القصد عند إطلاق النار عمداً في الليل

 

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

كل المتهمين بجرائم القتل يدفعون التهم المنسوبة إليهم بالقتل العمد بقولهم إن القتل كان خطأ، وانهم قصدوا الفعل ولم يقصدوا تحقيق النتيجة لاسيما اذا حدث اطلاق النار في الليل ؛ويستغل هؤلاء تشدد الشريعة والقانون في إثبات القصاص، بشهود الرؤية للفعل والنتيجة ، ولا شك ان هناك قرائن تصاحب واقعة اطلاق النار، يستدل منها عمّا اذا كان المتهم تعمد اطلاق النار، اذا كان قد تعمد إحداث النتيجة أو توقع حصولها، والقيمة العلمية والعملية للحكم محل تعليقنا انه أرسى قاعدة مفادها أن المتهم اذا اطلق النار عمداً في اتجاه شخص يعرفه يكون قاتلاً متعمدا له، ولو كان الإطلاق في الليل فلم يتبين الجاني بالضبط مكان المجني عليه طالما ان المتهم قد اتجه في إطلاقه للنار في اتجاه المجني عليه، حتى لو حدثت الواقعة ليلاً، لأن القضاء في اليمن ظل لفترة طويلة يتهيب من الحكم في القصاص في حوادث اطلاق النار الليلية، لأن المتهم لا يعرف بالضبط موضع المجني عليه، وقد لا يعرف من هو المجني عليه.
ولأهمية هذا الموضوع فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 15/2/2011م في الطعن الجزائي رقم (43467) لسنة 1431هـ، وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان المجني عليه ابن عم المتهم كانا قد اختلفا على ملكية مساحة من الأرض في ظهيرة احد الأيام، ولم يحسم هذا الخلاف حيث ظل كل طرف متربص لرد فعل الطرف الآخر، وفي مساء اليوم الذي حدث فيه الخلاف كان المتهم واقفاً مقابل منزله لحراسته، فجاء المجني عليه مقبلاً على منزل المتهم وهو يرمي بالحجارة على باب منزل المتهم، والى سطح البيت وكان المجني عليه يظن ان المتهم داخل المنزل، وحينئذ قام المتهم مباشرة بإطلاق أربع طلقات نارية في اتجاه المجني عليه فأرداه قتيلاً في الحال، ومع ان المتهم قد أقرّ بأنه تعمد اطلاق النار على الشخص الذي رمى الحجارة وانه قد عرف المجني عليه، مع ان الوقت كان ليلاً إلا ان المتهم قد دفع بأنه لم يكن يقصد قتل المجني عليه، وانما كان يقصد اخافته وزجره عن رمي منزله بالحجارة ليلاً، ومع ذلك فقد قضت المحكمة الابتدائية بالقصاص من المتهم، وقد ورد ضمن أسباب الحكم الابتدائي (انه قد ثبت لدى هذه المحكمة أن المتهم قد تعمد اطلاق النار في اتجاه المجني عليه حيث قال المتهم إنه كان يظن أن المجني عليه هو عمه والد المجني عليه، كما أن قرائن الحال قد دلت على أن القتل عمداً لأن المتهم قد أقر بإطلاق النار في اتجاه المجني عليه، وكذلك أكد الشهود في شهاداتهم أن المتهم قد قام بإطلاق النار مباشرة فور قيام المجني عليه برمي الحجارة إلى سطح وباب منزل المتهم، وحيث ثبت ان المتهم اطلق النار مباشرة في اتجاه المجني عليه بشكل مباشر فلم يكن قصده من ذلك التخويف، أو التحذير، فقد كان بوسع المتهم ان يطلق النار في الهواء خاصة وأن المجني عليه لم يكن مسلحاً أو يشكل خطراً على المتهم، ومن خلال ظروف وقرائن الواقعة فقد اتضح للمحكمة عدم صحة إدعاء المتهم بأنه لم يتعمد قتل المجني عليه وأن القتل قد وقع على سبيل الخطأ، فقد وجدت المحكمة أن ذلك غير ثابت وإنما الثابت هو توفر أركان واقعة القتل العمد) فلم يقبل المتهم بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه، إلا ان الشعبة الاستئنافية رفضت استئنافه وقضت بتأييد الحكم الابتدائي، وقد ورد ضمن أسباب الحكم الاستئنافي (فقد وجدت الشعبة ان ما ذكره المستأنف بأن محكمة أول درجة لم تفصل في دفعه الذي يطلب فيه تعديل وصف التهمة من قتل عمد إلى قتل خطأ، حيث انه من الثابت أن المحكمة الابتدائية قد فصلت في دفعه وذكرت في أسباب حكمها ان ذلك غير ثابت، وإنما الثابت توفر أركان القتل العمد وان قصد المتهم قتل المجني عليه فقد توفر لدى المتهم العلم والإرادة والاختيار وتقبل النتيجة)، فلم يقنع المتهم بالحكم الاستئنافي فقام بالطعن بالنقض في الحكم إلا ان الدائرة الجزائية لم تقبل طعنه وقضت بإقرار الحكم الاستئنافي؛ وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (فقد وجدت الدائرة ان واقعة القتل العمد ثابتة بإقرار المتهم بإطلاق النار في اتجاه المجني عليه رداً على قيام المجني عليه برمي الحجارة إلى منزله إضافة إلى أقوال الشهود التي جاءت مؤيدة لاقرار المتهم).. وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ما هو مبين في الأوجه الآتية :
الوجه الأول : إطلاق النار عمداً وعلاقته بالقصد الجنائي :
إذا تعمد الجاني فعل إطلاق النار فاتجهت أرادته وعلمه الى فعل الإطلاق بأن قام طواعية واختياراً بالضغط على زناد البندقية وهو يعلم انه سيترتب على ذلك الفعل اطلاق المقذوف، فالجاني يكون متعمد الإطلاق قاصداً ذلك، ولكنه مع تعمده الإطلاق الا انه قد لا يتعمد تحقيق نتيجة الإطلاق وهي القتل أو الجرح كمن يتعمد اطلاق النار على شخص وهو يخيل له انه حيوان مفترس مقبل على مهاجمته، فعندئذ لا يكون القتل عمداً لأن الجاني وان قصد الإطلاق الا انه لم يقصد تحقيق النتيجة، وهي القتل فيكون القتل في هذه الحالة من قبيل قتل الخطأ، اما اذا تعمد الجاني اطلاق النار وفي الوقت ذاته تعمد أحداث النتيجة أو توقع حدوثها فيكون القتل عمداً كمن يطلق النار على شخص في أثناء عراك في وضح النهار (النظرية العامة للقصد الجنائي، د. محمود نجيب حسني، ص94).
الوجه الثاني : إشكالية تعمد اطلاق النار ليلاً :
تكمن هذه الاشكالية في ان الجاني الذي يقوم بإطلاق النار لا يعلم من هو المجني عليه ولا يعلم تفاصيل جسمه ولا يعلم أن الطلقات المقذوفة أصابته أم لا، ولا يعلم أين أصابت المجني عليه، ولا يعلم مكان المجني عليه بالضبط في مسرح الجريمة، ولذلك فقد ذكرنا ان القضاء اليمني كان يتهيب الحكم بالقصاص في حالات الإطلاق العمدي للنار ليلاً ؛لأن اغلب حالات الإطلاق هذه كانت تقع من الحراس الليلين سواء في مزارع القات أو المتاجر والعمارات والبيوت، وربما ان بعض القتلة قد ادركوا هذه الوضعية، حيث استغلوا الليل وجنح الظلام لتنفيذ عمليات القتل العمد للإفلات من عقوبة القصاص، وعندئذ كان لابد للقضاء اليمني وهو يعيش ضمن مجتمع مسلح بنسبة 100 %، معتاد على اطلاق النار، في هذه الحالة كان لابد للقضاء ان يستخلص قرائن للتفرقة بين الإطلاق العمدي الليلي للنار بقصد القتل، واطلاق النار عمداً بقصد التحذير أو التخويف .وفي الوقت ذاته للتفرقة بين القتل العمد والقتل الخطأ الذي يتعمد فيه الجاني اطلاق النار ولكنه لا يتعمد القتل والسابق بيانه وسوف نعرض هذه القرائن في الوجه الثالث.
