عدنان الجنيد
إن ذكرى مناسبة جمعة رجب تُعد عيداً عظيماً لدى اليمنيين، ناهيك عن أنها ذكرى خاصة بهم دون غيرهم من الشعوب الإسلامية..
وقد تفرّد اليمنيون بهذه المناسبة العظيمة؛ لأن الله تعالى قد منَّ عليهم في الجمعة الأولى من شهر رجب بنعمة عظيمة وهي نعمة الإسلام، فبعدما أرسل رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – رسله إلى اليمن، دخل اليمنيون في دين الإسلام .
وهذا لا يعني أن اليمنيين لم يكونوا قد أسلموا إلا بعد وصول رسله – صلى الله عليه وآله وسلم – بل هناك من اليمنيين من كانوا قد أسلموا، سواء أفراداً أو جماعات – كما ستعرفه لاحقاّ –
ولكن أردنا بقولنا (أن اليمنيين دخلوا في دين الإسلام في أول جمعة من رجب من – السنة التاسعة – للهجرة) هو أن الإسلام إنما عمّ جميع ربوع اليمن وانتشر فيها الانتشار التام في السنة التاسعة للهجرة، فلم تأت السنة العاشرة إلا واليمنيون جميعهم قد دخلوا في الإسلام حباً فيه وشغفاّ بالنبي عليه وآله الصلاة والسلام ..
اليمنيون وسابقيتهم إلى الإسلام :
إن اليمنيين هم السباقون إلى الإسلام، فهم من أوائل المسلمين الذين تحملوا ألوان العذاب والتنكيل، و ضحوا بنفوسهم حباً في الإسلام ورسول الإسلام سيدنا محمد عليه وآله الصلاة والسلام. فهذه أسرة (آل ياسر) التي آمنت برسول الله ودخلت في دين الله، وهم (عمار بن ياسر)، وكذلك (أبوه) من أوائل شهداء الإسلام، وكذلك أمه (سمية بنت خياط) وهي أول شهيدة في الإسلام..
وخبر آل ياسر وما جرى لهم من كفار قريش مثبوت في كتب السير والتاريخ لا يجهله أحد من أهل العلم..
بل وهناك من اليمنيين من أتى إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – كي ينصره، لاسيما بعد أن اشتدت قريش في مؤاذاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
فقد روي أن رجلاً مرّ بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من “أرحب” من “همدان”، اسمه “عبد الله بن قيس بن أم غزال”، فعرض عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام، فأسلم، فقال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: “هل عند قومك من منعة؟”, فقال له عبدالله بن قيس: نعم يا رسول الله, واستأذن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – أن يذهب إلى قومه وواعد رسول الله – صلى الله وسلم عليه وعلى آله – موسم الحج المقبل, ثم خرج من مكة يريد قومه, فلما عاد إلى قومه قتله رجل من “بني زُبَيْد”(1)
وورد أن “قيس بن مالك بن أسد بن لأي الأرحبي” قدِم على رسول الله وهو بمكة، وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أتيتك لأؤمنَ بك وأنصرك, فعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه الإسلام فأسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” تأخذوني بما فيَّ يا همدان”, فقال قيس بن مالك: نعم بأبي أنت وأمي, فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “اذهب إلى قومك فإن فعلوا وقبلوا فارجع أذهب معك”, ثم خرج إلى قومه فأسلموا بإسلامه، ثم عاد إلى الرسول فأخبره بإسلامهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “نعم وافد القوم قيس, وفيتَ وفى الله بك”, ومسح على ناصيته وكتب له عهداً على قومه “همدان ”أحمورها وعربها وخلائطها ومواليها أن يسمعوا له ويطيعوا”(2)
قلت : وهنا يدرك المنصف أنه وقبل بيعة الأنصار في العقبة (وهم يمنيون أيضا)، كان اليمنيون قد بايعوا، وقبل أن تكون المدينة المنورة داراً للهجرة النبوية ومقراً للدولة الأولى في الإسلام، كانت اليمن قد رحَّبت واستبشَرَت واستعدَّت وتهيَّأَت لتكون هي من يضطلع بأعباء ذلك، لولا أن لله خيرةً ومراداً غير ذلك.
ولما كان حال اليمن واليمنيين مع الإسلام بهذه الصورة المشرِّفة، فلا غرابة أن ترى أهل اليمن من أكثر المسلمين اتباعاً لهذا الدين، ومن أعظم الشعوب محبةً لسيد المرسلين صلوات الله عليه وعلى آله.
