المدرهة: موروث شعبي صنعاني بأهازيج فرائحية


هاهو موسم الحج قد أوشك على الانتهاء وحان الوقت كي يعود الحجاج سالمين إلى أوطانهم بعد أن أدوا فريضة تعد أحد أركان الدين الإسلامي الحنيف ووحدهم سكان صنعاء القديمة الذين يتفردون عن غيرهم بطقوس وعادات ارتبطت ارتباطاٍ وثيقاٍ بهذه الفريضة التعبدية ولا تحضر هذه العادات إلا بحضور الحج وتوارثها سكان صنعاء القديمة ولا زالوا يقومون بها رغم تطور الحياة وحداثتها وقصر مدة الحج بعد تطور وسائل المواصلات بعد أن كان الحج قديماٍ يستمر لأشهر عديدة..
فالمدرهة تراث صنعاني بامتياز يحضر أيام الحج ويحمل بين ثناياه حنيناٍ ولوعة وشجناٍ ومرارة الفراق بين الحاج وأهله وجيرانه وترقب العودة بالسلامة.

العام الماضي كنا عندما نمضي في مثل هذه الأيام بين أزقة وحارات صنعاء القديمة تسمع أصوات الأهازيح تحترق مسامعك لحسن كلامها وقوة الكلمات ومدى تأثيرها في المتلقي ربما أن التجول كان يتم في معظم الأحيان نهاراٍ فإن الأصوات التي تسمعها على خفوت تعود لنساء وفتيات يعبرن بأهازيج متوارثة عبر الأجيال السابقة عن حنينهن وانتظارهن لعودة الحاج أو الحاجة أو كليهما معاٍ وربما أفراد متعددون من أسرة واحدة أو من حارة واحدة وتسمعهن يردد تلك الأهازيج التي ترافق بتدره عبر مدرهة نصبت في أحد أحواش المنازل القديمة أو ما تسمى في مدينة صنعاء القديمة “الحوي” وقد تكون هذه المدرهة مثبتة وموجودة منذ زمن في هذا الحوش أو يتم تركيبها حتى موسم الحج.

بعد اجتماعي
وتقول الباحثة في الموروث الشعبي اليمني أمة الرزاق جحاف –وكيل الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية- أن منشأ المدرهة كتراث شعبي كان في مدينة صنعاء القديمة وقد تكون بعض المناطق الغربية من صنعاء قد تأثرت وانتقل إليها هذا التراث لكن أساسه صنعاء القديمة.
وأوضحت أن المدرهة هي لعبة ذات بعد اجتماعي كبير يرتبط ارتباطاٍ وثيقاٍ بالحج وهو تعبير رمزي عن مدى حب الأهل والجيران والأصدقاء وترقبهم لعودة من ذهب أو ذهبوا إلى الحج ففي الصباح والعصر تتدره النساء والفتيات اللواتي يقمن باختيار اثنتين منهن ممن يحفظن الأهازيج واحدة تردد والأخرى تجيب وكلاهما فوق المدرهة تتدرهان والأخريات إما يستمعن وإما يرددن وراءهن.
وقالت أمة الرزاق: أعتقد أن المدرهة بهذه الطقوس والأهازيج ربما تعود جذورها إلى ما قبل الإسلام فقد كان الناس قبل الإسلام يحجون إلى مكة والمدرهة نوع من أنواع التسلية لكنها في اليمن تتحول في موسم الحج إلى فعل يرتبط بالواجب الاجتماعي نصت عليه أعراف وتقاليد متوارثة فالتدره شمالاٍ وجنوباٍ ذهاباٍ وإياباٍ يدل على ذهاب الحاج اليمني إلى الحج شمالاٍ وإيابه تعني عودته جنوباٍ إلى اليمن وفيه تفاؤل بعودة الحاج إلى أهله سالماٍ كون الحج في السابق كان محفوفاٍ بالمخاطر وتظل المدرهة كنوع من المساهمة لدى أسرة وعائلة الحاج ومعاونتهم حتى لا يشعروا بغياب أحد أفراد الأسرة أو أفراداٍ من الأسرة عنهم فقد كان الحاج يسافر قديماٍ لأداء هذه الفريضة لأشهر عديدة وبالنظر إلى الأهازيج التي تردد أثناء التدره والتي لا يعرف مؤلفها فقط تراث متوارث يتناقله الناس تدخل كلمات هذه الأهازيج عن مدى الترابط والرقي في العلاقات الاجتماعية بين الناس حتى من مناطق بعيدة مثلاٍ.

