قراءة في الكتابة ومبدعيها لبناء ذاكرة تاريخية
* عرض/ خليل المعلمي

تبدو كتابات عبدالرحمن منيف المتأخرة منذ “عروة الباهي” مرورا بـ”لوعة الغياب” و”رحلة ضوء” وكأنها تهجس بأن ينجز هو نفسه ما يطالب الآخرين به ويأتي كتاب “ذاكرة المستقبل” والذي نحن بصدده الآن ليسجل شهادات حول محطات وأشخاص يعيشون في ذاكرته ولابد من تسجيل ذلك ليبقى للمستقبل.
ونجد أن الدافع الأساسي وراء معظم ما ورد في هذا الكتاب هو تعزيز الذاكرة من خلال تسليط الأضواء على عدد من الظواهر الأدبية ومبدعيها بهدف إمعان النظر بشكل موضوعي تمهيدا لتوفير المادة التي تساعد على وضع سياق ومن ثم تاريخ أدبي دون تحيز ودون تأثير اللحظة الراهنة.. خاصة وأن معظم الذين تم التطرق لأعمالهم غادروا هذه الدنيا وبالتالي اكتملت الدوائر بالنسبة إليهم وأصبح من الممكن التعامل مع ما أنجزوه بموضوعية ولايعتبر الكاتب أن هذه المادة المنشورة نقدا بالمقاييس الصارمة المتعارف عليها خاصة وأنها لاتعتبر امتدادا لأسلوب في النقد المكرس وليست تجسيدا لمدرسة أو اتجاه.. واكتشاف ما وراء المباشر احتمال وارد في كل لحظة وهذا مايجعل النص أكثر غنى وقابلا لأكثر من قراءة.
كما أن هذا المادة المنشورة ليست تاريخا للأدب أو قولا نهائيا في المادة المعروضة وإنما رحلة في عدد من النصوص وتسليط الأضواء على بعض الجوانب التي يحسن الالتفاف إليها وإعادة النظر فيها.
ونحن هنا أمام كتاب ذي نمط معين من الكتابة لم يكتشف بعد ولم يحظ باسم محدد ولكن هذا النوع من الكتابة مفيد وضروري للاقتراب أكثر من أي شخصية أو موضوع أدبي أو فكري يهدف إلى لفت النظر إلى جانب منه كان في الظل مما يشجع على المتابعة والتقصي.
السيرة الذاتية
بدأ المؤلف كتابه باستعراض كتابات جبرا ابراهيم جبرا تحت عنوان السيرة الذاتية أو أنواع منها ون هذه الكتابات البئر الأولى والتي تناول فيها فترة الطفولة حتى الثالثة عشر من عمره والكتاب الثاني شارع الأميرات والذي كرس بشكل أساسي للفترة الأولى من إقامته في بغداد بعد النكبة الفلسطينية ويشير المؤلف أن جبرا ابراهيم جبرا قد بث القليل من سيرته الذاتية في ثنايا بعض كتاباته مثل الروايات وبعض الكتب النقدية الأمر الذي يحتاج إلى جهد دراسي لجمه ثم مقاطعته بمعلومات أخرى تمهيدا لتوثيقه لأن مجموع ذلك يلقي الأضواء على سيرة هذا المبدع الكبير ويضع كامل السيرة في سياق منسجم ومتناسق.
إن الاطلاع على عالم جبرا الغني والمتعدد في مراحله المختلفة وأماكنه العديدة يتطلب جهدا مشتركا من الذين عرفوه ورافقوه وأيضا من الذين يدرسون تاريخ المرحلة والمنطقة خاصة في جانبه الإبداعي لأن تدوين هذا التاريخ بمقدار ما يلقي أضواء على جبرا المبدع فإنه يلقي أضواء هامة على المخاضات الكبرى وترسيمات تلك المرحلة في مجالات إبداعية هامة تحديدا في الشعر والرواية والنقد التشكيلي لأن جبرا إبراهيم جبرا يعتبر أحد المساهمين الكبار في إعطاء هذه الحقول الإبداعية ملامح ومسارات معينة.
“الصبي الأعرج”
وينتقل المؤلف للحديث عن مجموعة “الصبي الأعرج” ودورها الريادي في مجال القصة القصيرة وهذه المجموعة هي أول مجموعة قصصية لتوفيق يوسف عواد والتي نشرت في العام 1936م وهذا مايعطيها أهمية كبيرة خاصة أن القصة والرواية لم تكونا قد رسخت أقدامهما في تلك الفترة.
وعلى الرغم من أنه قام بترجمة العديد من الروايات الفرنسية إلا أنه فضل أن يبدأ من بيئته المحلية وأن يقدم نماذج مما عاش وعرف.
ويوضح المؤلف أن الأوضاع التي رافقت الحرب العالمية الأولى وخاصة المجاعة التي انتشرت في بلاد الشام ولبنان تعتبر أحد أبرز العوامل التي أعطت لتوفيق عواد جزءا من ملامحه وظل هذا الجرح يلح عليه ويؤلمه بحيث لم يكتف بالإشارة إليه أو تناوله في عدد من قصص هذه المجموعة وحدها وإنما خصص له رواية الرغيف والتي تعتبر من أهم ماكتب عن تلك الحرب.
وبين المؤلف الخصائص الفنية الموجودة في قصص هذه المجموعة “الصبي الأعرج” في البنية القصصية واللغة ومعالجة مختلف القضايا الاجتماعية السائدة.. مؤكدا أنها من الأعمال الرائدة في مجال القصية القصيرة العربية.
أما روايته “الرغيف” والتي صدرت في العام 1939م فقد بمثابة بداية لعصر جديد ومرحلة جديدة لأن هذه الرواية بالإضافة إلى نضجها من الناحية الفنية كما يقول المؤلف فقد تناولت المجتمع بحركته المواراة ومشاكله الأكثر إلحاحا من خلال شخصيات حية وأحداث لاتزال طرية في الذاكرة وقد فعلت ذلك بأسلوب ينبض بالحرارة والرشاقة وبلغة تختلف جذريا عن اللغة المصنوعة المزركشة التي كانت سائدة.
بناء ذاكرة تاريخية
يأخذنا الكاتب في هذا الجزء ليستعر بعض الأعمال التي تتناول عددا من المبدعين في مجالات شتى مثل الكاتب محمد دكروب الذي تعرض في كتابه “شخصيات وأدوار في الثقافة العربية الحديثة” و “وجود لاتموت” إلى قراءات ف