ولذلك تجدهم لا يتركون فرصةً فيها للدين نصرة ولله ولرسوله- صلى الله عليه وآله وسلم – رضاً إلا اغتنموها.
بل وتجدهم يبتهجون ويفرحون – وحق لهم ذلك – بكل يوم أو عيد أو مناسبة تذكِّرُهم بالله وتشدُّهم إلى هذا الدين وتزيدهم صلةً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا يدَعُون يوماً أو عيداً أو مناسبة ذا صبغة إسلامية إلا استبشروا به وهبُّوا لإحيائه وسعوا لإقامته.
رُسل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – إلى اليمن :
لقد أرسل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – رسله إلى اليمن ، وكان من هؤلاء الرسل علي بن أبي طالب ،وأبو موسى الأشعري ، ومعاذ بن جبل .
أولاً : الإمام علي بن أبي طالب (ع) :
فقد بعثه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – إلى اليمن في السنة التاسعة للهجرة(3) – ولم تكن سنة عشر كما ذهب إليه البعض وإنما سنة عشر بعثه فيها إلى بني مذحج.
ومعلوم أن الإمام علي كان رجل المهمات في عهد النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وإرسال النبي له إلى اليمن يحمل دلالات على أهمية أهل اليمن وبأنهم يهيئون لمرحلة هامة قادمة.
وهو ماتجلى في مواقفهم اللاحقة التي كان فيها نصرة للإسلام وأهله وهو مانراه إلى اليوم..
فعن البراء بن عازب – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء : فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد ، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام.
فلم يجيبوه ، فبعث علياً – عليه السلام – …وكنت فيمن عقِّب مع علي فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا ، فصلى بنا علي ثم صفنا صفاً واحداً وتقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فأسلمت همدان جميعاً فكتب إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – بإسلامهم ، فلما قرأ – صلى الله عليه وآله وسلم – الكتاب خرّ ساجداً ثم رفع رأسه فقال : السلام على همدان السلام على همدان “(4)
وفي رواية أخرى – في موقف آخر – قال النبي – صلى الله عليه وآله وسلم -: “ نعم الحي همدان ما أسرعها إلى النصر وأصبرها على الجهد منهم أبدال وأوتاد الإسلام..”(5)
قلت : في أول جمعة من رجب أجتمع للإمام علي – عليه السلام – مشائخ همدان – آنذاك – وبعد أن أعلنوا إسلامهم على يديه بأجمعهم صلى بهم العصر في المكان المعروف حاليا بجامع علي في سوق الحلقة بصنعاء القديمة..
هذا وبعد أن أسلمت همدان أسلمت بقية القبائل اليمنية
إن هذا الحديث – الآنف الذكر – له دلالات عظيمة وإشارات فخيمة تشير إلى عظمة اليمنيين وما خصهم الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – بنصرهم للإسلام وصبرهم على مصائب ودواهي الأيام والأعوام، وذلك في سبيل الحق تعالى .
والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم – ما وصف همدان بهذا الوصف إلا لأنه نظر بنظره الغيبي والمستقبلي إلى ما سيكون منهم ومن أحفادهم وذريتهم من نصرتهم للإسلام، وصبرهم على ضيم الأيام ..
فقد كان لهم موقف بارز في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – عليه السلام – حيث نصروه في جميع حروبه، لاسيما في يوم صفين، ولهذا قال لهم الإمام علي في يوم صفين : “ يا معشر همدان أنتم درعي ورمحي “(6) .
وقال فيهم – أيضا – : “ولو كنت بواباً على باب جنةٍ ، لقلت لهمدان ادخلوا بسلام..”(7) .
وها هو ذا موقفهم البارز يتجلى بشكل أوسع في عصرنا الحاضر، حيث أصبحت همدان ومعها كل القبائل اليمنية تنصر الإسلام، وتقدم الآلاف من الشهداء في سبيل الله ونصرة نبيه ودينه ، فأهل اليمن يمثلون الإيمان كله ، ويواجهون الكفر كله ..
وقول الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – عن همدان يُعَدُّ دليلاً واضحاً على ما هو واقع ويجري في عصرنا الحاضر ..
(وما أصبرها على الجهد.) إذ لا يوجد شعبُ من شعوب الأرض قد صبر هذا الصبر رغم الحصار الجوي والبحري والبري الذي لا يزال مستمراً منذو ست سنوات إلى وقتنا الحالي..
