تحقيق/ سارة الصعفاني
منازل دُمرت على رؤوس ساكنيها.. صواريخ وقنابل محرمة دولياً سقطت على أجساد مدنيين لتحيلهم من بعد الحياة جثثاً متفحمة.. وشظايا مدمِّرة تطال كل شيء وأشلاء بشر متطايرة.. صرخات الألم في كل مكان .. دماء ودمار ورعب وبؤس يحكي للضمير قصصاً إنسانية مأساوية لم تنتهِ بعد .. وعدوان بهذا الفجور والغطرسة والاستهانة بالدماء لابد وأن يصاحبه تشريد أعداد هائلة من الباحثين عن أماكن للعيش والسكن البديل فإذا بهم يعيشون أوجاعاً ومعاناة على النحو الذي اقتربنا منه وعايشناه في مركز الشهيد أسامة الذاري لإيواء النازحين.. جزء من معاناة النازحين نناقشها في سياق التحقيق التالي:
من شكاوى النازحين:
– لنا أشهر بلا مساعدات.. وفاعلو الخير ملاذنا الأخير
– الوحدة التنفيذية تتحمل أعباء كبيرة ومتزايدة والتقصير طبيعي
سمح لنا أحد المشرفين في المركز بالدخول لتفقد أوضاع النازحين ونقل معاناتهم، ما أن وصلنا فناء المركز حتى جاء الحارس يصرخ ويمنعنا من التحدث معللاً ” ممنوع دخول الصحافة ” ومخاطباً النازحين ” لن تعطيكم الصحافة شيئاً!”.
انزعج نازحو المركز من تصرف الحارس، وهنا يقول فرحان علي فرحان : ” لن يمنعنا أحد من الكلام .. تعالوا متى شئتم لتنقلوا معاناتنا، ينقصنا كل شيء من غذاء ودواء وماء وغاز وبطانيات ،الغاز يصرف كل يوم أحد، ويأتي الماء من منظمة كل رابع يوم، نحتاج مواد غذائية ضرورية لكنهم يمنعون فاعلي الخير من الدخول إلا بتصريح.
وعن تفاصيل نزوحه وعائلته يقول: قصف العدوان معسكر كهلان في صعدة قصفاً عنيفاً منذ الساعة 7 مساء حتى 4 صباحاً ، كان الموت محيطاً بنا ،ليلتها قررنا السفر هرباً من جحيم الرعب وهستيريا القصف، أتينا لـ صنعاء وعشنا في مدرسة ” القريزع ” في أمانة العاصمة كمركز إيواء للنازحين، وعند بدء العام الدراسي طلبوا منا الرحيل وتم صرف مبلغ خمسين ألفاً لكل أسرة وسلة غذائية تكفي لمدة سبعة أشهر لكننا وغيرنا ممن تدمرت بيوتهم تماماً رفضنا المغادرة للمجهول، هذا المبلغ لا يكفي حتى إيجار شقة لشهرين، حينها نقلتنا الوحدة التنفيذية للنازحين الى هذا المبنى ” مركز الشهيد أسامة الذاري ” لكن لم نعد نتلقى دعماً مرة صرفوا كيس دقيق ودبة زيت، ومنذ شهر يوليو العام الماضي وحتى اليوم – 5 مارس – لم نحصل على شيء !
هروب إلى المعاناة
محمد قباص من حارة مسجد الإمام الهادي بصعدة يحكي بحسرة وألم ما تعرض له وأسرته بالقول: “غادرنا المنزل في ليلة تصريح المدعو العسيري بإخلاء مدينة صعدة بعد أن رأينا التوحش وعايشنا تفاصيل الرعب، خرجنا من بيوتنا مجبرين خوفاً على حياتنا وأطفالنا بعد استهداف العدو الأحياء السكنية، لم نكن ندري أين نذهب وفي الليل اختبأنا في قرية بالوادي حتى يطلع الفجر، وفي اليوم التالي قصف العدو منزلنا وقتل خمسة من إخوتي وشهداء كثر من الجيران ..
في صعدة كما في مدن اليمن وأقسى .. البشر أشلاء والدماء في كل مكان وبقايا أعضاء متناثرة في الشوارع، وتحت الأنقاض أناس ما بين الحياة والموت لكن العدو لا يترك أي فاصل زمني لإنقاذهم إمعاناً منه في القتل حيث يستهدف كل شيء بمئات الغارات وبأسلحة محرمة دولياً ولا يستثنِ المسعفين !