قد جيت أدره واعتني من بلاد بعيدة
ومن بلاد خلف الجبال ياريتها قريبة
وهو نص مشهور في أهازيج القدرة وهذا يدل أن أناساٍ يأتون من مناطق بعيدة للمشاركة في الندوة مع أهل الحاج وجيرانه وبالتالي يصبح التدره أو المدرهة هنا ليست تسلية وإنما واجب اجتماعي فيه التزام وحرص على الحضور والتواجد.
حنين وعاطفة جياشة
وكشفت الباحثة جحاف عن وجود المرأة في بعض الأهازيج وأن النساء ربما يكن وراء تأليف بعض تلك الأهازيج لاسيما التي تصف لحظة مغادرة الحاج بيته وفراق أهله وأبنائه وكيف يكون المنزل في غيابه حتى في الأهازيج التي فيها حنين ولهفة وشوق للحاج وقد تكون النساء ربما وراء تأليف معظم الأهازيج وضربت مثالاٍ بعدد من النصوص.
صر المكان من وحشته
وقال مع السلامة
أيضاٍ في الأهازيج التي تصف حال الأبناء وفقدانهم لوالدهم خاصة الصغير منهم وهذا حتماٍ لا تعلمه إلا النساء تقول:
ياحمامة عرفة حومي وحومي واحذرش تنومي
واعرفي وين حجنا هو دقيق خضراني
إلى آخر الأبيات التي فيها كلام للحمامة بأن تراقب حجنا وإلى أين وصل وكيف حاله وحين يرجع وتوصي الطريق بأن تزرع رمان من أجل تظلل الحاج وليماٍ من أجل يروي ظمأه وكلها كلمات تحمل عاطفة جياشة وحنيناٍ وخوفاٍ وهذا مما يدل أن وراء تلك الأهازيج امرأة..
كذلك عندما يحن وقت العودة تبدأ الأهازيج الكلام عن من سيحل البشارة للأهل بعودة حاجهم وماذا يمكن أن يقوم له كبشارة تحمل الكثير من الفرح والسعادة للأهل ومنها مبالغة تنص عليها الأهازيج مبالغ مالية كبيرة أو قصر أو أرض وتستقر على خاتم من ذهب تخلعه المرأة لتعطيه لصاحب البشارة.
وأكدت جحاف أن هذه العادة كانت قد أوشكت على الأفول والاندثار لولا تعاون بعض رجال الأعمال من أبناء صنعاء القديمة وعلى رأسهم الحباري والكبوس والذين دعموا عودة هذه العادة أو الموروث الحضاري الذي تمتاز به صنعاء القديمة والتقطت الفكرة الباحثة في مجال الموروث الشعبي أروى عبده عثمان رئيس بيت الموروث الشعبي وقامت بعمل مهرجان المدرهة في مسرح الهواء الطلق بصنعاء القديمة الأمر الذي أدى إلى خلق نوع من الوعي لدى الناس بضرورة العودة إلى هذا الموروث الحضاري الكبير الذي تشكل صنعاء القديمة موطنه الأصلي.

