نواف الزرو
اُعتبرت المجزرة التي اقترفت في قلب الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة خليل الرحمن في الذاكرة الوطنية الفلسطينية، من أخطر الانتهاكات والاعتداءات والجرائم التي اقترفتها قوات جيش الاحتلال وعصابات المستوطنين اليهود ضد الخليل وأهلها، اذ تسلل المستوطن الإرهابي باروخ غولد شتاين الى داخل الحرم، صباح الجمعة الخامس عشر من شهر رمضان 1414هـ، أثناء صلاة فجر ذلك اليوم، مرتديا الزي العسكري حاملاً سلاحه، متخطياً جميع المشاعر والقيم والمبادئ، وباشر بإطلاق الرصاص على المصلين الركع السجود فسقط العشرات منهم، وبلغ عدد الشهداء في تلك المجزرة 29 شهيداّ داخل المسجد، 31 خارجه، ووقع أكثر من 150 جريحاً؛ تضرجت رحاب الحرم الإبراهيمي الشريف بدماء المصلين الطهر الأبرياء. وفي أعقاب المجزرة، فرضت سلطات الاحتلال منع التجول على المدينة، وأخذ اليهود يرتبون الأمور داخل الحرم وفق أهوائهم ليحيلوه إلى كنيس يهودي بحجة الفرز بين المسلمين واليهود، وأدخلوا الكثير من التغييرات على وضع الحرم، بغية تهويده وتكريس هذا التهويد كأمر واقع ودائم.
وكان من أخطر تداعيات المجزرة على أوضاع أهلنا في مدينة خليل الرحمن، وعلى أوضاع الحرم الإبراهيمي الشريف أن كرست سلطات الاحتلال حالة التقسيم والهيمنة والتهويد التي قامت وتراكمت على مر السنين جراء مخططات وإجراءات التهويد في المدينة.
المجزرة في قلب الحرم الابراهيمي
عودة إلى واقعة المجزرة المروعة، ففي صباح الجمعة الموافق الخامس عشر من شهر رمضان 1414هـ، الموافق 25 /2 /1994م (1)، وأثناء صلاة فجر ذلك اليوم تسلل المستوطن الإرهابي باروخ غولد شتاين مرتديا الزي العسكري حاملاً سلاحه، متخطياً جميع المشاعر والقيم والمبادئ وباشر بإطلاق الرصاص على المصلين الركع السجود، فسقط العشرات منهم، وبلغ عدد الشهداء في تلك المذبحة 29 شهيداّ داخل المسجد، 31 خارجه، ووقع أكثر 150 جريحاً. وشكلت هذه المذبحة البشعة بلا وصف، ذروة الإرهاب الدموي الذي اقترفته دويلة / عصابات المستوطنين اليهود في منطقة الخليل، وفي أعقاب المذبحة، فرضت سلطات الاحتلال منع التجول على المدينة، وأخذ اليهود يرتبون الأمور داخل الحرم وفق أهوائهم ليحيلوه إلى كنيس يهودي بحجة الفرز بين المسلمين واليهود، وأدخلوا الكثير من التغييرات على وضع الحرم، بغية تهويده وتكريس هذا التهويد كأمر واقع ودائم”(2).
المجزرة كما رواها شهود عيان(3):
وحتى لا نتوه في كم هائل من التفاصيل المتعلقة بالمذبحة، فإننا نوثق هنا تـفاصيل المذبحة كما رواها عدد من الجرحى والشهود العيان:
مخازن رصاص ودماء وأشلاء:
قال شهود عيان: إن المستوطن الإسرائيلي الذي ارتكب مذبحة المسجد الإبراهيمي نفذ عمليته على مرأى ومسمع جنود يحرسون المسجد والذين لم يحركوا ساكناً لمنع القاتل الذي استخدم عدة خزانات ذخيرة ونفى الجيش هذا التقرير.
وقال محمد سليمان أبو صالح وهو أحد خدام المسجد وعمره ( 22 عاماً ) إن 500 مصلٍ على الأقل كانوا بمسجد الحرم الإبراهيمي الشريف لحظة وقوع الحادث. وأكمل أن المسلح “كان يحاول قتل أكبر عدد ممكن وتناثرت الجثث على أرضية المسجد وتلطخت بالدماء. حاول مصلون كانوا ساجدين في ذلك الوقت الهرب هلعاً ووقع بعضهم على الأرض”.
