الثورة / متابعات
رغم أن أصوات المدافع خمدت وأزيز الطائرات لم يعد يخترق سماء غزة، إلا أن الحرب لم تنتهِ فعليًا في قلوب الناس.
فالدمار الذي خلّفته لا يقتصر على المباني والمنازل، بل امتدّ ليطال أدق تفاصيل الحياة الاجتماعية، حتى تلك التي كانت تُعرف بأنها مساحة الفرح الوحيدة في حياة الغزيين حفلات الزواج.
في شوارع غزة، يمكنك أن تلمح عروسًا ترتدي فستانها الأبيض، تمشي بخطوات مترددة نحو قاعة صغيرة أو حتى بيت متواضع.
لا موكب سيارات، لا زفة صاخبة، ولا إطلاق ألعاب نارية في الهواء كما كان معتادًا. المشهد بسيط، متقشّف، لكنه مليء بالرمزية. فهنا، كل ابتسامة تُرسم على وجه إنسان تُعدّ فعل مقاومة.
اليوم نزفُّ أخانا الأصغر «عامر» إلى عروسه…
عامٌ ونصف مضى على المجزرة… على تلك الليلة التي خسرنا فيها كل شيء.
استُشهد فيها أبونا وأمّنا، وإخوتنا وأخواتنا جميعًا.
نجا عامر من تحت الركام، مجروحًا… مذهولًا… لكنه ظلّ حيًّا.
واليوم… أنا وأخي الحبيب عمرو، نقف في المكان الذي…
يقول الشاب محمد عوض، الذي تزوّج بعد انتهاء الحرب بأيام قليلة: “ما قدرت أفرّح مثل الناس، ما إلي نفس، جيراني فقدوا أولادهم، والمنطقة كلها طالعة من وجع كبير. عملت حفلة صغيرة لأهلي بس، بدون موسيقى ولا ضجيج… المهم نبدأ حياة جديدة، مش ننسى اللي راحوا”.
كلمات محمد تختصر حالة عامة يعيشها كثير من الغزيين اليوم، فالفرح لم يغب كليًا، لكن تغيّر شكله ومضمونه. بعد أن كانت الأعراس في غزة مناسبة يجتمع فيها مئات الأشخاص وتستمر لياليها بالغناء والرقص، أصبحت اليوم مجرد جلسات عائلية بسيطة، يُقدَّم فيها القهوة والحلوى على استحياء، وتُستبدل الأغاني بالأناشيد الهادئة.
تقول أم يزن، وهي والدة عروس أُقيم زفافها مؤخرًا: “قلنا لبنتنا ما في داعي لقاعة، الناس مش فاضية تفرح، الكل مكسور. عملناها في البيت، بين الأقارب، الفستان نفس الفستان، بس الروح غير”.
الحرب الأخيرة لم تترك بيتًا في غزة إلا وطرقت بابه. مئات العائلات فقدت أحباءها، وآلاف الجرحى ما زالوا يعانون. لذلك، أصبح من الصعب أن تُقام حفلات صاخبة بينما على بعد أمتار يرقد جيران فقدوا أبناءهم. هذا التناقض الأخلاقي جعل كثيرين يعيدون التفكير في معنى الفرح ذاته.
يشرح المختص الاجتماعي عبد الله محمود الظاهرة قائلًا: “المجتمع الغزي يعيش حالة من الحداد الجماعي، تقاليد الفرح تغيّرت لأنها لم تعد تتماشى مع المزاج العام ولا مع الحالة النفسية للناس، حتى مفهوم السعادة بات أكثر تواضعًا… صار الزواج يُحتفل به كواجب اجتماعي، لا كطقس احتفالي”.
إلى أبهى عروسين في العالم؛ محمد وياسمين..
تحت القصف والغارات، بدلًا من الزهور والباقات، وبين ما تبقى من أهل في خيام النازحين، بدلًا من دار مناسبات يجتمع فيها الأقربون والمعازيم، وتحت أصوات الضحكات المتقطعة بحسرة بدلًا من أصوات الأغنيات والزغاريد الفرحة، تدخلان حياةً جديدةً تغيظ…
لكن رغم الحزن، ثمة بصيص أمل. كثير من الشباب يصرّون على المضي في حياتهم، رغم الألم، معتبرين أن استمرار الحياة بحد ذاته شكل من أشكال المقاومة. تقول العروس إسراء أبو دية: “ما بدنا نعيش على الأطلال. بدنا نكمّل. الفرح صار موقف وطني، مش مجرد مناسبة شخصية”.
تلك الروح التي تجمع بين الحزن والأمل هي ما يميز غزة دائمًا. المدينة التي اعتادت أن تنهض من تحت الركام، تواصل حياتها بأبسط الإمكانيات، وتحتفل رغم الجراح. صحيح أن مظاهر الفرح تغيّرت، لكن جوهرها الإصرار على الحياة ما زال كما هو.
في المساء، حين تسير في أحياء غزة القديمة، قد تسمع صوت زغاريد خافتة تأتي من أحد البيوت. ليست صاخبة كما في الماضي، لكنها تحمل صدقًا نادرًا، دفئًا إنسانيًا يُشعرك أن هذا الشعب، مهما انكسر، لا يزال يملك القدرة على الحب، والابتسامة، والأمل.