الوجه الثالث : القرائن الدالة على عمدية القتل في اطلاق النار ليلاً :
من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد انه قد استند إلى قرائن كثيرة استفاد منها ان القتل كان عمداً مع أن اطلاق النار كان في الليل، ويمكن تلخيص هذه القرائن وعرضها على النحو الاتي :
1- تعمد اطلاق النار : فالمتهم اعترف بأنه اطلق النار عن علم وإرادة واختيار، وهو يعلم ان المقذوفات النارية يترتب عليها قتل من تصيبه ويعلم أيضا ان البندقية هي آلة القتل في العصر الحاضر ؛فتعمد المتهم اطلاق النار قرينة على انه يريد تحقيق النتيجة أو يتوقع حدوثها.
2- معرفة المتهم للمجني عليه في جنح الظلام : فالمتهم افاد بانه كان يظن المجني عليه هو عمه، فظهر له من بعد ان المجني عليه هو ابن عمه وليس عمه لان المجني عليه خرج من بيت عمه، ففي الحالتين يكون المتهم عارفاً أن المجني عليه مسلم معصوم الدم محرم قتله شرعاً وقانوناً فليس وحشاً أو صائلا ، ويمكن للمتهم ان يتعرف على المجني عليه في الليل من صوته أو من شكله أو من ملابسه …الخ.
3- الخلاف فيما بين المتهم والمجني عليه : حيث كان المتهم قد اختلف مع عمه وابن عمه في اليوم ذاته، على ملكية موضع زراعي، فكان الطرفان مستعدين لردود الأفعال في الليل بسبب الخلاف الذي حدث بينهما في ظهر اليوم ذاته. ولذلك كان المتهم متوقعاً لرد الفعل على الخلاف، وكان مستعداً لأي طارئ بسلاحه خارج المنزل، حتى يسهل له التعامل مع أي ردود أفعال، فما إن قام ابن عمه برمي الحجارة على منزل المتهم بادره بإطلاق اربع طلقات أصابت المجني عليه بمقتل، والمتهم معترف بان المجني عليه حينما خرج من منزل عمه كان يظنه العم، وحينما وصل يصيح ويرمي الحجارة تأكد له انه ابن عمه وليس عمه، فهذا الخلاف قرينة على أن هناك بواعث على القتل، فلو كان الشخص الذي رمى الحجارة غير عمه أو ابنه لغيّر المتهم من رد فعله.
4 – اتجاه الرماية الليلية : من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد انه قد صرح بأن المتهم قد اطلق النار في اتجاه المجني عليه مباشرة، وفي ذلك قرينة على أنه قد قصد قتل المجني عليه، ولم يقصد اخافته أو تحذيره أو دفعه ؛.فلو كان المتهم يريد الاخافة أو التحذير أو الدفع لاطلق النار في الهواء، وليس في اتجاه المجني عليه، لان اطلاق النار في اتجاه المجني عليه أو في الاتجاه الذي يتوقع وجود المجني عليه فيه قرينة على انه كان يريد تحقيق النتيجة، وهي وقوع القتل أو كان يتوقع حدوث هذه النتيجة ؛وبناءً على ذلك فإنه يتوجب على الحراس أو الأشخاص عندما يطلقون النار في الليل للحراسة أو للتحذير أو التخويف أو الإنذار أو الدفع ان يقوموا بإطلاق النار في الهواء، وليس في اتجاه السراق أو غيرهم، وقد ورد في قانون حماية الشرطة 2014م ضمن ضوابط استعمال الشرطة للسلاح انه يتوجب على الشرطي اذا استدعت الضرورة أو الحاجة استعماله للسلاح ان يقوم بإطلاق طلقات تحذيرية في الهواء قبل ان يطلق النار في اتجاه المطلوبين، كما يتوجب على الشرطي ان لا يتعمد توجيه الطلقات الى أماكن قاتلة في أجسام المطلوبين، وكذلك الحال بالنسبة لغير الشرطي اذا اضطر لاستعمال السلاح الناري. والله أعلم.
*الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

قد يعجبك ايضا