راتخم الأصيل

وجدي الأهدل

هذا الرجل الرائع لا يدفع تكاليف المسكن الذي يقيم فيه. لأنه ببساطة قرر أن يعيش في كرتون مصنوع من الورق المقوى البني اللون. ليس له جيران من النوع المعتاد فالفيلا التي يقطن فيها تقع في شارع المطاعم وهو شارع فرعي مسدود قذر ومزدحم في الصبح والمساء..

ودائما هناك صياح وضجيج لا يهدأ يصدر عن جيرانه وهم أصحاب المطاعم ومحلات بيع الشاي بالحليب. غالبا ما ينام حتى الضحى. وعندما يخرج الطلاب من الثانوية المجاورة في فترة الاستراحة ليتناولوا إفطارهم أو لشرب الشاي بالحليب فإنه يفضل إخراج رأسه من الكرتون ليتفادى تعرض كرتونه لركلات طائشة من أولئك الصبية الوقحين الذين يزعجهم استغراقه في نوم لذيذ. يخرج من كرتونه ببطء شديد وكأنه يرقة تخرج من شرنقة فيبدأ أولا بإخراج رأسه مغمضا عينيه ثم يفتحهما على مهل وكأن ضوء النهار يسبب له ألما لا يطاق. وبعد حين يحدج المكان ببصر واهن محاولا التعرف عليه وباذلا جهدا إضافيا لتذكر من هو¿ وكيف وصل إلى هنا¿ يسحب صدره إلى الخارج ويتكئ بمرفقه على دكة إسمنتية ضيقة وآنذاك ينتابه إحساس بالغبطة لوجود تلك الدكة إذ لولاها لما تسنى له النهوض من فراشه. وهو في جلسته الملوكية تلك ودون أن يتفوه بكلمة يحضر له نادل ذو شفة أرنبية كأس الشاي بالحليب المملوء إلى نصفه “الدبل”. كثيرون يمرون ويلقون عليه التحية فيرد عليهم والبشاشة الصادقة تمرح في وجهه. يتأمل الناس في غدوهم ورواحهم ويشعر بالحزن لأجلهم وخصوصا حين يسمعهم يتحدثون عن غلاء المعيشة وارتفاع إيجارات المساكن وفواتير الماء والكهرباء والهاتف المرهقة للجيوب. يراهم مقطبين قلقين منزعجين والهم يرسم زواياه الحادة على سحنهم والتجاعيد تتكاثر وتشرخ صورهم والاضطراب يتغلغل تحت الجلد فتنطفئ نظرة العيون وتنخسف الجباه العالية وتغور البسمات السعيدة. هو وحده يعرف سر نجاته من هذه التحولات المرعبة للوجه البشري.. لأنه ورغم بلوغه الأربعين عاما ووجود تلك اللحية السوداء المسترسلة ما زال وجهه طفوليا وعيناه بريئتان. ولأنه لا يحمل في جيبه مالا صار مستغنيا عن كل أحد. التفكير في المال لا يشغله لذلك يرى نفسه أغنى من كل أغنياء المدينة.. لأنه من منهم – أي الأغنياء – بلغ من الثراء حدا لم يعد معه يفكر في المال¿! لكن من أين يعيش راتخم الأصيل¿ كيف يدبر ثمن وجباته¿ طبعا هو يدفع ثمن الطعام الذي يتناوله والشاي بالحليب الذي يشربه فهو لا يستجدي أحدا ولا يقبل إحسانا من أي كان.. ولذلك يقوم بجولات عديدة على قدميه لجمع قناني المياه البلاستيكية في كيس نايلون كبير جدا ثم يبيعها لمحلات العصائر. ويدخل ضمن نشاطه أيضا جمع الكراتين وأطباق البيض. ويوفر له هذا العمل الشبيه بجمع الثمار من الغابة زمن الأقوام البدائية ثمن المأكل والمشرب وأحيانا ثمن ربطة القات “الصوطي”. قلبه ينبض براحة ولا شيء تقريبا يشغل باله. عندما يخرج من غرفة نومه الصغيرة جدا وينهض متمطيا كالقط يبدو فارع القامة عريض المنكبين قوي البنية وخصره دقيق وبطنه ممسوحة كأنما هو فارس ضائع في زمن يخلو من الفروسية. شعره أسود فاحم يصل إلى كتفيه ووجهه الطويل فيه ملاحة ورجولة مؤثرة. كيف لا يكون مثل هذا العملاق بوسامته اللافتة ورجولته الطاغية شخصية بارزة في المجتمع¿! من المفارقات أن معظم الشخصيات التي تدير شؤون المجتمع في وقتنا الحاضر هم من قصار القامة ويبزغون من الشاشات بطلة قبيحة وبجماجم خالية من الشعر مثلي أنا.. شيء محير فعلا!!
يبدو لنا العالم الذي يعيش فيه راتخم الأصيل محدودا للغاية وخاليا من الإثارة والتغيير وأن أيامه كلها متشابهة وأنه يمضي أوقاته على نحو روتيني ممل. لكن هذا التصور خاطئ تماما لأنه لا يمر عليه أسبوع دون أن يتشاجر مع عناصر البلدية الذين يحاولون طرده من مكانه أو مع آخرين لا يعجبهم وجوده بقربهم أو متشردين أفظاظ يحاولون سلبه نقوده القليلة التي يحصلها بعرق جبينه. وقبل سنوات عرضت عليه امرأة أرمل تملك بيتا أن يتزوجها ولكنه رفض عرضها المغري دون أن يرف له جفن. وأما الأعمال التي عرضت عليه ورفضها فأكثر من أن تحصى. لم يكن يقبل بأن يتأمر عليه أي رب عمل مهما أعطاه من مال. كان يريد أن يبقى سيد نفسه.. وهو ما كان.
راتخم الأصيل له أصدقاء كثيرون أغلبهم متشردون مثله يهيمون على وجوههم في الحارات بلا مأوى معظم أيام السنة والقليل منهم يموت في ذروة البرد. حين يقيل ليخزن القات يلتف حوله عدد منهم ويتبادلون أحاديث لطيفة.
أحيانا تخطر المرأة ببال راتخم الأصيل فيبتسم ويغرق في تخيلات ممتعة وتراوده أحلام يقظة ساحرة : يتخيل شابة حسناء هيفاء القد بشرتها كالحليب تهيم به عشقا.. يتصورها تراقبه من نافذة غرفتها حين يمر من الشارع الذي تسكن فيه. يتخيل رعشة قلبها حين تراه وكيف تهرع آن يغيب عن ناظرها إلى الورقة والقلم لت

قد يعجبك ايضا