مجاهد احمد راجح

قدوم الإمام الهادي – عليه السلام – وأهمية البصيرة للأمة اليوم

 

 

عاش اليمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من الظروف والمتغيرات؛ فهو ذلك البلد الذي أسلم أبناؤه على يد الإمام علي (عليه السلام) وعرفوه وتولوه ونفَّذوا وصية النبي (صلوات الله عليه وآله) لعمار وهو يقول له: (فإن سلك الناس وادياً وسلك عليٌ وادياً؛ فاسلك وادي علي وخلِ عن الناس، يا عمار إن علياً لا يَرُدُّكَ عن هدى، ولا يَدُلكَ على ردى)، وفي أيام الإمام علي (عليه السلام) كان أهل اليمن عماد جيشه في جهاده للناكثين والقاسطين والمارقين؛ ولذلك عمل الطغاة من بني أمية وبني العباس على معاقبة أهل اليمن بأسوأ الولاة، الذين عملوا على تمزيق شمل اليمنيين وتفريقهم وإثارة النزاعات والحروب فيما بينهم، وفي عام280 هجرية وصلت أوضاع اليمن إلى مرحلة سيئة من التناحر والظلم والفوضى، وآنذاك ذاع صيت الإمام الهادي إلى الحق (يحيى بن الحسين) الذي كان يعيش في بلاد الرس بالمدينة المنورة، وانتشر خبر علمه وورعه وشجاعته وتواضعه وكرم أخلاقه؛ فأرسل اليمنيون وفداً من العلماء ووجوه القبائل يطلبون منه الخروج إلى اليمن لإصلاح واقعها واستصلاح أهلها، وألزموه أمام خالق السماوات والأرض القيام بأمر الله تعالى؛ فاستجاب الإمام الهادي(عليه السلام) لأمر الله وقال: (والله الذي لا إله إلا هو وحق محمد ما طلبت هذا الأمر، وما خرجت اختيارًا وما خرجت إلا اضطرارًا لقيام الحجة عليَّ) ثم قال: (ناظرت نفسي فيه طويلاً فلم أجد إلا الخروج أو الكفر بما أنزل على محمد)؛ فخرج معهم إلى اليمن وحين حصل من البعض مخالفة لبعض الأوامر الشرعية عاد إلى المدينة المنورة قائلاً: (والله لا أكون كالفتيلة تضيء غيرها وتحرق نفسها)؛ ولكن بعد خروجه أقبلت على اليمن فتنة القرامطة، فعم البلاء وشملت اليمن الفتن، وانقطع الغيث وساءت الأحوال؛ فتحرك وفدٌ من مختلف قبائل اليمن يحملون الكتب إلى الإمام الهادي ويسألونه الرجوع ويعطونه بيعتهم، ويعلنون ندمهم على تفريطهم، ومرة أخرى يتوجه الإمام الهادي إلى اليمن ويصل في السادس من صفر عام284للهجرة، وفي فترة وجيزة استطاع الإمام الهادي(عليه السلام) أن يصلح بين الناس، ويوزع دعاته في طول البلاد وعرضها، ينشرون الدعوة، ويقيمون حكم الله، ويصلحون ما أفسد الظالمون، وكان في عمله يتوجه إلى الله تعالى بهذا الدعاء: (اللهم ألهمنا الصبر وأعظم لنا الأجر وتقبل منا عملنا واجعله خالصاً لك لا يشوبه عمل لغيرك يا أرحم الراحمين)، وكان (عليه السلام) شديد التواضع: يعود المريض، ويدني الأيتام والمساكين من مجلسه ولا يأكل طعاماً حتى يطعمهم منه، وكان يفت الطعام للأيتام ثم يأمر بإدخالهم عليه فيأكلون ويأكل معهم، وكان ينطلق في عبادته لله من فهمه الواسع لمعنى العبادة، بأن كل عمل يأتيه الإنسان في حياته يكون عبادة وجهادًا إذا قصد به وجه الله، وكان يقول لأصحابه:
(اتقوا الله في سركم وعلانيتكم، وعاملوا الله تعالى، وإن فعلتم شيئاً فاجعلوه خالصاً، إن أصلحتم سلاحاً فتكون نيتكم أنه لله، وإن علفتم دابة تقدموا النية في ذلك أنه لله، وإن مشى أحد منكم في جهة من الجهات فقدموا النية في ذلك لله، فإنما أنتم في جميع ما فعلتم في جميع الأمور في صلاح الإسلام).
لقد كان كل هم الإمام الهادي (عليه السلام) هو الآخرة والجنة وما فيها من الحياة الأبدية وعند قراءته لقول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} قال معلقاً على ذلك: (فيا لها من تجارة ما أربحها، ويا لها من دعوة ما أرفعها، دنيا يسيرة فانية، وآخرة كبيرة باقية، وحياة أيام تزول بحياة أيام أبداً لا تحول، والنكد والنصب والشدة والتعب بالراحة والسرور، والغبطة له في كل الأمور، فاز والله من بادر فاشترى الجنة بأيام حياته، وخاب من تخلف عن متابعة الله وسوَّفَ)، وعندما بايعه الناس قال: (أيها الناس إني اشترط لكم أربعاً على نفسي: الحكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، والأثرة لكم على نفسي فيما جعله الله بيني وبينكم، وأن أقدمكم عند العطاء وأتقدمكم عند اللقاء، وأشترط لنفسي عليكم: النصيحة لله ولي في السر والعلن، والطاعة لأمري في كل حالاتكم ما أطعت الله فيكم؛ فإن خالفت طاعة الله عز وجل فلا طاعة لي عليكم): {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، وهكذا هم أهل بيت رسول الله صلوات الله عليه وآله يربون الأمة على العزة والكرامة، والشد إلى الله، والعمل على تبصيرها وتنويرها، بينما عمل الطغاة من بني أمية وبني العباس وغيرهم على تجهيلها وإذلالها والحط من نفسياتها، وفصلها عن الله وكتابه.
وعن المسؤولية التي يحملها تجاه الأمة كان الإمام الهادي يقول: (لوددت أن الله أصلح هذه الأمة وإني جعت يوماً وشبعت يوماً) وبهذا يتبين أنه لم يكن يطلب الملك ولكن كان يطلب إصلاح أمر المسلمين وإحياء الشريعة وفرض سلطانها، وعن تمسكه بمنهج الإسلام المحمدي الأصيل كان يقول: (إنها لسيرة محمد أو النار) ويقول: (والله لو أطعتموني ما فقدتم من رسول الله إلا شخصه)، وقد واجه الإمام الهادي حركات تمرد وواجه القرامطة بقيادة علي بن الفضل الذي ادعى النبوة وأحل نكاح البنات والأخوات وشرب الخمور، وكان يبيح لجنوده نهب الأموال وسبي النساء وفعل كل محرم؛ فالتف أبناء اليمن حول الإمام الهادي، وتحرك لجهاد القرامطة على مدى خمس سنوات، وخاض معهم أكثر من سبعين معركة، وحرر اليمن منهم، وقد امتد حكم الإمام الهادي وحكم من كانوا امتدادًا له من أعلام الهدى الصالحين لأكثر من ألف عام، وهذا يعبر عن عمق العلاقة بين الشعب اليمني وبين أعلام الهدى بدءًا من رسول الله (صلوات الله عليه وآله) – الذي كان أنصاره هم اليمنيون- ثم الإمام علي ثم أعلام الهدى من ذريته حتى يومنا هذا ومع علم زماننا السيد عبدالملك بدرالدين(يحفظه الله)، كما يبين ذلك عمق علاقة اليمنيين بالهوية الإيمانية، كما أننا ندين تغييب كل أولئك الأعلام، وكل ذلك التاريخ من المناهج الدراسية والمنابر الإعلامية والثقافية.
فالأمة الإسلامية اليوم بحاجة ماسَّة إلى البصيرة والجهاد أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى البصيرة وهي تواجه الطغيان الأمريكي الإسرائيلي بكل إجرامه وفساده، بحاجة إلى البصيرة والوعي وهي تواجه الحملات التضليلية التي تقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، وتعمل على فصلها عن الله وعن كتابه وعن هويتها ورموزها، بحاجة إلى البصيرة لتعرف الواقع الذي تعيشه، واقع الذلة والإهانة والتفرق والتخلف والاستعباد الذي تعانيه ولا تعرف أسبابه ولا تعرف كيفية الخروج منه، ولو عادت إلى كتاب الله لوجدت الله يقول عن القرآن: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ}، ولعرفت أن ذلك الواقع ليس من الله وإنما نتيجة البعد عن هداية الله تعالى، فتحتاج الأمة اليوم البصيرة لتحدد خياراتها وبالذات في المراحل المصيرية والخطرة، تحتاج البصيرة لتعرف ما هو الخيار الصحيح، وما هو القرار السليم والحكيم، وما هو الموقف المحسوب بمعيار القرآن والحق والمصلحة الحقيقية، ولو عادت الأمة إلى القرآن لوجدت القرآن يعطيها البصائر، ويحدد لها الخيارات والقرارات والمواقف السليمة، ويواكبها بالهداية، ويضمن لها النتائج الناجحة والمثمرة.
الأمة بحاجة إلى البصيرة بحاجة لمعرفة الأولويات لتواجه حملات التشويه التي تعمل على فصلها عن كل من يعمل على تحريرها وإنقاذها ورسم مسار عزتها وكرامتها، ويعمل على بنائها حضارياً لتنتصر في صراعها الحضاري مع أعدائها، ويبدأ بمواجهة وجهاد عدوها المستحكم عليها؛ إن العدوان يحاول أن يرسم للأمة أولويات أخرى، وكأنه حريص على بنائها؛ فتنصرف الأمة عن جهاده وفي الأخير لا يتحقق لها التحرر ولا البناء.
