*رغم ليالي القصف وعام الحصار ظلت العاصمة صنعاء ولم تزل حافلة بالفرح كعادتها لا تأبه بصواريخ العدوان
تحقيق – محمد محمد إبراهيم
تصوير – فؤاد الحرازي
في قلب ميدان التحرير بالعاصمة صنعاء، يطلق الخيل عنان الصهيل، قافزاً صوب الأعلى على غير ما وصفه الشاعر العربي الكبير أبو الطيب المتنبي، سابح الصحراء والفيافي إذ قال : أعزّ مكانٍ في الدُّنا سرْجُ سابحٍ…..).. وكما لو أن هذا الخيل الأصيل يحاول الإقلاع باتجاه الأعلى صوب الطائرات التي تجوب سماء العاصمة صنعاء منذ عشرة أشهر.. هذا هو ميدان التحرير قلب العاصمة صنعاء يحتشد فيه البشر، من باعة الكتب، والدوريات، والصحف، وبسطات الملابس، والمستلزمات الحياتية اليومية، إلى جانب الخطاطين، وأصحاب الحرف النادرة، وكذلك محلات القرطاسية والتصوير المدرسي والجامعي، والبقالات، وشبابيك البريد، والمتاحف، إضافة إلى صناديق الحمام، والعصافير، بسطات صغيرة جداً تزفُّ الرياحين، والفل، والكاذي، والبطاط المسلوق، وبيض الدجاج البلدي، وباعة متجولون ومزيج كبير من التنوع المعيشي، والمهني، والترفيهي.. وصورة مختزلة من الخيل المسومة، تتمثل في هذا الجواد الأدهم –المرفق صورته في قلب هذه المادة الصحفية المصورة- الذي يطاول السماء صهيلاً وفرحاً ليحفظ لصنعاء سفر “العشق والطرب”، ولكي تطلق حوله ثلة من الأطفال ضحكات الفرح والأمل، هو يحرك يديه في الجو معبراً عن رقصة الخيل اليماني الأصيل. هذه الصورة وحدها تكفي لأن تروي للأجيال القادمة وللتاريخ والأمم، قصة صمود صنعاء..
تجوب طائرات العدوان الخارطة اليمنية ملقية بآلاف القنابل العنقودية المحرمة دولية، في أرجاء البلاد، غير أن الشعب اليمني الذي ألِف حياة التوازن في الحزن والفرح، والفقر والغنى، والكد والرفاهية، وهي عوامل الحياة التي جعلت منه عصياً على الانهيار أمام أزمة خمس سنوات من الصراعات والنزاعات والمواجهات المسلحة، أزمات الحياة المعيشية المتعاقبة والمتفاقمة.. ولم تتوقف المسألة عند هذه الخمس السنوات، بل ظل الشعب اليمني عصياً على الانهيار أمام آلة القتل الحديثة والبطش والعدوان السعودي البربري، مُسيراً حياته بكل طقوسها، فالموت الذي صار أليفاً يمضي في بابه من طقوس الحزن ومراسم العزاء ، والفرح يمضي في بابه من الاحتشاد الوطني والمجتمعي والأسري لزف التهاني وإحياء طقوس البهجة، فيما تمضي المعركة في مواجهة الاختلالات الداخلية وكسر شوكة التطرف ومقارعة العدوان- بل والتوغل في أراضيه، التي هي في الأصل يمنية مستلبة- في مضمارها المرصع بالتضحيات وصور الصمود التي تنبض بها كل الجبهات، وتعيشها فرحاً وإصراراً على البقاء عاصمة التاريخ والحضارة، ومدينة سام بن نوح “صنعاء”.
الـ(185) طائرة حربية حديثة التي تمثل دول تحالف العدوان الـ(17).. تلف الأجواء دون توقف منذ 10 أشهر، وهي تفتح جدار الصوت في سماء العاصمة صنعاء، تدرك جيداً أن صوتها المصمم على إخافة المعسكرات والجيوش الجرارة، لم تعد مخيفة حتى للأطفـال، بل أن طياريها وأسيادهم الذين أرسلوهم لقتل الشعب اليمني، بشرا وشجرا وحضارة، صاروا يموتون غيضاً، وحقداً ليس لأن الشعب لم ولن يعلن خضوعه للعدوان، بل لأن أطفال صنعاء وسكانها الذين يتجاوز عددهم الـ(2,5) المليونين ونصف المليون، يرقصون على وقع الانفجارات كما يرقصون على إيقاع البرعة اليمانية. وأن الحياة مستمرة بل تزداد عنفواناً حين يصبح الموت أغنية في شفاة الصمود.
