رواية” ذكريات الأمكنة” رواية الحب والثورة


الغربي عمران

الرواية في الأقطار العربية، هل وصلت إلى مرحلة التميز بملمح مختلف عن الرواية الأوروبية أو اللاتينية أو رواية الشرق الأقصى. أم لا تزال امتداداً لما يكتب في الشرق والغرب؟ سؤال يتبادر إلى الذهن أثناء قراءة لأعمال روائية صادرة حديثا في الأقطار العربية. أم أن الرواية المعاصرة في أي مكان من العالم تتمازج موضوعيا وفنيا مع بعضها كأدب واشتغال فني إنساني.
بين أيدينا الرواية الثالثة للكاتبة آية ياسر، وهي أديبة مثابرة. عنوانها “ذكريات الأمكنة” صادرة في القاهرة 2021م عن دار العهد للنشر والتوزيع.
سبق أن قرأت للكاتبة “همس الأبواب” رواية. روايتها الجديدة غطت ما يقارب من قرن في تاريخ مصر. لتشمل حياة أربعة أجيال. راصدة لتلك التحولات المؤثرة في المجتمع المصري منذ بداية القرن الماضي بشخصياته: تاج الدين، إيمير، صالح، حنة. إلى الجيل الثاني: نشوان، نوركان، عنبر. ثم الجيل الثالث: زينب، كوثر، فريد، مراد، سمير، نورا، عايدة، وليد. ثم الرابع: نرمين، سامي، نور، جيهان، سامي، بسمة، ماجد، كرم. وكادت تدخل في حية جيل جديد.
ومن خلال حياة تلك الأجيال، وصراعاتهم يتعرف القارئ إلى أكثر من وجه لهذا الشعب العظيم. ورغم كثرة الأسماء، والأحداث. إلا أن الكاتبة استطاعت أن تمسك بخيوط الحبكة دون أن ينسى اسم، أو يهمل تصاعد حدث. هنا يبرز قدرة الكاتبة كساردة متمكنة تمتلك القدرة على حبك حكايات متتالية لشخصيات في صراع محتدم لتقدم لقارئها أنساقاً مشوقة لشخصيات مختلفة تباينت بين العادية والشخصيات المركبة بل والغريبة. ككوثر وإيمير.
ولم يقتصر الأمر على كثرة الأسماء، فتلك الكثرة قد أفضت إلى تشابك الأحدث وتصالبها، بل وتعدد الأمكنة في فضاء زمني كبير. يقف القارئ منبهرا أمام ذلك النسيج المشوق والمدهش، حين تقدم تلك الشخصيات بما تحمله من تناقضات، لترسم ملامح أعماقها بدقة. بتقاربها المكاني والزماني وكذلك تباعدها. بتفاوتها الطبقي والاقتصادي والفكري. ليجد القارئ عملا روائيا متماسكاً.
فهل نستطيع تحديد محور واحد لهذا العمل، أم أنه مكون من عدة ثيمات. هل عنوان العمل عبر عن مكنونه. قد يكون ذلك صحيحا، فالفضاء المكاني متنوع من شمال السودان إلى جنوب مصر، ومن القاهرة بحواريها وأحيائها وميادينها وأسواقها، إلى الإسكندرية، ثم المجر، واليونان. ثم العالم الجديد. وإن كانت مدينة القاهرة قد استحوذت على نصيب الأسد. بتعدد أحيائها القديمة من عابدين إلى خان الخليل والدرب الأحمر إلى التحرير والمهندسين. وأمكنة لا حصر لها عبرت عن مركزية القاهرة في هذا العمل.
فهل نصف الرواية بالمكانية، طبعا لا، وإن كان المكان أخذ الحيز الكبير، وكاد ينافس شخصيات العمل. إذاً هل الرواية سياسية، نعم إلى حد ما. تاريخية، أيضا إلى حدا ما. اجتماعية بالطبع، وبامتياز فالكاتبة رصدت أهم تحولات المجتمع المصري من الملكية والاحتلال، وزمن الإقطاع إلى الثورة والإصلاح الزراعي، ثم إلى حروب مصر المتكررة، ثم عصر السادات وسياسة الانفتاح، ثم زمن حسني وتفشي الفساد الذي أدى إلى قيام الثورة وخروج الشعب إلى الشوارع.
