بكيل المحفدي
مثلما للمعابد كهنتها.. فلمحاريب الشعر نساكها، ونحن الآن أمام ناسك فذ وقديس في محاريب الدهشة، نمخر عباب هذا الديوان زمان المعنى لنطوف حاملين بيارق الحب والأمنيات، متشحين بجلابيب الأمل المنشود لقادم أفضل.
يتغني بالوطن وحبيبته الأرض في كثير من القصائد التي تعكس الولاء للوطن، للأرض، للإنسان.. ليجسد تجربة شعرية أصلها ثابت وفرعها في السماء.
ثلاثة وستون عنوانا تحمل مفاتيح النصوص في 159 صفحة تنسكب ينابيع خضراء لتروي جدب أرواحنا المتعطشة للشعر وللجمال، فكل عنوان قائم بحد ذاته، وكل عنوان قصيدة مكتملة، كل عنوان في هذا الديوان يعكس تجربة اربعين عاما من السفر المضنى في قفار الدهشة وبساتين الشعر، ليحط رحاله في معاقم هذا الزمن الممهور «إذا الروح يامنت».
ليس ذلك المعنى بحبيبته فحسب، ولكن المعنى بالهم الإنساني والوطني.. وبالأرض التي انبثق من رحمها هذا المولود الخامس أو السادس مفتخرا بصفة التبني للأستاذ محمد إسماعيل الأبارة..
كان الإهداء المميز الذي ينسل الحزن منه في أوردة السطور وعروق الكلمات، وكان النبض المسموع في بقية النصوص خفاقا لا يكل..
وكان الطواف الماتع إيقاعا يمنياً شعراً ولحناً، تموسقه الخطى، وتتراقص له الدروب، وتزقو له عصافير القلب، ليس ايذاناً بقدوم شاعر ولكن ايذاناً بعظمة المنشأ، وحداثية الأسلوب وإيجاز المعنى ورقي المبنى.
إنما صاغة القريض قليل
وكثير شداته ورواته
كانت المناجاة جلية في النص، كان الهمس مواربا أبوابه لأحاديث النجوى.
وكان الصخب والتمرد والعنفوان يشدان أزر الزوايا والأمكنة، التي أرخ لها الاستاذ محمد اسماعيل في نصوصه، ليوثق اللحظة تلك.
زخم حاضر.. وشوق موارى
غزل شب وانثنى وتبارى
شب عن طوق كل لحن انيق
حائما في الذرى.. يذوب انتظارا
زرع الأرض أحرفا وسقاها
بكؤوس الحنين ليلا نهارا
لثم الوجد فانثنى في الأقاصي
راعف الدهشة التي لاتبارى
فاكتسى الشعر ساحرا يتجلى
والمريدون حوله كالسكارى
عصر الحزن غيمة فاستحالت
قطرات الندى بكفيه نارا
وانثنى فارسا يصول زئيرا
في الميادين شاعرا مغوارا
في شموخ جبال ريمة وأفيائها الغناء، من خضرة بساتينها وناسها الطيبين ومهاجلها المحفوظة ومهايدها المنحوتة في جدران الذاكرة والذي امتشق منها الأستاذ محمد اسماعيل الأبارة ما يشي بأننا أمام هامة ومدرسة شعرية جاءت امتدادا لمدارس شعرية يمنيه تمثلت في الشاعر الدكتور عبدالعزيز المقالح والشاعر عبدالله البردوني -رحمة الله عليهما.
برغم الظروف التي تعيشها بلادنا إلاّ أن الزخم الشعري الذي يغتلي في عروق شاعرنا الأبارة مازال صهيلاً مدهشا يشنف الأذان، ويتوج الهامات، ويبهج الأرواح، هكذا جاءت الدواوين مضمخة بماء الروح، محناة بالوله، مؤطرة بالوجد، وناطقة بالوجود.
هكذا هو أبارة الشعر حينما يموسق الكلام ويسكبه ملء الفناجين مواويلا من شجن وأناشيداً تغنيها الكائنات وتعزفها الشرايين وترقص على إيقاعها القلوب.
خلد الشعر هذه الروح المترعة بالبهاء سطوراً مبجلة، ومعاني من الولاء، تجنح في هذا الفضاء الحر حين تصفق بأجنحتها، لا يحدها حد، ولا تقيدها مسافة.
كتب للأرض كتب للروح، كتب للطبيعة ..تفوح غصون السيسبان في كلماته، ونشتم ذلك عنوة في كثير من النصوص التي تعطر الجوانح، نشعر برذاذ المطر وزخاته العطشى في معانيه التي تهمي بالحياة في الكلمات.
تنداح الوطنية في النصوص التي تعكس كيفية ترجمته أوجاع البلاد إلى قوافٍ مسجاة بالوجع، تزأر أحيانا، وتتمرد في أحايين جمة.
عاطفي النكهة، غزلي المضمون.. وهكذا هو الشعر حينما يكون الحب روح القصيدة، ونبض المعنى.
جايل الكثير. ومرت على عارضيه السنوات، فنضجت كرمة الشعر على يديه وتدلت يانعة القطوف، مثمرة المذاق، عالية القيمة.
يحيا الشعر على يديه، وتزهر القافية من فمه، ويتغنى كمدنف مغرم تكتحل الجُمل بقدومه الوارف، وتحتفي الأبجدية به شاهداً مثل دار الحجر، ومثل سد مأرب وشلالات وادي الضباب، وقصور أسعد الكامل، وصهاريج عدن، وباب اليمن مع أبوابه السبعة، هكذا يختصر الشاعر محمد إسماعيل الأبارة الأزمنة والأمكنة.