معركة المفاهيم الاجتماعية والسياسية

عبدالرحمن مراد

 

في اليمن ومنذ بداية تسعينيات القرن الماضي بدأت حركة الانفتاح السياسي الذي تظافرت في تعزيز حركته ووجوده – أي الانفتاح السياسي – عدة عوامل دولية، كانهيار المنظومة الاشتراكية , وإقليمية كحرب الخليج , ووطنية وتتمثل في تحقيق الوحدة الوطنية والسياسية بين شطري اليمن، ومن خلال هذه المتغيرات دخلت عدة مفاهيم جديدة في القاموس السياسي اليمني كالوحدة , والتوافق , والتناوب , والشراكة الوطنية, والعدالة الانتقالية، كما لوحظ الإقبال المكثف على توظيف بعض المفاهيم الجديدة كالحداثة , والتحديث , والديمقراطية , المجتمع , المواطنة , الحريات , حقوق الإنسان …إلخ ومن اللافت للنظر أن توظيف تلك المصطلحات كان يتم دون نظر أو تدقيق أو حرص من أرباب السياسة أو جماعة صناعة الخطاب السياسي أو المؤسسات ومراكز الدراسات التابعة للمنظومة السياسية، وقد ترك ذلك الإهمال ظلالا قاتمة على المفاهيم بعد الصراع الذي عاشته وتعيشه اليمن منذ عام 94م إلى اليوم الذي تشهد فيه شيوع المفاهيم الملتبسة مثل الاستقلال والحرية والسيادة والتحرير …إلخ، فالصراع يترك ظلالا قاتمة على المصطلح، وقد يُحدث التباسا بغية الوصول إلى انهيار النظام العام والطبيعي وقد حدث ذلك من حيث يدري أرباب السياسة ومن حيث لا يدرون، إذ أن الفجور في الخصومة السياسية يحدث انهيارا قيميا، وبالتالي تهديدا واضحا للنظام العام والطبيعي دون مراعاة لأي اعتبارات إما عن جهل أو غباء سياسي مفرط أو التباس في مفهوم المواطنة .
لقد وصلنا إلى مرحلة تاريخية فاصلة في اليمن لا بد لنا من الوقوف أمامها بقدر واعٍ من المسؤولية الأخلاقية والمعرفية , فالصراع اليوم لم يعد صراعا عاديا بل يستخدم سيل المعلومات للوصول إلى أهدافه , وقد تكون أهدافه هدم المفاهيم وتغيير المصطلحات وتفكيك النظم المعرفية حتى يصل الخصم إلى حالة التيه , ولذلك فالانتصار في مثل معارك اليوم يبدأ من خلال ضبط المفاهيم وتحديد أبعادها النفسية والأخلاقية والمعرفية فهي محك القيمة الفردية والمجتمعية، ومحك المواطنة الحقة من غيرها , كما أن السلاح التقليدي لم يعد كافيا وحده في إدارة المعارك، فالفنون كما في الحالة التركية تدير مشروعا استعماريا توسعيا ناعما تستخدم الدراما فيه والسياسة والاقتصاد، وها هي تتمكن من تثبيت قدمها في العمق العربي بطرق ناعمة فهي تتواجد في جزيرة سواكن بالسودان دون أن تثير ضجيجا ، وتتواجد بقطر بغباء قادة الصحراء العربية ,وتتواجد بالبحر الأحمر والعربي برضى المجتمع الدولي، فالصراع اليوم ليس كما في أمسه فهو مختلف جدا , فالصراع والانتصار فيه يعتمد على قدرة الدول في توظيف الانفجار المعرفي بما يخدم مصالحها، ولذلك فبناء الفرد وتفجير قدراته وطاقاته من أهم الاستثمارات في هذا الزمن، وذلك من خلال تحديد مفهوم الوطنية والمواطنة وفق قيم وأسس التطورات الحضارية الحديثة، وبما يكفل مواطنا واعيا مستقرا نفسيا واجتماعيا من خلال توفر حاجاته البيولوجية الأساسية ، ومن خلال شعوره بالعدالة الاجتماعية ,وتكافؤ الفرص، وهي عوامل تعزز من الانتماء، وتشد من العزائم لتفجير الطاقات بصورة إيجابية وليس سلبية .
