الانحناء للعاصفة

عبدالرحمن مراد

مقالة


 - يقول قانون الطبيعة إن الشجرة التي تمعن في الطول وتتخشب هي الأكثر عرضة لضربات العاصفة والتي تنحني وقادرة على الانحناء والتموج هي الأكثر حظا في البقاء والاستمرار وكذلك
يقول قانون الطبيعة إن الشجرة التي تمعن في الطول وتتخشب هي الأكثر عرضة لضربات العاصفة والتي تنحني وقادرة على الانحناء والتموج هي الأكثر حظا في البقاء والاستمرار وكذلك هي السياسة شدة في لين ولين في شدة وهي معادلة صعبة لا يتقنها إلا الحاذق الفطن وتظل شعرة معاوية هي معيار النجاح من عدمه في السياق العام والمتطور من الجذر التاريخي العربي إلى اللحظة الحضارية التي نحن فيها.
في واقعنا ثمة حقائق موضوعية يفترض بنا التعامل معها كقضايا جوهرية وحقيقية لأن القفز عليها باستعادة الشعارات التاريخية لن يحقق الانتصار السياسي أوالمصلحة السياسية العليا للوطن ذلك أننا نعيش واقعا حضاريا غير مستقر ولا تشترك فيه كل الأطراف في المعتقدات والقيم وطبيعته أصبحت متعددة ومن هنا يكون استدعاء المماثل التاريخي تحفيزا لثأر وليس استنفارا لقضية ومن يتعامل مع الأدوات السياسية القديمة إنما يعلن نهايته في واقع حضاري جديد ومتعدد لا مكان فيه للتضليل والزيف والهروب إلى النقاط المضيئة في التاريخ بل المكان فيه للمنطق وللحقائق العلمية الثابتة والتعامل الموضوعي والجاد مع القضايا العامة والخاصة فصدمة الحقائق أقوى من الأسلحة والأدوات السياسية القديمة التي تجاوزها منطق اللحظة الحضارية الجديدة وأدواتها.
في عالم اليوم لم تعد الأسرار أسرارا ولم تعد الموجهات الثقافية والسياسية واحدة ولم يعد المجتمع الوطني الكلي يشترك في ذات القيم والمتعقدات والمنطلقات لقد حدث تبدل كبير وتغير في الأساليب والأدوات أكبر مما يخطر على قلب ساسة البلدان البدائية أو ساسة اللحظات التاريخية الفارقة الذين ترعرعوا في مناخات العقود الثورية ولم يتجاوز وعيهم تلك اللحظات ليتفاعل مع اللحظات الجديدة.
ما حدث في مناخات الربيع العربي ليس بالأمر الهين البتة فقد أحدث زلزلا في البناءات الثقافية والاجتماعية والسياسية وترك وراءه فرزا واقعيا لا حظ فيه للقوى التقليدية ولا للأدوات القديمة لأنه تجاوز الماضي وهو يصنع الآن لحظته ومستقبله وكثيرا ما كنا نؤكد في مقالاتنا أن الأحزاب أصبحت بحاجة إلى مراجعة لكل البناءات التنظيمية والتواصلية والثقافية لتعيد ترتيب نفسها بما يتوافق والواقع الحضاري الجديد وبما يعزز روح المشروع الثقافي والسياسي وينمي قيم التعايش وقبول الآخر وهو أمر لا أظن الأحزاب وقياداتها العتيقة تتقبله فالغرور أعماها وثقتها الزائدة بنفسها تجعلها تحتقر من يضعها موضع النقد أو يقترح عليها رأيا بحكم معرفته الموضوعية للواقع.
علينا أن ندرك أن الجوع يعادل الوجود وهذا المعادل الموضوعي يفقد الشعارات قيمتها ومعناها فالجماهير وفق فطرة الله لها لا يشغل بالها الشعار السياسي ولا المصلحة السياسية للأطراف والكيانات والأحزاب إذ أن كل ما شغل بالها في كل لحظة زمانية أومكانية وعبر التاريخ هو الأمن من الجوع والأمن من الخوف وأي طرف سياسي يشتغل على هاتين الخاصيتين الوجوديتين يجد من يلتف حوله بحكم فطرة الله للناس, ولا يظن ظان أن الموضوع بالمقدور السيطرة عليه إذا اتسع خرقه وطال به الأمد فالحكمة في مثل هذه الحالات استنفار الطاقات ومعالجة المطالب وفق القدرات المتاحة وبما يحقق المساواة والعدالة الاجتماعية ويعمل على تفكيك البناءات الطبقية في المجتمع وهي بناءات تمتاز بقدرتها التفاعلية مع الاقتصاد السياسي في منظومة الدولة ومؤسساتها وهو الأمر الذي يترك أثرا نفسيا عند الناس وفي الغالب قد يكون هو الباعث الحقيقي في الانتفاضات الشعبية والثورات السياسية كما يسرد على مسامعنا التاريخ وأخص منه تاريخ عصر النهضة بدءا من الثورة الفرنسية وما تلاها وصولا إلى ثورات الربيع العربي التي إذا أمعنا النظر في أسبابها الحقيقية والباعثة لها لانجدها تخرج عن خاصيتي الأمن من الجوع والأمن من الخوف فالذي أحرق نفسه كان جائعا والذي قتل القذافي كان مقموعا ومقيدا في حريته أي أنه كان خائفا والذي كان في القاهرة خاف من الخاصيتين والثائر في صنعاء كان يشعر بفقدان قيمته في ظل التشكل الجديد لمجتمع طبقي مشائخي لا يعير المعرفة أي اعتبار ولم يشعر بالأمن النفسي ولا الأمن الاجتماعي أي أن جذر الثورات قديمها وحديثها واحد وإن تغيرت وتبدلت الشعارات.
وفي أي مرحلة تكون توافقية ناظمها الأساسي هو التوافق مع ما يصحبه من خوف وتربص وعمليات سياسية طابعها العام تكتيكي بالضرورة تلك المرحلة تترك الفراغات في البناء العام ومثل تلك الفراغات يأتي من يملأها وحيئذ تكون اللحظة السياسية خارج نطاق السيطرة لقوى التوافق ووقتئذ يكون الانحناء هو الخيار الأمثل حتى تمر العاصفة أو يهدأ ع

قد يعجبك ايضا