بلا مأوى
وبحزن بالغ يروي أحد النازحين معاناة النزوح: هربنا من مدينة صعدة إلى حرف سفيان وبقينا في الجبل حتى وجدنا بترول بـ 25 ألف ريال، كنا 28 شخصاً في باص صغير، ومن شدة رعبنا من القصف طالت المسافة كثيراً، اتجهنا للجوف للعيش فيها مؤقتاً، قضينا شهرين من المعاناة والحرمان .. جفاف وجوع وبؤس لم نعتد عليه فعدنا لمنطقة حرف سفيان مجدداً وبقينا فيها 90 يوماً لكن وحشية القصف هناك جعلتنا ننتقل إلى صنعاء في شهر ديسمبر ..
ويستمر في سرد مأساته : اليوم أنا وأسرتي بلا مأوى بعد أن استهدف العدو منطقتنا السكنية ودفن أهل الحي عشرات الشهداء من أقربائنا والجيران في يوم واحد ، كما أصيبت جدتي بحالة نفسية ما أن تسمع أزيز الطائرات الحربية أو دوي انفجار خاصة في محيط مبنى التلفزيون حتى تصرخ من الرعب.
بكثير من الألم تقول غادة المساوى: قتلونا الأوغاد رعباً وضيقوا علينا حياتنا، مجبرين هربنا من بيوتنا لا ندري إلى أين، تعذبنا كثيراً في الطرقات وعشنا الويلات، وهنا وجدنا أنفسنا أمام معاناة وظلم ، وتقصير في كل شيء فيما لم نعد نمتلك شيء بعد أن تدمرت بيوتنا وممتلكاتنا، وفقدنا الحياة ونحن فيها أحياء .
مشاكل متراكمة
قائد الشريفي من مديرية رازح بدأ كلامه بالقول: ندعو الله أن ينتقم من أعداء اليمن أما ” الحساسية ” فيما بيننا هي نتيجة التوتر النفسي والحل في الاقتراب من بعضنا ، وهذه الظروف مصيرها الزوال، والحكومة الموجودة في صنعاء ليست مقصرة؛ مشاكل البلد عميقة يكفي أننا نواجه عدوان 30 دولة .
ويقول عبد الناصر غويل هو الآخر نازح لكن من محافظة تعز: غادرنا قبل عشرة أشهر باب المندب أيام قدوم البوارج الحربية بعد تلقينا تحذير بمغادرة المناطق الساحلية في مدة أقصاها ثلاثة أيام، نزحنا إلى ذوباب فالمخا ثم الحديدة وأخيراً الى صنعاء، عشنا في المدرسة وعندما بدأ العام الدراسي طلبوا منا الرحيل لكننا رفضنا؛ ومن رحلوا صُرفت لهم مواد غذائية لـ 7 أشهر ومبلغ مالي يكفي 3 أشهر مقابل التوقيع على الخروج من الوحدة التنفيذية.
وباستياء بالغ يضيف: نحن منذ أكثر من خمسة أشهر بلا أي تموين غذائي ، فقط وعود وكشوفات عبثية ” سجل اسمك .. توقيعك ” لا ندري أين تذهب المساعدات الإنسانية التي كنا نتلقاها في بداية العدوان من المنظمات والوحدة التنفيذية للنازحين، اليوم أكثر المواد الغذائية من فاعلي الخير، وإحدى منظمات الإغاثة الإنسانية أعطتنا ” فرش وأغطية ” قبل سبعة أشهر لكنها استوت بالأرض من كثرة النوم عليها، وفي الصالة تنام أسرتين ويعيش في غرفة صغيرة ثمانية أفراد في حين توجد 6 غرف مغلقة !
وتابع :كما أننا نعاني من أمراض مزمنة وطارئة ولا نملك ثمن الدواء، كانت منظمة الهجرة تأتينا بأدوية قاربت على الانتهاء أو سيئة التخزين للتخلص منها ، زادتنا مرضاً فلجأنا لمستشفى حكومي لإنقاذنا ولم نملك ثمن دواء .. إدارة مخيمات النازحين ضعيفة، وهناك فاسدين ومتسترين فيما النازحين ضحايا عدوان الخارج وظلم الداخل. .
فاعلو الخير
(م. ع) نزحت من الرضمة في إب هرباً من قصف هستيري استهدف منزلها ، تقول: أوقف صرف المواد الغذائية منذ قدومنا للمركز ومنا من لم يحصل عليها، ويبقى النازح في غرفته لا يجد ما يأكل لولا إنسانية فاعلي الخير من أهالي الحي، ونتشارك المواد الغذائية مع من لا يستحق ،وقبل شهر طلبوا من عشر أسر فقط من عدد 17 مغادرة المركز، ألسنا نازحين أيضاً؟ كما أن الوحدة التنفيذية صرفت في المرة الماضية لمن يغادر مبلغ مالي ومواد غذائية فيما الآن أمرونا بالخروج فقط، ثم صرفوا للنازحين الباقين وحدهم مواد غذائية !
الوحدة التنفيذية!
