يعد الروائي الراحل عبدالرحمن منيف، من كبار الروائيين في الوطن العربي، وممن كرسوا أعمالهم الإبداعية لفضح الأنظمة العربية القمعية والشمولية، وممن تناولوا التغييرات المختلفة التي لحقت بدول النفط العربي وما أحدثه النفط فيها من تحولات كبيرة انعكست بالسلب على المكان والإنسان..
وفي مقدمة تلك الأعمال الملحمة الروائية لمنيف “مدن الملح” التي تعد من أهم الأعمال الروائية العربية والتي تؤرخ لما مرت به شبه الجزيرة العربية من تحولات كثيرة وذلك عقب اكتشاف النفط وتدفق عائداته المالية الضخمة.
وقد حققت هذه التحفة الروائية النجاح الكبير، ولفتت إليها الانظار بقوة.. كما أنها صنفت كاتبها باعتباره معارضاً للحكم السعودي، الذي منع رواياته من الدخول والتداول في السعودية لسنوات طويلة.
وظل كاتبها معظم سنوات عمره لا يحمل جنسية والده السعودي الذي تزوج من والدته العراقية، وكان ثمرة الزواج هذا الروائي المبدع الذي عاش وظل يتنقل بين العديد من الاقطار العربية حتى وفاته.
لقد تناول عبدالرحمن منيف في جميع رواياته الواقع الاجتماعي والسياسي العربي بتحولاته الثقافية والاجتماعية ومارافقها من سلبيات وخيمة في دول الخليج النفطية.
وكانت خبرته الحياتية والميدانية وعمله في مجال النفط وتخصصه في اقتصاديات النفط من العوامل الهامة والمساعدة في إنجاز أعماله الروائية التي تناول من خلالها اكتشاف النفط وما أحدثه من تحولات متعددة في دول الخليج النفطية.
ولد عبد الرحمن منيف في عام 1933م في عمّان, لأبٍ من السعودية وأم عراقية. أنهى دراسته الثانوية في العاصمة الأردنية, ثم ألتحق بكلية الحقوق في بغداد عام 1952م. وبعد عامين من انتقاله إلى العراق, طرد منيف منها في عام 1955م, مع عدد كبير من الطلاب العرب, بعد توقيع (حلف بغداد); فواصلَ دراسته في جامعة القاهرة ، تابع عبد الرحمن منيف دراسته العليا منذ عام 1958 في جامعة بلغراد, وحصل منها في عام 1961م على درجة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية, وفي اختصاص اقتصاديات النفط, وعمل بعدها في مجال النفط بسورية في عام 1973م, انتقل منيف ليقيم في بيروت حيث عمل في الصحافة اللبنانية, وبدأ الكتابة الروائية بعمله الشهير (الأشجار واغتيال مرزوق) في عام 1975م, أقام في العراق, وتولى تحرير مجلة (النفط والتنمية) حتى عام 1981م حيث غادرفي العام نفسه العراق إلى فرنسا متفرغاً للكتابة الروائية. وفي عام 1986م, عاد منيف مرة أخرى إلى دمشق حيث أقام فيها حتى وفاته عام 2004م.
وصدر لعبد الرحمن منيف عدد من الروايات: (الأشجار واغتيال مرزوق) (1973), (قصة حب مجوسية) (1974), (شرق المتوسط) (1975), (حين تركنا الجسر) (1979), (النهايات) (1977), (سباق المسافات الطويلة) (1979), (عالم بلا خرائط) (كتبت بالاشتراك مع جبرا إبراهيم جبرا, 1982), خماسية (مدن الملح): (التيه) (1984), (الأخدود) (1985), (تقاسيم الليل والنهار) (1989), (المنبت) (1989), (بادية الظلمات) (1989), و(الآن هنا) أو (شرق المتوسط مرة أخرى) (1991), (لوعة الغياب) (1989), (أرض السواد) (1999). كما صدرت لمنيف مؤلفات في فن الرواية, ومؤلفات أخرى في الاقتصاد والسياسة.
وحاز على جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية للرواية عام 1989م وعلى جائزة القاهرة للإبداع الروائي التي منحت للمرّة الأولى عام 1998م.
تغيير من نوع آخر
هذا العمل الملحمي الكبير، الذي يتناول اكتشاف النفط في السعودية والمراحل الأولى في بناء الدولة ما أعقب وما جاء معه من كوارث.