ثانياً : أبو موسى الأشعري :
ومن رسله – صلى الله عليه وآله وسلم – إلى اليمن أبي موسى الأشعري فقد أرسله النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – إلى مخلاف تهامة وذلك في السنة التاسعة للهجرة – قبل حجة الوداع –
روى البخاري(8) بسنده عن أبي بردة – رضي الله عنه – قال : بعث النبي أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن وبعث كل واحد منهما على مخلاف … ثم قال 🙁 يسّرا ولا تعسّرا ، وبشّرا ولاتنفّرا ) وفي رواية 🙁 وتطاوعا ولا تختلفا ) وانطلق كل واحد إلى عمله..
هذا وكان أبو موسى قد توجه إلى زبيد واستقر بين قومه وفيها أقام المسجد الذي عرف باسم جامع الأشاعر نسبة إلى قومه وأصبح لهذا المسجد دور كبير في نشر نور الإسلام وعلومه إلى يومنا هذا فأهل تهامة هم من قال فيهم الله جل في علاه :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[المائدة : 54]، روى الحاكم(9) بسنده : أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أبي موسى الأشعري لما نزلت هذه الآية فقال : ( هم قوم هذا ).
وقال فيهم رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – أثناء مجيئ وفدهم إليه :” جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلينُ قُلُوبًا، الإِيمَانُ يَمَانٌ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ، وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلاءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ ِ “(10) وقال فيهم – أيضاً – صلى الله عليه وآله وسلم – :” الأشعريون في الناس كصُرّة فيها مسك “(11)
ثالثاً : معاذ بن جبل :
وأما معاذ بن جبل فقد توجه إلى مخلاف الجند حيثما أشار عليه رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم –
وفي الصحيح (12) أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أوصى معاذا قائلاً له:” إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب…”إه.
ثم أوصاه قائلاً له : إذا قدمت عليهم فزين الإسلام بعدلك وحلمك، وصفحك وعفوك، وحسن خلقك فإن الناس ناظرون إليك وقائلون: خيرة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فلا يرى لك سقطة يستريب بها أحد في حلمك وعدلك وعلمك فإن الرسل من المرسلين . . . يا معاذ أوصيك بتقوى الله عز وجل وصدق الحديث، ووفاء العهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، ورحمة اليتيم، وحفظ الجار وكظم الغيظ، ولين الكلام وبذل السلام ولزوم الإمام والتفقه بالقرآن وحب الآخرة والجزع من الحساب وقصر الأمل وحسن العمل وأنهاك أن تشتم مسلماً أو تصدق كاذباً أو تكذب صادقاً أو تعصي إماماً عادلاً وأن تفسد في الأرض…..”(13) إلى غيرها من الوصايا القيمة التي تمثل حقيقة الإسلام وروحه السامية، وعلى المجتمعات- لاسيما المجتمع اليمني- أن يجعل هذه الوصايا نصب عينيه ويسير على ضوئها ويطبق محتواها ويعيد في هذه المناسبة ذكرها..
هذا وكان قدوم معاذ إلى الجند في جمادي الآخرة، واجتمع له الناس في أول جمعة من رجب وخطبهم وبين لهم رسالة الإسلام التي جاء بها سيدنا محمد – صلى الله عليه وآله وسلم –
وفي ذلك المكان الذي وقف فيه خطيباً بالناس تم – بعد ذلك – تشييده مسجداً واتخذ منه مقراً لإدارة شؤون البلاد والفصل في الخصومات بين الناس.
ومنذ ذلك اليوم وكثير من اليمنيين في مثل هذا اليوم في كل عام يذهبون إلى مسجد الجند – وسيأتي الكلام عن ذلك – ويحتفلون بهذا اليوم الذي تدفق فيه النور إليهم بواسطة صحابة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-
فدخل الناس في الإسلام أفواجا ببركة دعوة (علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري)..
ابتهاج اليمنيين بالمناسبة :
إن احتفاء اليمنيين بجمعة رجب هي ذكرى غابرة ظلوا يتوارثونها كابراً عن كابر، كونها تذكرهم بفرحة أجدادهم بأول يوم وصل فيه الإسلام إليهم
يقول العلاّمة بهاء الدين الجَنَدِي ما نصه : “ ثم أَلِفَ الناس إتيان الجَنَد في أول جمعة من رجب يصلون بها الصلاة المشهورة، ويُشَاهَدُ في تلك الليلة بركات، ولا تكاد تخلو ليلة الجمعة الأولى من رجب أو يوم خميسها من مطر هذا غالب الزمن “(14)
هذا كلام الجندي المتوفى سنة 732هـ . وهذا يدل على أن الاحتفال والذهاب إلى الجند لم يكن وليد اليوم أو الأمس، بل منذ عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا..
