واحد من الأسباب !!

اعترضني أحد شباب الحي ليلة البارحة أثناء عودتي من صلاة العشاء طالبا مني ” بنطلون ميري مموه “!! جال في خاطري لأول وهلة أنه ربما كان عسكرياٍ في وحدة ما وحدث لبنطاله العهدة عليه ما تسبب في عدم صلاحيته للارتداء كما يحدث عادة أثناء تنفيذ بعض المهام وأنه يريد عوضا عنه ليحافظ على قيافته العسكرية التي هي تعد أحد أعمدة الانضباط العسكري والتي عادة ما تدل على ما ورائها من الفخر بالانتماء للجندية وحسن التدريب والعقيدة القتالية إلى آخر رتوش الحياة العسكرية التي اعتدناها, واعتذرت له بلطف مرفقاٍ ذلك الاعتذار بابتسامتي التي اعتدت أن أعبس بها  في وجوه الآخرين دوماٍ ( رغم ما قد يكون في داخلي من ألم في بعض الأحيان ) ببساطة شديدة لأنني منذ تم إقصائي من القيادة في نهاية العام 2011م لم يعد لي حضور يمكنني من خدمة ذلك الشاب بتوفير ما طلبه مني , لكنني عاودت النظرة إلى ذلك الفتى أتفحص ملامحه التي تدل على أنه ربما لم يتخرج بعد من الثانوية العامة , كما أننا في وقت يكون الاهتمام بالقيافة والهندام العسكري آخر ما يتصوره الواحد منا , فأجبرني فضولي على أن أسأله عن سر طلبه ذاك !! فكانت الإجابة التي أضافت بنداٍ في بنود آلامي على وطني الجريح !!! قال لي أن الظروف الراهنة أجبرته على ترك المدرسة وأنه اشترى دراجة نارية وقرر العمل عليها لتوفير لقمة العيش لأسرته التي فقدت أي عائد حيث أن والده يمارس العمل الحر الذي هو منعدم تماما هذه الأيام وأن البنطلون الميري المموه يسهل عليه المرور من النقاط دون اعتراض .
أدركت مدى المأساة التي جعلتنا لا نستطيع مساعدة أطفالنا ممن هم دون الثامنة عشرة من  أعمارهم على أن يعيشوا طفولتهم بصورة طبيعية فتكون بقية مراحل الحياة لهم طبيعية أيضاٍ , وبدأت أتفكر في المستقبل الذي قد يكون عليه من الأطفال من يجبر على ترك مقعد الدراسة !!  تركته متألما على حالته الصعبة لكني ألمي على وطني الذي صار هذا حال كثير من أبنائه أشد وأقسى  .
عادت بي الذاكرة إلى سنوات مضت حين كنت في موقع القيادة في العمل الأمني والشرطي وكان بعض زملائي من القادة يرون في اهتمامي بتطبيق البسيط من رتوش الانضباط بذات القدر الذي أوليه للأساسي منها ( تشدداٍ) لا ضرورة له طالما والتساهل في تلك الأمور هو العنوان السائد في كثير من الوحدات الأخرى وعملاٍ بقاعدة ( مشي حالك تمشي معاك ) والمثل الشعبي ( إذا دخلت بين العوران , اعور عينك مثلهم ) , لكنني كنت مصراٍ حينها أن الارتهان لمثل هذا سيجعلنا حيث نحن في آخر القائمة , وأن التطور الذي نتشدق به ونسمعه في الخطابات التي ينظمها القادة ويحسنون ترديدها لن يتأتى أبداٍ ونحن نتساهل في أبجديات العمل , وإهمال البسيط منها يقودنا حتماٍ شيئاٍ فشيئاٍ إلى إهمال الأساسي والكبير منها, كنت أتمنى أن تطبق اللوائح بدقة متناهية وعلى الكبير قبل الصغير وكانت الحقيقة واضحة لي حينها مثل الشمس فقد جنينا أنا وزملائي في شرطة الدوريات الراجلة نتائج ثمار تفعيل اللوائح وعادت نتائج أنشطتنا على كل مكان كلفنا بالعمل فيه من حفظ الأمن والنظام في الشوارع التي أدرجت في خطط نزولنا إلى النقاط الأمنية الثابتة التي ضبطنا من خلالها العديد من السيارات المسروقة والعديد من الأشخاص المطلوبين أمنياٍ إلى المسيرات التي حميناها لسنوات  والأنفاق التي حميناها ليل نهار تحت الأرض وجسور المشاة فوق الأرض والحدائق والمتنزهات  وأمام مدارس البنات الإعدادية والثانوية إلى آخر ما كنا نكلف به من أعمال, كان الأفراد والضباط يرون في نجاحاتهم ما يعوض عليهم كدر قل الراتب وعدم كفايته وينسيهم تعب الوقوف ومعاناة حر شموس نهار الصيف الحارقة وقروسة ليالي الشتاء الباردة. وهاهي النتائج اليوم تؤكد لي أنني كنت في الطريق الصحيح ولا أدري هل أدرك بعض زملائي أن الوطن لا يبنى على كل شيء فيه يسير من ذات نفسه ( بالبركة ) وهذا ما كان على ألسنة كثير من الناس .
باختصار شديد أرى أن ذلك التساهل منذ عشرات السنين كان واحداٍ من الأسباب التي أدت إلى ضعف أداء المؤسستين العسكرية والأمنية وسهلت للأسباب الأخرى التي  أوصلتها إلى الانهيار ولا أغفل الأسباب الأخرى التي بات الجميع يدركها .
يبقى درساٍ مؤلما لكن إصرارنا على إعادة بناء الوطن يجعل من واجبنا تذكره جيداٍ حتى لا نكرر ذات الأخطاء التي تسبب العثرات.

همسة أمنية :
هيئة الشرطة جزء من المجتمع المدني لأنها كما عرفها الدستور ” هيئة مدنية نظامية ” ولا غنى لها أبداٍ عن تعاون المجتمع المدني معها مهما كانت الظروف.
الظروف التي يمر بها وطننا تجعل تعاون المجتمع ضرورة لإعادة بناء جهاز الشرطة على أسس سليمة وعلى قاعدة الشراكة الفعلية بين الشرطة والمجتمع.
دام اليمن ودمتم بإذن الله سالمين.

#  قائد شرطة الدوريات الراجلة – سابقاٍ

قد يعجبك ايضا