الفن الرقمي.. مرآة الوحدة وذاكرة الأساطير

أدى اختراع الكمبيوتر إلى تغيرات جذرية في الحياة الإنسانية فهذه الآلة العجيبة اقتحمت كل مجالات العمل الإنساني وباتت تمثل محورا رئيسيا في مختلف التخصصات فعلى أنها تبدو فضاء مختلفا من حيث أنها لا تكاد تحاكي أي شيء في الطبيعة أو في الواقع العملي إلا أنها تكاد تؤدي أكثر من مهمة وتفتح أكثر من أفق. فهي تؤدي دور الآلة الكاتبة والكتاب والريشة واللوحة والألوان وبات من الطبيعي أن تهدد كل تلك الابتكارات السابقة التي عرفتها الإنسانية لكنها لم تفعل ذلك بقدر ما خلقت فضاءات متجددة وأحدثت تغييرا جوهريا فيها أو على الأقل أنتجت أدبها الخاص أو فنها الخاص.
فيما يتعلق بالفنون دخل الحاسوب السينما والتصوير والإخراج الصحفي والجرافيك لكنه خلق فنا خاصا به فظهر ما يسمى بالفن الرقمي وعلى أنه لم يكن ليغني عن الرسم بالفرشاة والألوان الكيميائية إلا أنه مثل متسعا واضحا لممارسة الهواة الرسم على الحاسوب وعبر الفوتوشوب والبرامج المشابهة ظهرت لوحات فنية بصرية غاية في لإدهاش والجمال والاختلاف عن كل ما عرف في الرسم التقليدي.
تغرق لوحات الفن الرقمي في التجريدية وتتميز بالجاذبية العالية والاستخدام السخي للألوان والخطوط اللامنتظمة أو غير المتوازية تمشي في حركات دائرية ومتداخلة لكنها تحمل حركة ما كأنها تحاول كسر جمود أو ركود الذات خلف شاشة الحاسوب وهي لوحات بالطبع معظمها من هواة وليسوا فنانين تقليديين لكنها تعبر عن ذوات تركض خلف زهو اللون ونبض الصورة.
من النادر جدا أن نجد رسومات حسية “لأشخاص أو لأشياء أو أشكال في الطبيعة” في أعمال المشتغلين بالفن الرقمي لكن هذا سوف يتجلى في مجالات أخرى غير الرسم “اللوحة” وسيظهر لنا فن الانيميشن حيث الرسم حركة وثلاثة أبعاد وكون مختلف هو مزيج بين الرسوم المتحركة والسينما والشغل الرقمي على إنتاج عوالم موازية للعالم الواقعي وأكثر محاكاة له لكنها لا تخلو من الطرافة والخيال.
ربما لا يمكن أن يكون الرسم على الحاسوب أكثر دقة من الرسم “التقليدي” لهذا يصعب اشتغال البورتريهات مثلا لكن ثمة برامج سوف تفعل ذلك بحركة واحدة أو عدة حركات وهي تحول الصور الفوتوغرافية إلى رسم خالص مع هذا فإنها سوف تفتقر للحس الفني العالي الذي يمكن للرسم باللون الكيميائي وعلى اللوحات حيث يمكن أن تكون الرؤية الفنية للفنان الذي يمسك بالريشة حاسمة وجوهرية.
لهذا سوف نجد الفن الرقمي أو الاشتغال على لوحات “رقمية” يتجه نحو عوالم تجريدية بحتة وأكثر ابتكارا واختلافا عن الواقعي والطبيعي إنها معركة اللون والحركة والتجريد حيث لا اقتصاد في الألوان ولا معنى للصمت ولا قبول به ولا مجال للحسي إلا بجوار كثافة اللون أو تمثيلها.
خطوط وألوان تتماوج في حركة مركزها اللون مجردا من ثقل الطبيعة ومنهمكا في ذاته وداخل ذاته وإلى جوار ذواته المتباينة كما لو أنها صدى ذات “الفرد” مندمجا ومغرقا في عوالم الحاسوب حيث تأسرك شاشة زرقاء وتقطع صلتك بكل ما حولك وتحولك كائنا هو أقل من أن يكون مشدودا إلى ماضيه أو إلى ضجيج العالم من حوله كل شيء صوري وتجريدي على الشاشة التي تنفرد بك.
الهوة الاجتماعية التي أحدثها الكمبيوتر خصوصا في ظل الإنترنت يمكنها أن تتجلى على هذا النحو في الفن الرقمي وهو يسافر على متن تجريدية ومعها لكنه قبل ذلك يكاد يكون انعكاسا لعوالم داخل هذه الآلة لا يبدو أنها تحاكي شيئا ما في الطبيعة بقدر ما يبدو عليها محاكاة لنموذج سابق في عالم المثل حيث تجاربنا السابقة و”كهف أفلاطون”.
جانب من اللوحات الرقمية يكاد يكون تذكرا ما أو حالة من حضور الكوامن في اللاوعي الفردي أو الجمعي فالخطوط والتموجات قد تقترب من خربشات العصابيين عند فرويد لكن الأشكال الحسية وهي تبدو أقرب إلى سوريالية سلفادور دالي لا تحمل تلك الرؤية أو ما فوق الواقعية التي تعتبر أفق السورياليين كما في أعمال روادها بقدر ما تحمل مزيجا من القصدية أو تعمد الإدهاش والاختلاف في الابتكار والخيال والحس المتجاوز للواقع الحسي والمألوف لكنها “خصوصا في اللوحات التي تلعب على صورة الحيوانات” وتضفي عليها خيالا ما تقترب من أشكال تخيلناها في الحكايات أو هبطت من الأساطير.

قد يعجبك ايضا