وهو مانراه اليوم – بحمد الله – أن اليمنيين لايزالون مستمرين عليه..
فتراهم يستعدون لجمعة رجب قبل مجيئها بأيام، فيجهزون مايجب تجهيزه من إعداد الكعك والحلوى والبخور والهدايا وشراء الملابس الجديدة، وهذا أكثر مايحدث في صنعاء وغيرها من مناطق شمال الشمال…
فإذا حلّ عليهم يوم (جمعة رجب) تجلّت عليهم البهجة والفرحة بكل مظاهرها.. فيلبسون الجديد، ويعملون الولائم، ويذبحون الذبائح تبركاً بهذا اليوم، ناهيك عن تبادل الزيارات والتهادي فيما بينهم، وإقامة حلقات الذكر والندوات – في الجامع الكبير بصنعاء – مع ما يتخللها من الموالد النبوية والتوشيحات الدينية، وكذلك في غيره من المساجد القديمة مثل مسجد الجند – وسنتكلم لاحقاً عمّا يحدث فيه – ومسجد الأشاعر ،ومسجد الإمام الهادي ..
وكذلك تقام التجمعات في المجالس التي تُلقى فيها الموالد والأناشيد الصنعانية..
وإجمالاً أقول : إنهم جعلوا هذا اليوم موسماّ للتزاور ،وصلة الأرحام، وبذل الصدقات، وبعضهم – في بعض المناطق اليمنية – يصوم ذلك اليوم ويوماً قبله….
وأما بالنسبة للشافعية والصوفية، سواء من محافظة تعز، أو إب، أو الحديدة، أو بعض مناطق الجنوب، فإن الكثير منهم يشدون رحالهم في أواخر جماد إلى مسجد الجند؛ وذلك ليحيوا أول ليلة جمعة من رجب بالأذكار والصلاة على النبي المختار ، ، وتتعدد الحلقات، وتتعرض النفوس إلى النفحات، وتتخلل تلك الليلة محاضرات دينية ومدائح نبوية، وموالد مصطفوية…
فتخشع القلوب عند ذكر علاَّم الغيوب، وهكذا يستمرون طوال تلك الليلة إلى الصباح وبعد أن يؤدوا صلاة الفجر يلجأ البعض إلى النوم لبضع ساعات، ومنهم من يستمر في أداء أوراده ، والبعض الآخر ممن بيوتهم قريبة من المكان يذهبون إلى بيوتهم ثم يعودون لأداء صلاة الجمعة في مسجد الجند، كي يستمعوا الخطبة التي يركز فيها الخطيب على عظمة هذا اليوم ووصول معاذ بن جبل إلى مدينة الجند وعلى تجمع الناس في هذا المكان في مثل هذا اليوم ليستمعوا إلى رسالة رسول الله التي حملها معاذ بن جبل وهي الدعوة إلى الإسلام وو……
هذا وكل ما ذكرناه – آنفاً – من مظاهر الاحتفال يُعَدُّ من القربات التي تعبر عن شكر اليمنيين لله تعالى على منته عليهم بالإسلام، وارتباطهم بهويتهم الإيمانية، وحبهم للإسلام ونبي الإسلام ..
وهذا ما ينبغي أن يحافظ عليه المجتمع اليمني حتى يكون حاضره المجيد مرتبطاً بماضيه التليد العظيم، وبذلك يكون قد حافظ على موروث أكسبه خير الدنيا والأخرى..
فبعد هذا ألا يحق لليمنيين أن يحتفلوا بهذا اليوم العظيم ويشكروا الله تعالى على نعمة الإسلام والاستجابة للنبي عليه وآله الصلاة والسلام ؟!..
الرد على المبدّعين :
وأما من يحرمون الذهاب إلى مسجد الجند في تعز، أو إلى مسجد الأشاعر في زبيد، أو إلى المسجد الكبير بصنعاء في هذه المناسبة، ويحرمون زيارة أضرحة الأولياء بحجة الحديث الذي يقول:” لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا “(15) الحديث..
فاستدلالهم بالتحريم باطل، فالمستثنى في الحديث موجود وأداة الاستثناء – أيضاً- موجودة، والمستثنى منه غير موجود يعنى محذوف فلا بد أن يكون المستثنى منه من جنس المستثنى عند تقديره، فلا يصح أن نقدره بالقبور حتى نحرم الذهاب لزيارة أضرحة الأولياء، بل نقدره بالمساجد لأنها من جنس المستثنى، فيكون الحديث لا تشد الرحال – للمساجد – إلا إلى ثلاثة مساجد….