توثيق خارج صنعاء القديمة
وأشارت إلى أنها تسعى إلى توثيق المدرهة خارج صنعاء القديمة والفرق بينها وبين المدرهة داخل صنعاء القديمة سواء من حيث الأهازيج أو الفعاليات التي تقام على هامش المدرهة.
إصرار على إقامة المدرهة
وهنا يقول الأخ سعودي العلافة والذي يعد من أبرز الأشخاص الذين لا يزالون يحيون هذا الموروث وأصبح مرجعاٍ للكثيرين من سكان صنعاء ويشارك في الكثير من المداره التي تقام في مختلف الحارات كما أنه يعمل كل عام على احياء مدرهة الفليحى التي تقام في بستان الفليحي وبصورة مستمرة سواء كان هناك حجاج من أبناء الحارة أم لا يقول : لازلنا حريصين جداٍ على هذا التراث الجميل والآن أنا ذاهب لتركيب المدرهة وتجهيزها للبدء بموسم جديد وقد أصبحت كل عام أنتظر موسم الحج لامارس هذه العادة التي أحرص على إقامتها سنوياٍ كي أجعلها حاضرة لدى الناس يحرصون على إقامتها وعلى تذكر كلماتها,ربما أن صنعاء تعد الموطن الأصلي للمدرهة إلا أنها استطاعت أن تؤثر على بعض القبل المحيطة بها منها همدان وبني مطر وقرية القابل وأجزاء من المحويت وكذا أرحب وبني حشيش إلا أن المدرهة في تلك القبل تختلف نوعاٍ عن صنعاء القديمة صحيح أن المدرهة في صنعاء القديمة لها ذوق ونمط مميز جداٍ كونها تأتي من وسط بساتين ومزارع صنعاء القديمة إلا أن المدرهة في القبل الأخرى كذلك حاضرة ويقوة وتترافق مع أنشطة أخرى فترى الرقص الموجود لدى الرجال وتحديداٍ رقصة البرعة وتختلف أهازيجها وكلماتها فها أيضاٍ نوع من التمثيل لإدخال الفكاهة والضحك أيضاٍ إحضار ثور وتزينه بالمشاقر وتميل أهازيجها إلى النمط القبلي أما في صنعاء فيتم الاحتفاء بالتدرة وعمل مجسم صغير كملابس الحاج فوق المدرة وإذا كانت حاجة ملابس امرأة من الفلكلور الصنعاني وان سوياٍ ملابس تقليدية للرجل والمرأة تعلقان على يمين وشمال المدرهة وتم إحضار الكعك وجعال العيد لكافة المتدرهين..
وعن أوقات إقامة المدرهة يقول العلاقة كان في الماضي تبدأ من أول العشر وتنتهي في عشرين من ذي الحجة أما الآن تبدأ من أول يوم العيد أي في العاشر من ذي الحجة إلى عشرين ذى الحجة حتى يصل الحاج ويتدره معهم ويختتم معهم التدره ويحضر الجميع عنده للمقيل وتهنئته بإتمام الفريضة والعودة سالماٍ.
ولفت سعودي إلى أن الدعوات التي وجهت له هذا العام الحضور التدره لدى بعض الناس الذين سافر لهم حجاج كثيرة جداٍ وفي حارات متنوعه كونه يحفظ الأهازيج جميعها ومن أكثر العارفين بهذا الموروث الأصيل وهذا يدل على كثرة الحجاج هذا العام من صنعاء القديمة إلا أنه أوضح أنه سيحاول تلبية كل الدعوات وأيضاٍ الحرص على إقامة المدرهة التي يرعاها كل عام مدرهة الفليحي ودعوة الناس لحضورها ودعوة من لديهم حجاج للمشاركة فيها:
تراث صنعاني بامتياز
من جهة يقول الأخ محمد أحمد الطويل من أبناء حارة داود بصنعاء القديمة أن المدرهة تراث صنعاني بامتياز تحرص كل أسرة لديها حاج أو حجاج على إقامتها ولابد على الجيران أن يشاركوا فيها دون تردد فهى جزء من التعاون والمؤازرة لأسرة الحاج حتى يعود حاجهم .
أضاف: وبالنظر إلى كلمات الأهازيج التي حتى الآن لا تعرف من مؤلفها نجد فيها لفهة وحنيناٍ ومشاعر فياضة تدل على مدى الترابط الأسري الذي كان سائداٍ آنذاك ألا أننا نلاحظ أن المدرهة لم تعد تقام كما كانت عليها سابقاٍ فلم تعد النساء يلتزمن بها بمعنى إذا أقمت مدرة لأحد كان في السابق من العيب على النساء جميها أن لا يكن حاضرات في المدره وأصبحت النساء منشغلات بالعيد وملابس العيد وطقوس العيد الخاص بهن ورحلات التفرطة أكثر من المدرهة, وكذلك الرجال أصبحنا نلاحظ وجود البعض منهم وخاصة كبار السن بينما الشباب غير مهمتين بتراث آبائهم وأجدادهم وهو ما يفسر غيابهم عن المدرهة وأوضح أن والده حج قبل أكثر من سبعين عاماٍ ومكث في رحلة الحج أربعة أشهر وقيل له أن المدرهة لم تتوقف حتى وصل أبوه لأنه حينها لم يكن ولد بعد وأن أفراداٍ من الأهل والأصدقاء استقبلوا والده تخوم صنعاء وتحديداٍ منطقه الأزرقين وهي كناية عن مدى الترابط الاجتماعي الذي كان سائداٍ آنذاك وعن الرحلة الشاقة التي كان يساوها الحاج إلى مكة وعندما عاد والده تدره معهم واحتفلوا جميعاٍ بعودته سالماٍ غانماٍ
وعبر عن تقصيره بحضور حفلات التدره داخل صنعاء القديمة متعذراٍ بأعماله الكثيرة إلا أنه أكد أن الكثير من نصوص وكلمات الأهازيج لازالت حاضرة في ذاكرته وبقوة لأنها ترتبط بالمشاعر والأحاسيس التي يصعب نسيانها مشيراٍ إلى وجود مدره دائمة في حوش منزلهم يتدره فيها الناس أيام الحج ويقصدها القريب والبعيد وهي مفتوحة للجميع روالده من أشد المتمسكين بهذه العادة الصنعانية الجميلة.

