شنت مقاتلات إسرائيلية غارات عديدة على اليمن واستهدفت ضمن قائمة أهدافها حي التحرير بالعاصمة صنعاء ومقر صحيفة 26سبتمبر وصحيفة اليمن، والمكان يحوي كل تاريخ اليمن فضلا عن كونه مؤسسة مدنية، وبه مطابع لصناعة المعرفة وهو في مكان تحيط به مبان أثرية يعود تاريخها إلى قرون من الزمن، كما يتواجد بجانب المكان المتحف الوطني الذي يحوي كل تاريخ اليمن.
هذا الاستهداف لم يكن غريبا على سلوك إسرائيل، فقد دل تاريخها على ذلك وما تزال على ذات الطريق، لكن الغرابة تكمن في التداول الإعلامي العربي الذي يحاول تبرير هذا الجرم الشنيع لإسرائيل، رغم الكثير من التوضيحات التي قالها بعض الذين استضافهم ذلك الإعلام، ويبدو أن الإعلام العربي لديه موجهات واضحة تقضي بالتعامل مع الجرم الصهيوني في حق الصحافة واليمن وفي حق الثقافة والتاريخ وفي حق الإنسان بذلك الاستخفاف الذي لا يتصف بالضمير الشريف ولا النزيه، كما أن اليمن التي تقود معركة الوجود العربي مع إسرائيل، لم يتعاطف معها أحد من دول العالم وحتى لم يتعاطف معها الإعلام العربي وفي ذلك شرف عظيم، فالحق في الغالب يبدأ في آهات مكتئب ثم ينتهي بزئير ملؤه نقم، فالأنظمة العربية هانت على إسرائيل وعلى أمريكا نفسها وهي تشعر بالخزي والعار وترى اليمن بكل ذلك الشموخ والتحدي تصنع المعجزات في زمن لم يعد تصنع فيه المعجزات ولذلك لا غرابة إن مال الإعلام العربي إلى صف العدو حتى لا تظهر عورات الأنظمة للشعوب، فتثور على الخاضعين الأذلاء من أولئك الذين تنتهك سيادة أوطانهم، فيكتفون بعبارات التنديد والشجب دون أن يرف جفن الكرامة في عيونهم أو يستيقظ ضمير الكرامة في نفوسهم.
موقف اليمن من غزة ومما يحدث في غزة وموقفها المساند لغزة، ثابت ولن يتغير، فهو الموقف الحق أمام صلف وغطرسة الكيان الغاصب، وقد دلت الانتهاكات الصهيونية لبعض العواصم العربية على صوابه، فالعدو لا يحفظ لمطبع معه إلَّاً ولا ذمة وسوف يتعامل مع العواصم العربية كأنظمة ذليلة خاضعة وسوف ينتهك سيادتها ويحرجها مع شعوبها إن لم تبادر اليوم قبل الغد لتدير معركتها الوجودية معه، ويحسب لليمن أنها صاحبة السبق في الدفاع عن الأمة وعن كرامة الأمة رغم الجراح التي تتسع رقعتها يوما بعد آخر في ظل صمت عربي وحصار عربي واستهداف عربي لها، لكنها رغم كل ذلك مازالت تقف كالطود شامخة عزيزة تمرغ وجه العدو في التراب.
ما حدث باليمن يوم الخميس العاشر من سبتمبر 2025م، كان مؤلما وفاجعة كبرى لنا، فقد استهدف الإنسان والتاريخ والحضارة، وفاجعتنا تهون في سبيل الأمة التي تتعرض لأكبر جرم إبادة للمكان والبشر في التاريخ المعاصر والقديم في ظل صمت عربي مريب إزاء ما حدث ويحدث في المنطقة العربية والعواصم العربية قاطبة، فالواقع لا يتحدث إلا عن فعل مقاوم واحد يأتي من اليمن يحفظ للأمة كرامتها ووجودها وعزتها، لكن فاجعتنا الكبرى هي في التعاون والتماهي مع العدو من قبل أنظمة عربية ومن قبل الكثير من النخب الإعلامية والثقافية العربية.
اليمن ليست بلدا طارئا ولكنها تضرب بجذورها في عمق التاريخ وعلى الذين يراهنون على العدو الصهيوني في تحقيق مآرب آنية، نقول لهم إن الرهان على الصهيونية رهان خاسر وسوف يتحدث الواقع عن ذلك الخسران في قادم الأيام والشهور، فالعدو يظل عدوا وهو اليوم يستبيح كل شيء في المنطقة العربية دون أي موانع أخلاقية أو التزام بالعهود والمواثيق الدولية ودون أي اعتبار لأي نظام سياسي عربي.
لم يكن مقر صحيفة 26سبتمبرمنشأة عسكرية حتى يتم استهدافه بعشرات القذائف، كما أن المكان هو واجهة ثقافية وإعلامية وتاريخية تعني اليمن كله بكل طيفه السياسي والمذهبي والعرقي ولا يعني مكونا سياسيا بعينه وعلى الذين بالغوا في حقدهم على أنصار الله أن يراجعوا حساباتهم ومفرداتهم ومواقفهم تجاه العدو الصهيوني، وتجاه انصار الله، فالعدو هو العدو ولا بد من إعادة تعريف العدو في حياتهم ومواقفهم، والمرء يستغرب من الحركات التي كانت تتشدق باسم فلسطين وبنصرة فلسطين كيف تصبح بوقا اليوم لعدو فلسطين وعدو الأمة كلها ولا نرى في مواقفها ما يصدق أقوالها في سالف أيامها، لقد دلت مواقفهم على سرائرهم ولا عزاء لنا فيهم إن أصبحوا بوقا للعدو فقد كانوا جزءاً من منظومته وكشفتهم المواقف والتاريخ لن يرحم كل متخاذل هان عليه أمر أمته في معركتها المصيرية مع عدوها التاريخي .
عشرات الصحفيين والكتاب والفنيين استشهدوا في الغارة على التحرير والعشرات من المواطنين الذين استشهدوا في الغارات التي اتسعت دائرتها إلى أكثر من مكان في اليمن، لكن ما حز في نفسي هو ذلك الاستهداف لمنطقة التحرير ولمقر صحيفة 26سبتمبر، ويبدو أن العاشر من سبتمبر سيظل يوما خالدا في ذاكرة اليمن واليمنيين ولن يمر مرور الكرام، فدلالة المكان تحمل فكرة التحرير وسوف نواصل جهادنا حتى تحرير فلسطين وتحرير العقول العربية الفاسدة من قيود العبودية للغرب وللصهيونية، فالراية لن تسقط بتدمير المكان ولكن المكان بدلالته اللغوية سيكون دافعا نفسيا لكل الشرفاء للسير نحو التحرير، فالمعركة بدأت ولن يخف غبارها إلا بالانتصار وسوف ننتصر، ذلك وعد الله إن وعد الله كان مفعولا .