رواية تبذر تساؤلات كثيرة ولا تضع أجوبة، بل تترك للقارئ كل حسب ثقافته أن يجد لها أجوبة. وهذه إحدى وظائف الرواية الجديدة تفجير التساؤلات. وتحويل القارئ من متلقٍ إلى شريك يفكر ويضيف ما يفترضه ويضع أسئلة لما يراها من أسئلة تثيره.
إذاً ،هي رواية اجتماعية سياسية تاريخية إلى آخر التوصيفات لما اشتملته من جوانب متعددة. وهي رواية الثورات والتحولات الكبرى. رواية الأحلام والآمال الكبرى وتعدد الخيبات.
هناك شخيصات رئيسة يمكننا سبر أغوار الرواية من خلال أنساق حياتها. الجيل الأول جيل الإقطاع ويكاد أن يكون ذا سمات عامة لحياة مصر في ذلك العصر. الذي قسم المجتمع إلى أسياد متحكمين كنخبة يمتلكون كل شيء. وتابعين لا يملكون شيئاً غير ارضاء أسيادهم وهم الشريحة الكبرى سكان الأرياف وأصحاب المهن البسيطة. من حرموا من أبسط حقوق المواطنة، فلا تطبيب أو تعليم أو أي خدمات عامة لقراهم. حيث يعيشون لارضاء طبقة متحكمة متسلطة. ثم الجيل الثاني جيل التحولات والذي عاش سنوات الإقطاع ثم الثورة وما بعد الإصلاح الزراعي. لنرى كيف تغيرت أحوال مصر، من خلال رشوان وريث الباشا الاقطاعي، الذي أصبح فقيرا بسبب المراهنات، ثم الجيل الثالث من بنات وأبناء الجيل الثاني، وقد حققوا ذواتهم كأبناء للثورة والاشتراكية. فهذا ضابط وهذه محاضرة في الجامعة. وذاك تاجر وآخر دبلوماسي. وهكذا بقية الجيل ليتاح لابن الفلاح مثل ابن الباشا التعليم والتوظيف والنشاط التجاري. حسب جهده.
الرواية سلطت الضوء على خلل ظل مستشرياً.. حيث ظلت الطبقية مهيمنة. فكرم ابن عضو مجلس الشعب يحب بسمة ابنة البواب. ذلك الحب وئد في مهده. بسبب فقر أسرة بسمة، وثراء أسرة كرم، رغم أن والد كرم كان بداية حياته متمردا، حين تزوج بعايدة الأرملة الفقيرة. ولولا كنز اللقى الأثرية التي أصبح بفضلها ثريا، بل وأحد رموز الحزب الحاكم ونائب في البرلمان لظل فقيرا يعمل في حانوت والد زوجته. ليفرض على ابنه كرم قطع علاقته ببنت البواب. زميلته في الجامعة.
تنتهي الرواية عند هذه الصدمة. وقد ظهر كرم ككائن هش وغير قوي. وهو المؤشر الذي أرادته الكاتبة لجيل الحاضر. بمزية بسمة وكرم وصابرين ومراد وحنان.
لم يستحوذ محور معين ورئيسي على الرواية التي تقارب صفحاتها الثلاث مائة صفحة. بل تعددت المواضيع وتشعبت بتعدد شخصياتها. ولذلك أصفها برواية تعدد الثيمات. عند هذا يستحق هذا العمل الوقوف من النقاد والباحثين لدراسته الدراسات المستفيضة.
وبالعودة إلى الأعمال السابقة للكاتبة. مقارنة بهذا العمل الذي لفت انتباهي إلى تطور أساليبها. فقد جعلت السارد عليم. إلا أنها أشركت شخصيات العمل في الحكي ورواية بعض الأحداث، خاصة تلك الحكايات التي تدعوا الشخصية لتذكر الأمس والعودة إلى أحداث مضت. وهنا تشارك الشخصيات في سرد بعض الأحداث.
