مربع وزوايا خمس

جميل مفرح

يتوزعون على المكان فيجلسون في زوايا مربع وأنت تستند على الجدار في منتصف أحد الأضلاع الافتراضية، تستطيع من مكانك مراقبة الجميع ومبادلة كلٍ منهم النظرات حين يحتاج إليك كشاهد أو داعم مؤكد لما يحدث في هذيانه وإدراكه من فوضى..
تبدأ السهرة بمعمعة تمهيدية تشبه قضم الأظافر وهسهسة الورق الجاف.. ثم يصاب الباب والنوافذ بنوبات سعال تضع الجميع على محك التعود والتوجس معاً.. ثم ماذا..؟
جميعهم يتحدثون إلى أربعتهم في ذات الوقت، وكل منهم يتسلق بطلاقة مبهمة موضوعاً مختلفا تماماً عن الآخر، لا يلتقون أو يشتركون إلا نادراً في كلمات قليلة مثل نعم.. لا.. بالتأكيد.. مطلقاً.. أنت.. أنا.. نحن.. هم…،
فواصل يتناثر حضورها كزوائد هنا وهناك.. يستدرج بعضهم بها البعض الآخر ويعصفون ذكريات بعضهم في استعادات وامضة للفت الانتباه لا أكثر.. ولكن لا جدوى، سرعان ما يجد كل منهم نفسه في عزلة حتى من نفسه، فيستمر في الهذيان باتجاه مستمع ما، بالتأكيد ليس أنت في منتصف الضلع، وإنما مستمع افتراضي آخر يتوسط الزوايا الأربع..
لا يتعبون.. لا يكلون.. يفتحون ملفات حياتهم وذكرياتهم واهتماماتهم واحداً بعد الآخر، ولا يقفلون أياً منها، حتى حين ينامون تظل كلها مفتوحة. لا يتوقفون عن الهذيان إلا وقفات مقتطعة واحداً كل مرة، لا يجتمع اثنان منهم في ذلك السكوت المقتطع والذي يكون الواقف عنده مشغولاً بلف دورة أخرى من الهذيان، وطي مرحلة من مراحل الليلة الطويلة..
تغلق جميع نوافذك وتنفرد بنفسك قليلاً لتتساءل: هل هذا ذاته ما يفعله ذوو اللحى الكثيفة والثياب الفضفاضة في أعالي تلك الجبال في أقصى الشرق..؟
وهل هو ذاته العالم الأنيق الذي وصفه روائيك المفضل في فصول كثيرة من سرده الذي لا يمل..؟ أم هو ما كان مجرد أمنية أن تكون بداخله أو على الأقل بالقرب منه..؟! تتكاثر الأسئلة وتنعقف الأسئلة في رأسك كخطاطيف مسننة ومؤلمة.. وتتلاشى الإجابات كما يتلاشى ذلك الدخان المحيط بكل جهاتك..
تعود بنفسك إلى منتصف الضلع الذي تقبع فيه من المربع وتلقي بحواسك لتتدحرج حرة ولكن فقط في حدود المكان والزمان نفسه، تعود إلى خط بداية جديد وتطلق لنفسك صافرة الانطلاق..
تتسلل رغماً عنك في حواسهم وحالاتهم الشعورية، فتدرك أنهم، رغم كل ما تراه وتدركه، يمارسون لذاتهم الأخرى، لذات الوقوف في المفترق بين الوعي واللاوعي..
فجأة تشعر بخيوط سرابية شفافة تتسرب من مركز المربع إلى محيط رأسك.. تنقر على جمجمتك نقرات شبه هامسة.. لحظات أخرى ويغزو راسك ومسامات جسدك نمل كثير جداً، وقبل أن تمد يديك لتهرش جلدك تسبقك أنامل ما تهرشك من داخلك ابتداء من رؤوس أصابع قدميك وحتى شبكة الشرايين الموجودة داخل دماغك..
تبدأ لديك لحظة اندماج لم تكن مرتقبة، فتجد نفسك بين لحظة وأخرى تلتقي مع واحد منهم أو أكثر في نسق ما لأكثر من وهلة.. تحاول أن تتظاهر باللامبالاة وبالتماسك حتى أمام نفسك ولكن هيهات، لا تعود حتى قادراً على أن تمنع أجنحتك الواهنة من الرفرفة.. تتأملهم مجدداً واحداً واحداً فتجد أنهم لم يكونوا هم، كل منهم قد صار آخراً مختلفاً تماماً.. توغل في التأمل والتحديق حتى تغدو رؤوسم في حدقاتك متناهية الصغر، ويصبح كل منها مجرد نقطة افتراضية تضعها في ذهنك لبداية ما..
يستمر لف التبغ المشرقي في نقاطه الافتراضية ويتواصل فغر الملفات و طي الليل، يزدهي المكان بمهرجانات الروائح والألوان، ثم ينتصر الأزرق والرمادي فيتقاسمان المساحات العشوائية في سماء المكان.. يتواصل التسرب إلى داخلك، وفجأة يتلاشى تعبك المملول وتجد نفسك حين تتوحد بها، وكأنك فتى في الخامسة عشرة.. وحين تجرك موجة ما باتجاههم لا تدري كيف تتداخل معهم حتى تصير زاوية خامسة في المربع..
النمل المتدفق باتجاهك لا يتوقف عن التزايد والتضاعف، وأنت تتسع وتتسع من النقطة حتى تتجاوز جسدك والمكان وتصبح غير قابل للامتلاء بشيء، حتى النمل.. تشعر فقط بازدياد وتسارع الخطوات غير المنتظمة لهبوب لا يتوقف من أفواجه الهادرة.. يدب، يجري، يهب… يلفح جسدك بارتطامات لذيذة مع البرد.. ما يهيئ مساماتك لعبور القليل من ذلك النمل إلى شرايينك ثم الكثير منه، وهنا تضيء بداخلك الكثير من الزوايا التي كانت مظلمة، تومض بداخلك فكرة فأخرى وتدرك في جزء ضاااال من الثانية لماذا لا يتعب رفاقك من الهذيان..
أنتم الآن خمسة، أفواهكم وآذانكم كلها مشرعة للهذيان اللا محدود، جميعكم تتكلمون، وكلكم تتلقون.. وومضات التقائكم لا تكاد تتقارب، ما تزال حتى في ذات المساحة القاموسية.. بينما المكان تتغير هيأة كل شيء فيه، يتداخل الوعي واللا وعي فيتفقان على اجتراح مكان افتراضي ثالث بينهما.. وحتى المربع يتلاشى ويغدو شكلاً خماسياً غير منتظم أو ثابت في هيأته.. تصير أنت جزءاً من المشهد وفصلاً من الحلم ويتم مراجعة الحصص الموزعة من الليل وإعادة تقسيمه على خمستكم، قبل أن يأتي سادس فتذهب الليلة سدى.

قد يعجبك ايضا