وبهذا يكون المعنى: إنّ من أراد الفضل العميم والأجر العظيم، فعليه بزيارة ثلاثة المساجد هذه المذكورة في الحديث، وأما غيرها فهي متساوية في الأجر ليس لها أجر الثلاثة ، بدليل أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – “ كان يأتي مسجد قباء راكباً ، وماشياً فيصلي فيه ركعتين”(16)
فهكذا يُفهم الحديث- إذا صح- وإلا سيكون معناه بحسب فهم المانعين بأنه يحرم علينا أن نشد رحالنا إلى أي مسجد غير الثلاثة المذكورة، بل ويحرم علينا أن نسافر في قضاء حاجاتنا وزيارة أرحامنا والتنقل في بلداننا و……إلخ!!..
وكذلك أقول: إنّ ما ذهب إليه المانعون مخالفُ للقرآن الكريم الذي أمرنا أن نسير في الأرض ونمشي في مناكبها، وأما من يقول : إن الذهاب إلى مسجد الجند أو الأشاعر أو الجامع الكبير لإحياء تلك المناسبة بدعة ضلالة، فنقول له: إن بدعة الضلالة هي استحداث أمر ما يرفضه الذوق ويستنكره العرف ولا يقبله العقل، وليس له أصل في الشريعة ولا يدخل في أي أمر عمومي …
أما إحياء ليلة جمعة رجب والاحتفال بيومها، فهي داخلة في عموم قوله تعالى:(ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج :32].
وقوله تعالى:(قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس :58] .
فالآية الأولى تشير إلى أن تعظيم شعائر الله تُعَدُّ من التقوى ، والشعائر هي معالم الدين -كما قال المفسرون- وإذا كانت مناسك الحج تُسمّى بالشعائر، فإنما لكونها علامات للتوحيد والدين الحنيف، وكل ما هو شعيرة لدين الله، فإن تعظيمه مما يقرب إلى الله، ولاشك أن مسجد الجند ومسجد الأشاعر والجامع الكبير التي أشرق نور الإسلام منها، من أبرز علامات دين الله تعالى، وتخليد هذه المناسبة فيهم مما يقرب إلى الله تعالى .
وأما الآية الثانية فهي تأمرنا أن نفرح بفضل الله وبرحمته المهداة..
نعم فلقد تفضّل الله علينا بالإسلام، ورحمنا بنبيه عليه وآله الصلاة والسلام،
فأخرجنا من الجهالة الجهلاء إلى الأنوار واللألاء.
ثم أيَّةُ بدعة في هذه المناسبة أو في غيرها ونحن نشاهد ثمارها ملموسة وآثارها موجودة في الواقع؟!..
فقد تجلّت هذه المناسبة العظيمة على الشعب اليمني حيث عززت فيه روح الثبات والصمود والعزة والنخوة، فلم يساوموا على كرامتهم، ولم يخنعوا أو يذلوا لأعدائهم طيلة ستة أعوام من الحرب عليهم والحصار مطبق ..
فأنعم بها من مناسبة اتخذها اليمنيون محطة سنوية توعوية فزادتهم ارتباطاً بإسلامهم ونبيهم صلوات الله عليه وآله..
ألسنا – في كل مناسبة دينية أو نبوية تحل علينا- نرى العلماء والخطباء والمرشدين والمثقفين يتحركون في توعية أفراد الشعب بأهمية الدروس التي نستلهمها من هذه المناسبة أو تلك وبعظمتها ؟!.. ناهيك عن حثهم على التمسك بالإسلام وبمبادئه، وبخطورة الحرب الناعمة التي يسعى الأعداء من خلالها إلى إبعاد المجتمع عن دينه وتمييعه حتى تنزع منه النخوة والعزة والإباء!!.
فهذه التوعية التي يقوم بها فئة من المجتمع هي عين ما أمر بها القرآن الذي حث على الدعوة إلى الخير والعمل به، وأوجب القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
ولا أنسى أن أُذكِّر القارئ الكريم بأنّ الاحتفال بمثل هذه المناسبة ليس مقتصراً على مظاهر الفرح فحسب، بل هو إلى جانب تلك المظاهر حركة توعوية إرشادية تبصيرية استنهاضية، تعمل على تنوير جميع فئات الشعب وتحصينهم في جميع مجالات حياتهم حتى لا يقعوا فريسة سهلة لما يخطط ويقوم به الأعداء من استهدافهم عبر حربه الناعمة ..
