساٍ بالكذب الصْراح فلم يجد الشجاعة لأن ينظر إلى عينيها. لوح بيده بطريقة غير واثقة وسرعان ما توارى منسحباٍ. جعل يمشي بخفة وهو خارج من المصحة عكس طريقته في المشي وهو داخل حين شعر بثقل الرصاص في قدميه وهو ينقل خطواته باتجاه غرفة شيل. لكنه الآن قطع مسافة لا بأس بها بسرعة فائقة إلا أنه كان لا يزال يشعر بأن عينين بائستين مهجورتين تخزان ظهره. اجتاز الممر المستقيم ثم التفت التفاتة اعتباطية من دون سبب واضح على الإطلاق”(5).
وقصة “مانو بهانداري” ترمز إلى تضحيات المرأة الهندية في سبيل بناء الهند كدولة عصرية حديثة واستئثار الرجل بالمكاسب المادية والمعنوية للتطور والحياة المدنية الجديدة.
التمييز ضد المرأة في وظائف الدولة وفي الحياة العامة ما زال ملموساٍ. وهذا ما نلاحظه في قصص الكاتبات الهنديات. رغم التوجه العلماني للهند الذي يلغي التمييز بين الجنسين.
يورد معد الكتاب د.فاندانا آر.سينغ ملاحظة تصب في هذا السياق:
” لعل الازدواجية التي تقع فيها المرأة ـ كونها امرأة وفي مجتمع محافظ إلى حد بعيد ـ قد جعلت قصص أولئك الكاتبات تعكس ذلك البعد الموضوعي الناجم عن كونهن على هامش المجتمع”(6).
لا يغيب عن البال أن الكاتبات المختارات قد تلقين تعليماٍ جيداٍ وشغلن مواقع مرموقة وحققن لأنفسهن مكانة اجتماعية عالية وهن عموماٍ غزيرات الإنتاج وحصدن الكثير من الجوائز ونلن اعترافاٍ واسعاٍ في الأوساط الأدبية المحلية والدولية بأصالة كتاباتهن ولقد سخرن مواهبهن وشهرتهن للدفاع عن قضايا المرأة وحقوقها بصفة خاصة وعن البشر الذين يطحنهم الظلم والبؤس بصورة عامة ومن بين السطور تتطاير شرارات التحريض ضد الظلم والاستغلال.. يستشعر مترجم الكتاب د. عبدالوهاب المقالح هذه النبرة التحريضية في قصص الكاتبات الهنديات ويذكر الملاحظة التالية في مقدمته:
” الكثير من هذه القصص تمسك القارئ من تلابيبه وتدخله فيما يشبه كابوساٍ لا يستطيع الفكاك منه إلا بعد الفراغ من قراءة القصة. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن أجواء القصة وأحداثها ومواقف شخوصها تظل تتردد في ذاكرة القارئ ومشاعره وكأنما تحثه وتفرض عليه أن يصوغ رأياٍ ما أن يتخذ قراراٍ ما ألا يقف متفرجاٍ محايداٍ. وتلك لعمري هي غاية ما يطمح أي مبدع أن ينجزه”(7).
سوف ندرك عندما نقرأ هذه النوعية الراقية من القصص أن في الهند ثروة من الأدب القصصي الرفيع المعاصر وأن كل هذا النتاج الإبداعي مْغيب عنا بسبب تركيزنا على ترجمة وقراءة الآداب الأوروبية.
كتاب “لكل ما يخصها” بقصصه الاثنتين والعشرين هو نبض الهند الجديدة الساعية إلى النمو والتطور وتحقيق حلم الحداثة والعدالة والحرية.
(1) لكل ما يخصها: قصص إعداد د.فاندانا آر.سينغ ترجمة د. عبد الوهاب المقالح هيئة أبوظبي للثقافة والتراث “كلمة” 2010.
(2) المصدر نفسه ص 47 و 48.
(3) المصدر نفسه ص 197.
(4) المصدر نفسه ص 208.
(5) المصدر نفسه ص 148 و149.
(6) المصدر نفسه ص 5.
(7) المصدر نفسه ص 9 و 10.

قد يعجبك ايضا