وقال أبو صالح “صحت بأعلى صوتي للجنود كي يأتوا ويوقفوه إلا أنهم لاذوا بالفرار. وغيّر المسلح خزنة البندقية مرة واحدة على الأقل وقتل سبعة أشخاص على الأقل في الحال مرة واحدة بعد أن تناثرت محتويات مخهم على الأرض”. ومضى يقول “ظل يطلق النار لمدة عشر دقائق ولم يتدخل الجيش حتى انتهت المذبحة”.
وقال هاني أبو عشيش في وقت لاحق خارج مستشفى الخليل حيث قام رجال الإسعاف حوله بنقل الجثث على محفات “كنا على وشك أداء الصلاة وبدأ في إطلاق الرصاص”. وأكمل أبو عشيش “أن المسلح الملتحي كان يرتدي غطاء الرأس اليهودي التقليدي”.
وقال شهود إنه أطلق خمس مخازن من الذخيرة. وقال موظف إغاثة فلسطيني بالأمم المتحدة كان بداخل المسجد للصحفيين بعد ساعات من الحادث “درجات السلُّم مغطاة بالدماء بل توجد أشلاء”.
وتوقفت الحياة في الأراضي المحتلة التي يعيش فيها أكثر من مليوني فلسطيني، وأغلقت المتاجر بينما قام السكان بدفن شهداء المذبحة. أما في المستشفى الأهلي في الخليل فقد كان الوضع شاهداً على الجريمة البشعة، الشهداء والجرحى الفلسطينيون في مجزرة الحرم الإبراهيمي كانوا هناك، وكان أيضاً هناك بالإضافة إليهم ضحايا رصاص الجنود الإسرائيليين المتمركزين بالقرب من المؤسسة الطبية.
الفوضى كانت عارمة وشاملة، مئات الفلسطينيين من أبناء الخليل تدفقوا فور انتشار نبأ المجزرة للسؤال بقلق وخوف لا حدود لهما عن مصير قريب، وأتى آخرون لتقديم الدماء وتزاحمت الشاحنات الصغيرة المنطلقة بأقصى سرعتها والمطلقة أبواق الإنذار لنقل أدوية وضمادات جمعها صيادلة المدينة، بالإضافة إلى ما تيسر من عبوات الأوكسجين والمياه المعدنية فيما كانت سيارات الإسعاف تطلق صفاراتها محاولة شق طريقها إلى المستشفى.
الفلسطينيون الذين تملكهم الغضب، أخذوا يقذفون الجنود الإسرائيليين على حافة الطريق المحاذي للمستشفى بالحجارة وبشعارات النار والفداء “بالدم وبالروح نفديك يا شهيد” – ” كلنا فداء للإسلام والله معنا”.
الجنود الإسرائيليون فتحوا النار . فتحوا النار على الصدور . سقط عدد جديد من الفلسطينيين . المستشفى لم يكن بعيداً . نقـلهم رفاقهم إليه على الفور . فاختلطت في بلبلة لا توصف حمالات جرحى وضحايا مجزرة الحرم الإبـراهيمي بحمالات الضحايا والجرحى الجدد. مرضى المستشفى.. المرضى العاديون كانوا بملابس النوم، هبوا من نومهم للمساعدة على نقل الحمالات إلى الداخل، ومن كان يجهل الطريق إلى غرف العمليات لاحظ دماء على الأرض بارزة تدله، ومن لم يجد المكان المناسب أسعف مصابا على الأرض في المكان. طفل لم يبلغ العاشرة من العمر استشهد في مكان لم يحدد ينقل من المستشفى على ملاءة بيضاء ملطخة بالدم. رائحة الدم والموت عبقت داخل المستشفى، مئات النساء المولولات تدافعن أمام قائمة علقت على جدار، القائمة حملت أسماء الشهداء، وضعها الأطباء والممرضون الذي تمكنوا من المحافظة على هدوئهم، لقد خبروا مثل هذا الرعب وعليهم توقع المزيد.
الرعب ينتشر من جديد في الحشد، الجنود هاجموا من جديد، تقدموا على الطريق المؤدي إلى المستشفى. أطلقوا النار، تدافع المئات وسقط من جديد فلسطينيون جرحى، يصرخ ضابط، لقد أعلن حظر التجول في المدينة وعلى الجميع العودة إلى منازلهم.. الأوامر لن تنفذ.