هذا المشهد لفت انتباهي وأنا أعبر عتبة باب اليمن والجاً إلى صنعاء القديمة صبيحة استهداف حي القاسمي، يوم (12/6/2016م)، ورغم الكارثة التي عاشتها العاصمة صنعاء ورمزها التاريخي (صنعاء القديمة) إلا أن مشهد الحياة لم يتغيّر، فكل شيء يمضي في مساره المعتاد، متاجر مفتوحة، وبسطات عامرة، ونسائم من رائحة العطور، ومعاصر الزيت، وشراب الزبيب والشعير الذي تتزاحم عليه البشر والنحل معاً.. وفي مساحة وأخرى يلفت الانتباه “صُناَّع البهجة” في صنعاء التاريخ من الذين يحملون الدفوف أو الناي الذي يشدف الأسماع في جنبات المدينة من وقت لآخر.. هذه طقوس الحياة اليومية داخل صنعاء القديمة دخولاً من باب اليمن وخروجاً من باب شعوب.. وفي المأتم الذي أصاب حيّ القاسمي يحتشد الناس من كل محافظات الجمهورية الذين يسكنون صنعاء، مشمّرين سواعدهم لرفع الأنقاض وانتشال الضحايا، متعهدين بأن حيّ القاسمي سيعود إلى سيرته السياحية والجمالية الأولى، وهو بالفعل ما تم، فلم يمض أسبوعاً على استهدافه إلا وأختط الأحياء ممن نجوا من الموت في الأسر المالكة للمنازل الياجورية الصنعائية أساسات ومداميك منازلهم في مرحلة أولية لاستعادة تلك المباني هوية وجمالاً وكياناً بنيوياً..
خلاصة القول: إن المشهد الفتوغرافي في صنعاء يحكي ما لا تستطيع المؤلفات أن تحكيها من المفارقة العجيبة التي توثقها الذاكرة الضوئية، وكما لو أن هذا الارشيف البصري الوثائقي يحكي بما لا يدع مجالاً للمبالغة والمزايدة، تاريخ عريض من واقعية الصمود اليمني، وتاريخ أصيل لم تصل إلى ذروة إدراكه سوى ذاكرة المبصر العربي والإنساني شاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني، وهو يسترسل في محضر فقيد الشعر العربي حبيب بن أوس الطائي (أبو تمام) بعد ألف عام من وفاته، وذلك في مهرجان الشعر العربي، وهو يصدح بـ”بائيته” الشهيرة (أبو تمام وعروبة) التي تعد من عيون القصائد العربية الجامعة لأبرز المفارقات المؤسفة والعجيبة التي يعشها عالمنا العربي:
«حَبِيبُ» وَافَيْتُ مِـنْ صَنْعَـاءَ يَحْمِلُنِـي
نَسْرٌ وَخَلْفَ ضُلُوعِـي يَلْهَـثُ العَـرَبُ
مَاذَا أُحَدِّثُ عَـنْ صَنْعَـاءَ يَـا أَبَتِـي؟
مَلِيحَـةٌ عَاشِقَاهَـا: السِّـلُّ وَالـجَـرَبُ
مَاتَـتْ بِصُنْـدُوقِ «وَضَّاحٍ» بِـلاَ ثَمَـنٍ
وَلَمْ يَمُتْ فِي حَشَاهَا العِشْـقُ وَالطَّـرَبُ
كَانَتْ تُرَاقِبُ صُبْـحَ البَعْـثِ فَانْبَعَثَـتْ
فِي الحُلْمِ ثُمَّ ارْتَمَـتْ تَغْفُـو وَتَرْتَقِـبُ
لَكِنَّهَا رُغْمَ بُخْـلِ الغَيْـثِ مَـا بَرِحَـتْ
حُبْلَى وَفِي بَطْنِهَـا «قَحْطَـانُ» أَوْ «كَرَبُ»
وَفِـي أَسَـى مُقْلَتَيْهَـا يَغْتَلِـي «يَمَـنٌ»
ثَانٍ كَحُلْـمِ الصِّبَـا… يَنْـأَى وَيَقْتَـرِبُ.
قد يعجبك ايضا