وإذا علمت هذا، فسوف تعلم أن المُبدِّعين لمثل هذه المناسبات هم الذين يخدمون أعداء الأمة في محاربتهم لمن يحتفلون بهذه المناسبة التي تغيظ الأعداء الذين يسعون على إنهائها عبر أدواتهم التكفيريين؛ كي يتسنى لهم
استهداف الأمة في هويتها وحضارتها وتأريخها، لتصبح أمةً بلا هوية، منقادة ومنبطحة لأعدائها، ومنخلعة عن دينها وإسلامها.
إذاً فليحتفل اليمنيون، وليفرحوا بيوم جمعة رجب، ويقيموا في المجالس والقاعات والأربطة والزوايا الاحتفالات والموالد والأناشيد والأهازيج ابتهاجاً بهذه المناسبة العظيمة، وليقوموا بإلقاء المحاضرات، والندوات ، والخطب في المساجد، وهذه مسؤولية تقع على عواتق أهل العلم..
وعلى الإعلام أن يقوم بدوره في هذه المناسبة، وذلك بإعداد العديد من البرامج، وبث جميع الفعاليات والندوات التي سوف تتكلم عن مناسبة ذكرى جمعة رجب سواء في القنوات أو الإذاعات ..
وعلى الكتاب بثها -أيضا- في الصحف وفي وسائل التواصل الاجتماعي ؛ حتى يتربى الأجيال على ذلك، ويعرفوا عظمة ما هنالك.
وأخيراً أقول لكل يمني : كل عامٍ وأنتم طيبون.
الهامش …
(1) “ الطبقات الكبرى “ ابن سعد [ 341/1 ] .
(2) “ المرجع السابق “ [ 340/1 ] .
(3) لم تكن في نهاية السنة الثامنة للهجرة كما ذهب إليه بعض المحققين لأن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أرسل خالداً إلى اليمن في أواخر سنة ثمان للهجرة بعد حنين ،وعمرة الجعرانة فأقام فيها ستة أشهر ثم أرسل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – علياً إلى اليمن وأمره بإرجاع خالد ومن معه بدليل رواية البخاري ، وسيأتي ذكرها لاحقاً
(4) “ سُبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد “[427] للإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي. وقد عزى محققا الكتاب الرواية إلى المصادر الآتية : “ صحيح البخاري “ برقم (4349)- كتاب المغازي -[663/7] ، وسنن البيهقي[366/2] ، ودلائل البيهقي[369/5] .
(5) “ الطبقات الكبرى “ لابن سعد [341/1] ، و” سُل الهدى والرشاد..” للصالحي الشامي وعزى محققا الكتاب الرواية إلى المصادر الآتية : “طبقات ابن سعد”[74/2/1] ، وابن عساكر في “ تهذيب تأريخ دمشق “[440/4] ، والمتقي الهندي في “ كنز العمال (34030) .
(6)” وقعة صفين “ ابن مزاحم المنقري ص 437 .
(7) المرجع السابق .
(8) “ صحيح البخاري “ برقم (4086) ، (4088) – كتاب المغازي – باب : بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن قبل حجة الوداع .
(9) في “ المستدرك “ [ 313/2 ] وصححه على شرط مسلم .
(10)” سُبل الهدى والرشاد..”[274/6] وعزى محققا الكتاب الرواية إلى البخاري [219/5] وأحمد في المسند [ 235/2] ، والطبراني في الكبير [134/2] ، والبيهقي في السنن [386/1]، والخطيب في والتأريخ [377/11] .
(11) “سُبل الهدى والرشاد “[274/6] ، وعزى محققا الكتاب هذه الرواية إلى ابن سعد في “طبقاته”[79/2/1] ، والمتقي الهندي في “ كنزه “(33975)
(12) “ صحيح البخاري “ ، باب : بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن قبل حجة الوداع – برقم ( 4090 ) .
(13) “ الوثائق السياسية اليمنية من قبيل الإسلام إلى سنة332هجرية “ لمحمد علي الأكوع ص 128 .
(14) “ السلوك في طبقات العلماء والملوك “ للعلامة بهاء الدين الجندي [ 82/1] .
(15) رواه البخاري برقم (1132) ، [ 75/3 ] فتح الباري شرح صحيح البخاري .
(16) أخرجه البخاري [ 63/3 ] برقم ( 1189) ومسلم ( 1397 ) .