ووسط تداخل أصوات الشاكين يقول أحد النازحين: دبة غاز أسبوعياً لخمس أسر، وكثيراً ما بحثنا في الشوارع عن ” كراتين “، وطبيب من الوحدة التنفيذية كان يأتي باستمرار لعلاج أطفالنا لكنه فجأة اختفى، ربما منعوه تضييقاً علينا، لأنهم يتهموننا بأننا موظفون ، تعامل سيئ ونقص في كل شيء لكننا نصبر من أجل السكن فقط .
امرأة مسنة في السبعينايت من عمرها، جاءت من ضحيان صعدة، ما تزال تتذكر ما حدث ليلة الهروب من التوحش: قتلنا الرعب ليلة القصف العنيف بالقرب من منزلنا فهربنا دون وعي بملابسنا التي نرتديها فقط لا ندري أين نختبئ، أمسينا في الخلاء لا ماء ولا غذاء وبرد وأمطار وسيول، عانينا لمدة عشرة أيام وتنقلنا في صعدة لكن الموت في كل مكان، ابني أصيب بعد قصف موقع وبفضل الله تعافى، وأصيب الآخر برصاصة في رمضان ومستمر في مهمة الدفاع عن الوطن ، وابن اختي كان أيضاً في صفوف الشرفاء واستشهد في ميدي، وخسرنا خمسة بيوت بما فيها.. العيش هنا صعب، والزحام في الغرفة يبعث على الكآبة .
وتضيف حفيدتها: خمسة من أعمامي وأولادهم قصف العدو منزلهم، لم يترك لهم فرصة البقاء على قيد الحياة؛ ماتوا وغيرهم من الأبرياء وهم يستعدون لمغادرة صعدة لكن القصف كان عنيفاً ولم يتوقف، وكثير من الأسر كان المال والبترول عائقاً أمام نزوحهم .
معاناة الطفولة
وتشكو إحدى النازحات ما تعانيه في هذه الظروف: تنقلنا في صعدة والجوف وإب وهمدان وصنعاء لذا نحن راضين بالسكن لكن أطفالنا مرضى وبلا غذاء ودفء خاصة ايام البرد القارس، أحتاج أبسط الضروريات لصغيري حليب وحفاضات وملابس .
واستطردت :صغيري عمره سنتين لكنه لا يقوى على المشي أو فعل أي شيء أحياناً يعطوني نقود اًلأشتري له، ومنذ ثلاثة أشهر لم يصرف لنا أي شيء ماعدا علبة صلصة، ومن اعترض قالوا له ” غادر “.. أمس حصلنا على كيسين دقيق من فاعل خير لكن جاء من يصرخ أين نصيبه ، ثلاث حبات موز لكل أسرة فيما عددنا ثمانية ! وعندما يتوفر زيت يصبون لنا في ” قلص ” وما تبقى لهم ! فضلاً عن إهانة النازحين.. من أتى إلينا رفع صوته علينا ! كما أخبرونا أن هناك من أمر بمغادرتنا، يتهموننا بأننا ” مرتاحين ” .
الوحدة التنفيذية تعترف
وبسؤال مشرف السكن أحمد القدمي لم يعترض على ما عرضناه عليه من شكاوى النازحين وإنما قال: كلامهم صحيح، كل شيء ناقص في السكن، والوحدة التنفيذية منذ أكثر من شهرين لم تصرف شيء، وكان هناك توجيه بمغادرة عشر أسر للسكن لكنهم ما يزالون في المركز.
أسئلة مفتوحة
في الإجمال هناك أكثر من مليونين ونصف المليون نازح بأمس الحاجة لكل شيء بعد أن تدمرت منازلهم وفقدوا ممتلكاتهم ومصدر دخلهم ولم يعودوا يمتلكون شيئاً، لم يخبرهم أحد كيف يواجهون قسوة الحياة وشظف العيش،.. كيف يحصلون على ” المتطلبات المعيشية الضرورية “؟ ما يعرفونه أنه لا يحيا الإنسان بمفردات الكلام .. هل يلجأون للتسول كخيار أخير من أجل البقاء على قيد الحياة ومواجهة أعبائها بعد زيادة العبء على الوحدة التنفيذية للنازحين وتجاهل 1200 منظمة مجتمع مدني لأدوارها في التخفيف من محنة النازحين؟
وفي الأخير ..لمن يذهب التموين والمساعدات الإغاثية الخارجية؟ وكيف توزع مواد غذائية من دقيق وعدس وزيت ومخلوط حبوب وأغطية وغيرها كمساعدات إنسانية على أهالي الأحياء بمن فيهم ” المقتدرين ” فيما لا يجد النازحون أبسط الضروريات للبقاء على قيد الحياة لولا تعاون فاعلي الخير .
قد يعجبك ايضا