التصادم.. وقلب التشفير الثقافي

قراءة : علي الفهد


لقد أصبح الفضاء الذي ظل منذ بدء التكوين رمزا للعدمية واللا شيء متهما بكل شيء إلا من اللا شي والعدمية ومسرحا مفتوحا لأسرع عمليات التواصل وأكثرها غرابة وفي خضم هذه المتناقضات والمفاجآت والسرعة في عصر يقاس الحدث بالجزء من الثانية أدرك الشاعر الحداثي أنه بحاجة ماسة إلى تطوير أدواته الشعرية فكثف رؤاه واختزلها في لغة تلمح ولا تصرح تشير ولا تحيل ,تقول ولا تقول وكتابة تحتفي بالفراغ كما تحتفي بالسواد .وغامر في البحث والاستكشاف عن حقول وتجارب جديدة فالتقط الجوهري من الهامشي والمنسي وأطلق الإنساني في البعيد والغامض,وأدرك أن الشعرية لم تعد محصورة في شكل أو موضوع بل صارت سمة العصر ,تجدها في القصيدة والصورة والمقال واللافتة وشريط الاحتجاج وأشكال الأحذية والأزياء,والفلكلور … وهو بهذا التفاعل يبدي احتراما لذاته أولا,وللقارئ الذي يعيش حياة السرعة وسرعة الحياة بأبعادها الستة.
وتجربة الشاعر محمد القعود في ديوان الألم أناقتي من أهم التجارب الواعية بالعصر ومتغيراته وقد تجلى ذلك الوعي على مستوى الشكل واللغة ,و من خلال الرصد العميق للتجربة والإمساك بذروة الشاعرية دون مقبلات ولا بهرجة ولا مساحيق وتكثيفها في عبارات مختزلة في خطها الزمني الكتابي,كثيرة في تناسلاتها الدلالية .
والشاعر القعود في هذا العمل الإبداعي يرصد بعدسة الرؤيا الشعرية الاختلال والفوضى التي يعيشها الفرد والجماعة في مجتمعات يعيش مبدعوها أحدث التحولات لفلسفة الحداثة وما بعد الحداثة وتعيش أنظمتها إقطاعيات ضرب عنها العالم الصفح وطواها النسيان إلى غير رجعة .من هنا اقترح النص الذي بين أيدينا آليات قراءته من خلال التكرار الملفت لظاهرة التصادم على مستوى اللغة الشعرية بوصفه الأسلوب الذي تكمن فيه عناصر الإدهاش والمفاجأة ,والتقنية التي تفسر الرغبة في قلب التشفير الثقافي القائم .
(1) خطاب العتبة ..المبدع بين شبح التلقي ونشوة الاكتشاف:
يختم القعود عتبات الكتاب الذي ضم أعماله الشعرية الكاملة حينها عام 2004م,ومن بينها ديوان “الألم أناقتي ” فيما اسماه ب(“ما يشبه البوح” توضيح لا يهم أحدا):
ما يتدلى من غصون هذا الصفحات/ الكتاب ,هي خلجات قلب وبوح ضمير ,ونشيد روح …
وليس المطلوب قراءتها بعدسة معايير الشعر ,أو النثر ..أو..أو…الخ
إنها “كتابات بلون المطر” ..وهذا هو نبضها ,وملامحها وجنسها الأدبي .
فهلا تم مصافحتها بأصابع تجيد لغة الندى ,وهلا تم معانقتها بعيون تجيد قراءة المطر ” في مهب الحنين ص14)
إن الخطاب بمجرد تموضعه و امتلاكه حيزا في الفضاء الكتابي داخل منجز إبداعي يصبح مهما وإن ادعى صاحبه أنه لا يهم أحدا .
يجلي الخطاب ارتعاش وحنق في آن غرور مفخخ في جسد متواضع ظاهر إنه بمجرد قوله (ليس المطلوب ,والتعبير بأسلوب الحض ,هلا تم مصافحتها .مع ما يبديه من رقي أخلاقي في تداولية الخطاب خارج هذا السياق إلا انه هنا وفي هذا الجنس يعد تدخلا في خصوصية التلقي فالمبدع وبعد وضعه للنقطة الأخيرة في النص غير مسئول عن طبيعة التعاطي والسكنى بل يصبح ميتا وليس له من حياة إلا تلك التي نفخها في لغته ويضيف موجها للقارئ وممارسا عليه سلطة التلقي “وليس المطلوب قراءتها بعدسة معايير الشعر ,أو النثر” وقد يرد قارئ ما وليس المطلوب أن يحدد المبدع للقارئ ما يجب عليه فعله.
وما لا يبقي ظلا للشك أن الشاعر إثر انجازه لهذه التجربة يشعر أنه أضاف واكتشف وهو لهذا يخشى الأدوات التي تحاكم الشعرية من خلال إلزامها بحدود الجنس الأدبي ,ولا يبعد أن يكون توضيح المبدع جاء كردة فعل على نوع خاص من التلقي – التقليدي تحديدا – الذي يعامل النص بأدوات غير متكافئة وعلى أساس نصوص مثالية قدمها العصر العباسي أو الجاهلي وقدم أدوات قراءتها علماء اللغة والفقه ونقاد التقديس للتاريخ السالف. القعود يخشى على منجزه الأدبي من قارئ جلف يدخل إلى النص بأدوات تأطيرية وتصورات جاهزة للشعر وحدوده وحين لم يجد الشكل المألوف ولا يجد العروض والضرب والقافية يبدأ للتو بإلغاء المبدع أولا ومن ثم إبداعه ويزداد تقديسه للقالب بتقديره أنه ألقى القبض على عمل منكسر وعاجز عن غزل القوافي الرنانة والخطابات المستهلكة ويصف إبداعه “بالبدعة” وهو “إبداع ” وبـ “المبهم” وهو غامض وبالهذيان وهو حدوس .
سيدرك القارئ أن القعود عاقلا في مراوغته وتواضعه ولا يخفي أن خطورة استحضار القارئ التقليدي عند المبدع أثناء الكتابة قد تكلفه خسارة اكتشاف أو تجاوز. ولعل هذا ما يفسر مطالبة الشاعر للقارئ بقراءتها بأدوات جديدة – لم يقترحها – لكنها ليست تلك التي يقرأ بها جنس بعينة .
وقد أشار الدكتور عبد العزيز المقالح في تقديمه للأعمال الكاملة 2004م إلى وسم الشاعر لمنجز

قد يعجبك ايضا