الجنود شاركوا في المذبحة
يواصل عدد آخر من الشهود العيان الذين عاشوا تفاصيل المذبحة الرهيبة: “سمعنا أثناء السجود صوت انفجار مكتوم.. تبعه انفجار آخر.. ثم انهال علينا الرصاص من كل صوب.. وفوق رؤوسنا كانت الرصاصات تئز كأنها أسراب نحل تجوب المسجد”. يغمض محمد زياد جابر ( 28 عاماً ) عينيه وهو يتذكر ما حدث خلال المجزرة التي وقعت أثناء صلاة الفجر يوم الجمعة في الحرم الإبراهيمي. ويضيف “علمت فيما بعد أن الانفجار المكتوم هو قنابل يدوية انفجرت في أجساد الساجدين فأصدرت صوتاً مكتوما، كما شاهدت الحاقد اليهودي باروخ غولدشتاين الذي نسبت إليه المصادر الإسرائيلية مسؤولية المجزرة، وهو يختبىء خلف عمود ويطلق النار على المصلين، إلا أنني التفت عندما أصابتني رصاصة من الجهة المقابلة، نظرت فشاهدت مستوطنين آخرين يطلقون النار”.
ويقول جابر “حاول سليم إدريس الانقضاض على القاتل، إلا أنه استشهد عندما هاجمه مستوطنون آخرون فتحوا نيران أسلحتهم عليه لحماية زميلهم”، مؤكداً أنها لم تكن مجزرة واحدة، بل ثلاث مجازر”. وأشار إلى أن المجزرة الأولى وقعت داخل الحرم، بينما وقعت الثانية في ساحة الحرم، أما المجزرة الثالثة فقد وقت في محيط المستشفيات وداخل المقابر. ويضيف: الجنود شاركوا في المجزرة أكثر من المستوطنين”.
أما الشاب طلال حامد أبو سنينة ” 33 ” عاماً والذي أصيب بعيارات نارية في الكتف واليد اليسرى فيقول “إن النيران أطلقت على المصلين من أكثر من جهة وشارك فيها أكثر من مصدر”. ويضيف ” شاهدت مستوطناً يطلق النار فيما وقف بجانبه مستوطن آخر يرتدي زيا مدنياً وهو يقوم بتعبئة وتجهيز بندقية أخرى عندما توجهت لجندي كان يقف للحراسة على المدخل والدماء تسيل مني، وعندما طلبت منه النجدة ركلني”. ويؤكد أبو سنينة أنه “بعد النداء الاستغاثة ووصول الناس بدأ الجنود بإطلاق النار بشكل كثيف في ساحة الحرم حيث وقعت المجزرة الثانية. كانون في البداية لا يتعدون الخمسة جنود إلا أنه بعد وصول الناس للحرم كانت النيران تنزل من كل حد وصوب..
ويقول فرج راتب مسودي ” 23 ” عاماً والذي أصيب بعيارات نارية في الساق والفخذ الأيمن “شاهدت مستوطنين يفتحون الأبواب ويطلقون النار بعد أن قتل المصلون القاتل “غولد شتاين”. لم يحرك الجنود ساكناً، بل قاموا بعد انسحاب المستوطنين بفتح نيران أسلحتهم على القادمين من الخارج لنجدة الضحايا. كنا في حيرة من أمرنا فالعيارات النارية تطلق في داخل الحرم، وصوت الرصاص يدوي في الخارج.
ويؤكد نعيم ياقين جابر ” 57 عاماً ” روايات بقية الشهود التي تشير إلى أن “القنابل اليدوية كانت تتساقط، بينما كان الرصاص يتطاير فوق رؤوسنا من أكثر من اتجاه”. ويضيف جابر الذي انفجرت قنبلة يدوية قربه مما أدى إلى تمزق ركبته وساقه وبطنه وأجزائه السفلية. وتوقف الرصاص لحظة وقام المصلون بالتكبير، وفجأة عاد الرصاص الكثيف بشكل آخر.. أصبحت ساحة المسجد بركة دماء، والمصلون غارقون بدمائهم، الجثث تناثرت والأشلاء كانت تملأ المكان.. لقد كان المسجد أشبه بمسلخ. ويقول “في الخارج عندما وصلت زاحفاً لم أشاهد أحداً من الجنود، غير أنه مع تواجد النجدة بدأ إطلاق النار على المصلين ينهمر من كل مكان.. كانت الساحة ثـكنة عسكرية، غير أن الجنود غادروها أثناء إطلاق النار على المصلين ثم عادوا بعد أن وصلت النجدة”.
لا ينتظر الفلسطينيون نتائج التحقيقات الإسرائيلية.. ويقول جابر “لقد شاهدنا بأم أعيننا ما حدث، ولسنا بحاجة لشهادة إسرائيل ولا لدموع قادتهم. ويشير الشهود إلى أن ما حدث لم يكن تصرفاً أهوج ارتكبه غولدشتاين وإنما كان مخططا ومدبراً وكل مشكلة القاتل أنه تطوع ليكون رأس الحربة التي تمكّن المصلون من الإمساك بها والقضاء عليه فقيل إنه “انتحر”.