ولا بد أن نعلم أن لكل مرحلة من تاريخ المجتمعات مفاهيمها الخاصة التي تؤطر طريقة تفكير الأفراد والجماعات , وتحدد هوية وطبيعة العلاقات بينهم , ولا تكاد تقتصر جدلية الفكر واللغة على انتاج مفاهيم جديدة تستجيب للتحولات التي تطرأ على علاقة الفكر بالأشياء وبالعالم، بل تعمل على تحسين المحتوى العام للمفردات وتحسين المفاهيم في اتجاه توسيع المحتوى الدلالي أو تضييقه أو تعديله بشكل من الأشكال .
فنحن اليوم نعيش واقعا تهيمن فيه التكنولوجيا الغربية التي تحاول أن تطوي العالم في بؤرة صغيرة قابلة للرؤية والقياس تنصهر فيها الحضارات والثقافات لتصبح حضارة واحدة وثقافة واحدة وذلك بفضل التطور التقني في الصورة وفي السوشيال ميديا وابتكارات الإعلام الاجتماعي – الوسائط الاجتماعية كالفيس والوتس ….الخ – ومثل ذلك قد أحدث تبدلا سريعا فوق ما نتوقع في البنية الأخلاقية والثقافية في المجتمعات، ولعل الأشد خطرا هو انتقال مفهوم العولمة من الأفق الاقتصادي والسياسي إلى الأفق الثقافي والإعلامي والأدبي وهو ما بات يُعرف بالثقافة الشاملة أو المجتمع الكوني وهي ثقافة تذوب فيها الخصوصيات، فالعولمة تسعى بكل الوسائل حتى تجعل العالم شبيها بأمريكا، ولذلك نجد من هو مفتون بالنموذج الأدبي والثقافي الغربي، بل والنموذج الإعلامي مثل محاكاة بعض برامج المسابقات الشهيرة في الفضائيات مثل تلك التي تبهر المشاهد وتجعله معلقا بها ومتفاعلا معها بالتصويت والأنفاق وهي كثر , وقد انتشر أوارها في هشيم ثقافتنا فصنع واقعا عربيا بائسا في الفنون والآداب , ويرى بعض المفكرين أن العقل الأمريكي يحاول تطهير العالم من الإيديولوجيين والعقائديين الذين يمتازون بالثبات والدفاع عن الهويات، وهو الأمر الذي يعترف به الواقع من خلال حركة الجماعات كـ»القاعدة» و»داعش» حيث يعمدون إلى تفكيك البنية العقائدية والثقافية وتشويه صورتها من خلال الممارسات التي لا تتسق مع الإسلام ولا مع مبادئه وقيمه الإنسانية , فالتوحش والبدائية في الجماعات الاستخبارية يهدف إلى تعميم الثقافة الشاملة بالقفز على الخصوصيات من خلال الهدم والتفكيك , وقد لاحظ الكثير توالي الهجرات والضجيج الإعلامي حول الأفراد الذين يهربون من مجتمعاتهم إلى الغرب وعلى وجه الخصوص في الآونة الأخيرة كهروب شباب سعودي وخليجي وما صاحب ذلك من ترويج إعلامي يضاف إلى ذلك تفكيك البناءات الثقافية من خلال هدم الرمزيات الثقافية , والسعي إلى التقليل من أثرها ويأتي اعتذار رموز الوهابية عن أفكار التطرف في هذا السياق كما تابع المتابع , وكل تلك الخطوات تؤدي إلى طريق واحد وهو العولمة أو كما يحلو البعض تسميتها بالأمركة .
ولذلك نقول أن المعركة الثقافية اليوم لا تقل شأنا عن المعركة العسكرية ولا بد لنا من خوض غمارها بقدرة كبيرة حتى نحقق الانتصار الذي نرغب مالم فنحن ندور في دوائر مفرغة لا قيمة لها في الواقع ولا أثر لها في المستقبل , فدوائر التطور متعددة وتشمل إلى جانب الدين العقل والفن ولا بد من التوازن بين الدوائر حتى لا تطغى دائرة على أخرى فيكون الصراع تعبيرا عن النقص لا استقرارا من توازن الكمال بينهم .

قد يعجبك ايضا