مقتطفات بعض الأهازيج
وبالعودة إلى الأخ سعودي العلافة والذي طلبنا منه أعطاءنا جانباٍ من النصوص والأهازيج التي تقال أثناء التدره يقول عند خروج الحاج:
ردع من الشارع يقول في ذمتش عيالي
في ذمتش زرع الكبد أما الصغير غالي
في بداية التدره:
بالمدرهة بالمدرهة من ركبش عشية
من ركبش على القمر والشمعة المضية
أو
ياسلوس المدرهة وما لصوتش واهي
قالت أني واهية وما حد كساني
وكسوتي مصنف حرير واربع خشب رماني
أثناء أدائه للحج
ياحمامة عرفة حومي حومي
لاعرفي لي حجنا
وهو دقيق خضراني
أو
يا مقهوي في منى
قم قهوي الحجاجي
قم قهوي الحجاج جميع
لا قاصياٍ وداني
وعندما يوشك على العودة وفيها أهازيج كثيره منها
يابحر بيت الفقية
كن رزى الأمواج
كن رزلي البحر العميق
لخطيت الحجاج
أيضاٍ:
يامبشر بالحجيج بشارتك بشارة
بشارتك دار الحجر وتتبعه شرارة
باحجنا ياحجنا قم شد لك بلادك
تم شد لك بين أخوتك وبين زرع أكبارك
وأخرى تقول:
با أخو الحجيج قوم أحتزم والقا أخوك
لا والفقه الفقه ملوك وأقرع الطيساني
وأخرى مطلعها يقول عند الوصول:
ياسلام العيد سلام يبلغ الحجاج
لايبلغ الحجاج جميع لاقاصياٍ وداني
وكل ماسبق عبارة عن مقتطفات من بعض الأهازيج التي لو ذكرت جميها فلن يتبع المجاد وقد نحتاج إلى صغي في عديدة

قد يعجبك ايضا