القاهرة/الدين والحياة –
الحياة الطيبة التي يعمل الإسلام على تحقيقها ورسم معالمها بين المسلمين لا تعتمد فقط على مقومات مادية ولا على مظاهر تحضر ورقي شكلي . . لكنها تقوم أولا على قيم وأخلاقيات رفيعة تنشر أواصر المحبة والألفة بين الناس . والأمانة من القيم الإسلامية الرفيعة التي تنشر الثقة بين الناس وتضاعف من تماسكهم وتساعدهم على صناعة حياة طيبة بعيدة عن كل صور الغش والتزوير والتلفيق خاصة في جانب المعاملات .
يقول د . أحمد عمر هاشم الرئيس الأسبق لجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة : الأمانة قيمة غرسها الإسلام في نفوس كل أتباعه ولا يجوز لمسلم موحد بالله أن يتخلى عن هذه القيمة في أي شأن من شؤون حياته فهي من الخصائص التي تتميز بها شخصية المسلم وانعكاسات هذه القيمة على المجتمع كلها طيبة فالإنسان الأمين ذو ضمير حي وذو قلب سليم ومعاملاته مع الناس نقية من الشوائب وعلاقاته الإنسانية تشرق بالحب والإخلاص وتتسم بالصدق ونفسه عفيفة وكفه شريفه نزيهة يحافظ على حقوق الناس ويصون أماناتهم فهو موطن الرجاء وملتقى الثقة يقبل الناس على معاملته بيعا وشراء ويأمنونه على ودائعهم وأسرارهم .
لكل ذلك كما يقول د . هاشم كان اهتمام الإسلام بخلق الأمانة وكان حرص هذا الدين العظيم على ضرورة أن يلتزم المسلم بهذه الصفة الرفيعة حتى يكون جديراٍ بثقة الآخرين والأمانة في نظر القرآن الكريم هي قرينة الحكم بالعدل بل هي الصفة التي تدفع الإنسان إلى الحكم بين الناس بالعدل ولذلك قدمها الحق سبحانه على الحكم بالعدل في قوله تعالى: “إنِ اللهِ يِأúمْرْكْمú أِن تْؤدْواú الأِمِانِات إلى أِهúلهِا وِإذِا حِكِمúتْم بِيúنِ النِاس أِن تِحúكْمْواú بالúعِدúل” .
ماذا تعني الأمانة¿
والأمانة ضد الخيانة كما في “مختار الصحاح” . . وهي تطلق على كل ما عهد به إلى الإنسان من التكاليف الشرعية كالعبادة والوديعة . . كما تطلق على المعاملات بين الناس . وكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تحث عليها وتأمر بها وتحذر من الخيانة مثل قوله تعالى: “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها” .
وقوله تعالى: “ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم” وقوله صلى الله عليه وسلم: “أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك” .
وتستعمل الأمانة عند الفقهاء بمعنيين:
أحدهما: الشيء الموجود عند الأمين وذلك بأن تكون هي المقصد الأصلي في العقد كالوديعة فكل وديعة أمانة أو تدخل الأمانة في العقد تبعا كما في الإجارة والعارية والمضاربة والوكالة والشركة والرهن أو كانت من دون عقد أصلا كاللقطة وكما إذا ألقت الريح في دار أحد مال جاره وذلك ما يسمى بالأمانات الشرعية .
ثانيهما: بمعنى الصفة وذلك في أمور منها: ما يسمى ببيع الأمانة كالمرابحة والتولية وهي العقود التي يحتكم فيها المبتاع إلى ضمير البائع وأمانته أو في الولايات سواء كانت عامة كالقاضي أم خاصة كالوصي وناظر الوقف أو فيما يترتب على كلامه حكم كالشاهد وكذلك تستعمل في باب الإيمان كمن أقسم بها على أنها صفة من صفاته تعالى .