يقول عبد الرحمن منيف عنها : أقدر أنّ الرواية يمكن أن تضيف جوانب معينة في وضع الشرق الأوسط ومناخه وبالتالي همومه. ومما لا شك فيه أنّ الحافز الأساسي لدي لكتابة هذه الرواية، كان الإحساس بأنّ موضوع النفط بحاجة إلى معالجة وإلى معرفة التأثيرات الكبيرة التي حصلت نتيجة وجود هذه الثروة التي لم يُحسَن التعامل معها. ومن البديهي أنّ إلقاء الأضواء على جزء من ماضي هذه المنطقة سيساعد في قراءة الواقع الراهن ومعرفة هذا الغليان أو هذا الوضع الاستثنائي المتفجر. ولعل السعودية هي إحدى هذه المناطق التي هي بحاجة إلى إعادة نظر. فالسعودية بصيغتها السياسية الحالية، بنظرتها، بمنطق الحكم السائد فيها، هي نوع من الصيغ التي تنتمي إلى الماضي، التي قد تلائم مرحلة سابقة، أما الآن فلابد من تجديد وتحديث الدولة والمجتمع وإشراك القوى، التي تكونت وأصبح لها حضور كبير على أكثر من مستوى، في القرار. كنا نفضل ألاّ تتدخل القوى الأجنبية وخصوصاً أمريكا في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، لكن نتيجة للتزمت وحالة الجمود المسيطرة على الوضع في السعودية تجعل الآخرين مدعوين وبنسب وصيغ متعددة لإبداء الرأي والتدخل لمحاولة استحداث تغيير من نوع آخر. ومن الطبيعي أنّ العلاقة الأمريكية ـ السعودية، التي مرت بعدة مراحل صعوداً وهبوطاً، لم تعد متكافئة أو متوازنة بحيث أصبح الأمريكان، الذين دعموا النظام السعودي في السابق، أيضاً مضطرين إلى إعادة النظر في المرحلة الحالية. وهو الأمر الذي نلاحظه من خلال الصحافة الأمريكية ومن خلال القوى والمناخات التي خلقت نتيجة أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وبالتالي أصبح موضوع السعودية على نار ساخنة ـ كما يقال ـ ولا بد من إحداث التغيير. وطبيعي أنّ المرء يتمنى أن يحدث التغيير داخلياً وطبيعياً وبمشاركة كل القوى التي تتطلع إلى مستقبل أفضل.
مدن مستعارة!!
وحين سئل في لقاء معه: لماذا أسمى روايته (مدن الملح) وليس مدن النفط الذي هو أقرب إلى موضوعها، بل هو موضوعها الأساس؟ يجيب بقوله: عندما يفكر الإنسان للوهلة الأولى لاختيار عنوان لهذه الرواية فسيقع اختياره على مدن النفط، لكني قصدت بمدن الملح، المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي. بمعنى ليست نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، إنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة. هذه الثروة (النفط) أدت إلى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حاد. الشيء ذاته ينطبق على الملح. فبالرغم من أنه ضروري للحياة والإنسان والطبيعة وكل المخلوقات، إلا أن أي زيادة في كميته، أي عندما تزيد الملوحة، سواء في الأرض أو في المياه تصبح الحياة غير قابلة للاستمرار. هذا ما هو متوقع لمدن الملح التي أصبحت مدناً استثنائية بحجومها، بطبيعة علاقاتها، بتكوينها الداخلي الذي لا يتلاءم وكأنها مدن اصطناعية مستعارة من أماكن أخرى. وكما قلت مراراً، عندما يأتيها الماء، عندما تنقطع منها الكهرباء أو تواجه مصاعب حقيقية من نوع أو آخر سوف نكتشف أنّ هذه المدن هشة وغير قادرة على الاحتمال وليست مكاناً طبيعياً لقيام حاضرات أو حواضن حديثة تستطيع أن تستوعب البشر وأن تغير طبيعة الحياة نحو الأفضل.
تقع روايته «مدن الملح» في خمسة أجزاء وهي بالترتيب: التيه والأخدود وتقاسيم الليل والنهار والمنبت وبادية الظلمات، وهي تعرض لتاريخ مدن وقرى شبه الجزيرة العربية في فترة اكتشاف النفط وما أعقبها من تحولات اقتصادية وسياسية واجتماعية،
تحولات فادحة
ومنعت في السعودية لاعتبار أن تاريخ حكام السلطنة الهديبية في الرواية إسقاط على تاريخ حكم آل سعود، أما روايته الإشكالية الأخرى والتي أحدثت ضجة في العالم العربي فكانت (شرق المتوسط) التي عرضت للتعذيب في السجون، خاصة في ظل الأنظمة الشمولية العربية، وقد أتبعها منيف برواية أخرى تعد جزءا آخر منها، وهى (الآن.. هنا) أعاد فيها سيرة التعذيب في السجون فى بيئة أقرب للبيئة الخليجية أما ثلاثيته الروائية (أرض السود) فهي آخر أعماله، وعرض فيها لتاريخ ومجتمعات العراق، ومن أعماله الروائية الأخرى «الأشجار» و«اغتيال مرزوق» و«قصة حب مجوسية» و«النهايات» و«حين تركنا الجسر» و«سباق المسافات الطويلة»،
عبدالرحمن المنيف أحد أهم الروائيين العرب والذي تناولت رواياته الواقع الاجتماعي والسياسي العربي، بتحولاته الثقافية والاجتماعية الفادحة في الدول النفطية، وساعده على ذلك خبرته الحياتية والميدانية التي اكتسبها من عمله كخبير بترول في شركات النفط.