نحن اليوم نواجه الطغيان الأمريكي الإسرائيلي وكل من يدور في فلكه، نواجهه بالبصيرة أولاً، وبالجهاد ثانياً، ونستمد بصيرتنا من كتاب الله القائل: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} بصيرة نعرف من خلالها من هو عدونا الأساسي: {وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيراً. مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ}، بصيرة نعرف من خلالها ما الذي يريده عدونا لنا: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ}{وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ}{وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ}{وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، بصيرة نعرف من خلالها ما هو الموقف المناسب لإيقاف ذلك العدوان والإجرام: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ}، بصيرة نستمدها أيضاً من ثقافتنا القرآنية، ومن الواقع ونحن نشاهد مصاديق الآيات القرآنية أمام أعيننا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}، ونقرأ قول الله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} ونراه واقعاً، ونقرأ قول الله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً}، ونقرأ قول الله تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}.
ليس هناك من بديل عن البصيرة إلا عمى القلوب الذي قال تعالى عنه: {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} وكل من يفقد بصيرته سيتأثر بالضلال مهما كانت بشاعته، ورغم أن الحقائق تجلت في زماننا هذا أكثر من أي وقت مضى نرى من فقدوا بصيرتهم يعيشون حالة من العمى بكل ما تعنيه الكلمة، ولذلك نرى الطغيان الأمريكي يستهدف أمتنا في كل المجالات، ويشكل تهديداً خطيراً على واقع أمتنا في دينها وأمنها وحريتها وكرامتها، ويستهدفها قتلاً وتنكيلاً وظلماً وإجراماً بشكل مباشر أو عبر عملائه، ولا لبس في ذلك ولا التباس أيضاً في علاقة النظام السعودي مع أمريكا وإسرائيل، وأن كل ما يفعله من جرائم في اليمن وغيرها أنه في إطار التحالف مع أمريكا وعلاقتهم مع إسرائيل؛ فزرعوا الفتن وخلقوا الأزمات في الأمة وارتكبوا أبشع الجرائم في عدوانهم على اليمن حتى تم ادراجهم في مختلف القوائم الخاصة بالمجرمين العالميين، ولم تستطع أمريكا بإعلامها وسياستها وتضليلها الكبير ومنظماتها أن تغطي على جرائم العدوان على اليمن، ورغم كل ذلك الوضوح تجد من فقد البصيرة يتأثر بدعايات التضليل والتبرير والتشويش ويترك كل الحقائق {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
إن موقف شعبنا في مواجهة العدوان عليه هو الموقف الحق المنسجم مع القرآن ومع مصلحته الحقيقية لأن نكون شعباً حراً مستقلاً، كما لا يمكننا أن نسكت ونقعد وأمتنا تستباح وتظلم في فلسطين وفي اليمن ولبنان وسوريا والعراق والبحرين ومختلف شعوب أمتنا، لا يجوز أن نسكت، ولم يدعنا كتاب الله أن نسكت ونحن نرى كل ذلك، ولا يدعنا كتاب الله أن نسكت في مواجهة العدوان والحصار على شعبنا، كيف نسكت وكتاب الله يقول لنا: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ويقول لنا: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} ولذلك حسمنا خيارنا واتخذنا قرارنا ببصيرة نأخذها من كتاب الله وندركها من خلال الواقع، ولو فرطنا في معركتنا لكانت القواعد الأمريكية والإسرائيلية والبريطانية في وسط صنعاء ومختلف المحافظات، ولكننا اليوم نعيش العزة ونجسد الحرية موقفاً صادقاً، وهذه الروحية الثورية والتحرك الصادق لشعبنا سيصل بنا إلى وعد الله بالنصر، وسنحرر كل بلدنا ونستعيد كل المناطق التي احتلها العدوان بإذن الله، وسنضمن لبلدنا أن يكون حراً مستقلاً لا يخضع لاحتلال أو وصاية، وسيكون شعبنا حراً عزيزاً وليس متسولاً عند آل سعود وآل نهيان، وسنواصل التصدي للعدوان والعار والخزي سيكون للصامتين والمتخاذلين والمتنصلين عن المسؤولية، والعزة للمؤمنين، والعاقبة للمتقين.

قد يعجبك ايضا