الجانب الأهم أن الكاتبة استخدمت تقنية النقلات السريعة بين الحاضر والماضي ثم إلى ماضي الماضي. حيث بدأت أحداث روايتها من الزمن الروائي الحاضر. راصدة نقل ثريا ألى بيت أخيها مراد نتيجة أعراض الزهايمر، الذي أفقدها التركيز أو معرفة من حولها. لتستعرض الكاتبة تلك العلاقة الشائكة بين ثرياء واختها زينب، أخت غير شقيقة من أبيها. لتنتقل الكاتب بداية من صفحة 9 إلى رصد أسباب تلك العلاقة الشائكة بين الأختين، من خلال العودة إلى الماضي، وحياة والدهما رشوان وزوجته الأولى النوبية “عنبر” السمراء. بنت شريك والده. ثم زواجه بأخرى ذات الجذور التركية “توركان”. وتلك الظروف التي جعلت الأختين في خلاف دائم فالنوبية سمراء، وذات الجذور التركية بيضاء. ومن ماضي جيل الآباء تنتقل الكاتبة إلى ماضي الماضي. إلى زمن جيل الأجداد من صفحة 13 وهكذا استخدمت الكاتبة تلك النقلات، لتقدم للمتلقي عدة مستويات زمنية في لوحات حكائية واضحة لتلك التحولات والصراعات بين الأجيال. صاعدة بسرد روايتها بشكل تدرجي حتى صفحة 93 . لتعود إلى الزمن الحاضر لأحداث الرواية، ومن هنا تأخذ بتصاعد أحداث الحاضر، حتى جيل الأحفاد. هذه التقنية جعلت من هذا العمل عملا مشوقاً ومدهشاً. مشاركة قارئها لأجواء تلك الأحداث، ليعيشها كأحد أفراده رغم البعد الزمني والمكاني.
أمر آخر. استخدمت بين صفحة وأخرى تواريخ متباعدة للتدليل والربط الزمني بين الأحداث والأمكنة والشخصيات بداية من عام1919م سنة عزل ونفي سعد زغلول. إلى عام 1933م عام استكمال تعليه سد أسوان للمرة الثانية، وأثرة ذلك على سكان قرى نوبة. عام 1948م بداية الحرب العربية الإسرائيلية وأثر ذلك على مصر وعلى المنطقة العربية. ثم عام 1952م. وثورة الضباط الأحرار. وما أحدثته تلك الثورة من تحولات كبرى. اجتماعيا وسياسيا ليس على مصر بل والوطن العربي. ثم علم 55 سنة انفصال السودان عن مصر. ليأتي حدث عظيم بناء السد العالي. ثم أثره حرب اليمن ونكسة عام 1967م في حروب إسرائيل إلى العاشر من رمضان عام 1972م. بذكاء استخدمت الكاتبة توالي التواريخ من صفحة إلى أخرى، مع تداخل ذكريات شخصيات العمل من عصر إلى آخر ومن حقبة إلى أخرى لتقدم لقارئها عملا روائيا متكاملا.
صفحة 179 حضرت الشخصية” سليمان”، كشخصية لها حضور مع أنها ذكرات بشكل خاطف في صفحات سابقة. ليبدو حضورها مفتعلاً وغير مبرر. إلا أننا نكتشف أن تلك الشخصية قد انتجبت شخصية أخرى كان لها أثر، والمتمثلة في ابنته” صابرين” التي خلفت ابنتها “نسمة” الطالبة في جامعة القاهرة. تلك الفتاة التي مثلت طبقة الفقراء منأم تخدم في البيوت إلى أب يعمل بوابا. يرقد في إحدى مستشفيات الإعاقة الذهنية. إلى عم يعمل كبائع خضار. وظفت الكاتبة تلك الشخصيات روائيا. حين تنشأ قصة حب بين بسمة وزميلها كرم ابن الثري والوجيه. ليحكم على علاقتهما بالموت. وهنا تعالج الكاتبة قضية الطبقية الاقتصادية المغلفة بغلاف اجتماعي التي فشلت الثورة باجتثاثها.
رواية تقدم ثراء معرفيا زاخراً عن حياة المجتمع المصري خلال قرن مضى. وهو الأثر الذي انعكس على المجتمعات العربية بشكل أو بآخر.

قد يعجبك ايضا