وثمة معنى ثالث للأمانة بمعنى حرية الاختيار والاستعداد لتحمل المسؤولية وهو ما أشار إليه قوله تعالى: “إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماٍ جهولاٍ” . فهي هنا تعني قبول الإنسان لحرية الاختيار مقابل تحمل المسؤولية عن نتائج أعماله وما يترتب عليها من ثواب أو عقاب بينما أبت السموات والأرض والجبال ذلك وقبلت “التسخير” إشفاقاٍ من تبعات حمل الأمانة .
قيمة تصنع الحياة
الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر الأسبق يؤكد أن هذه القيمة العظيمة تصنع الحياة الطيبة التي تقوم على الثقة والطهارة . . ويقول: ما أحوجنا الآن إلى خلق الأمانة بعد أن شاع الغش والتزوير في حياتنا . . ففي كل المجتمعات الإسلامية غش في التجارة حيث أصبح الغش التجاري وباء اقتصاديا واجتماعيا يلحق بنا خسائر فادحة . . وهناك خيانة للأمانة تتمثل في السرقات والاختلاسات والعدوان على المال العام وهناك غش في الامتحانات حيث أشارت دراسات مزعجة إلى أن نسبة كبيرة من الطلاب يحرصون على الغش في الامتحانات ومثل هذه الانحرافات السلوكية والأخلاقية لا سبيل لنا بمواجهتها إلا بالتربية الإسلامية الصحيحة . . فالعقوبات وحدها لا تكفي لمواجهة كل صور الخيانة التي اقتحمت حياتنا وشاعت بين الكبار والصغار .
ويرى الشيخ عاشور أن خلق الأمانة يحمي أولادنا من آفات كثيرة ويعصمهم من تجاوزات خطيرة ويوفر لهم مناخا آمنا في سلوكياتهم ومعاملاتهم ويقول: الأمانة هي أساس كل الفضائل والذي يتربى على الأمانة يعيش حياة سعيدة حيث يثق الناس به فلا يخونه أحد ولا يشك في سلوكياته وتصرفاته أحد .
والأمانة مطلوبة في كل شيء وهي أبرز ما تكون في المعاملات المالية ولذلك كان من أهم القيم والمبادئ التي تقوم عليها المعاملات المالية الإسلامية قيمة الأمانة . . فبالأمانة تشيع الثقة بين المتعاملين . . وبالأمانة تأتي المكاسب والأرباح الحلال وبالأمانة تستقر المعاملات ولا تحدث الخسائر والكوارث الاقتصادية التي شاعت في عالم اليوم وطال ضررها وخطرها عالمنا الإسلامي .
آفات خطرة
الغش التجاري والاحتكار
وعن أبرز الظواهر السلبية التي شاعت في بلاد المسلمين الآن وتكشف عن تلاشي قيمة الأمانة في حياتهم يقول د .حسين شحاتة: من أبرز هذه الظواهر الغش التجاري . . فالغش الآن أصبح في كل شيء في المكيال والميزان رغم الوعيد الإلهي الوارد في قوله سبحانه: “ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون” . . وهناك الاحتكار الذي شاع في حياتنا التجارية والصناعية وألحق الضرر بالفقراء والأغنياء على السواء رغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر منه ويقول في الحديث الصحيح “من احتكر طعاماٍ أربعين ليلة فقد برئ منه الله وبرئ الله منه” .
أيضاٍ هناك الرشوة التي انتشرت في بلادنا العربية والإسلامية والتي تعد أبشع صور خيانة الأمانة . . وهناك أيضا استغلال النفوذ لتحقيق مكاسب مادية أو معنوية . . كل هذه الظواهر السلبية التي شاعت في حياتنا الآن هي بسبب غياب الأمانة .
ويؤكد د . شحاتة على ضرورة إشاعة خلق الأمانة في أسواقنا حتى تعود الثقة والطمأنينة بين المتعاملين وحتى يعود الاستقرار إلى هذه الأسواق .