الجنوب اليمني.. بين ثورة الأمس ونكبة اليوم

في خضم صراع مع الإمام يحيى ومن ثم ابنه أحمد في الشمال حاول الاحتلال البريطاني خلق هوية بديلة للجنوب
هتم عبدالله باذيب بقضية الهوية اليمنية باعتبارها مفتاح النضال لتوحيد ورص صفوف الشعب في الجنوب
الاتحاد الشعبي الديمقراطي أعاد صياغة الوجدان الشعبي في الجنوب على قاعدة اليمننة
ما يجري اليوم في الجنوب هو استمرار للمشاريع الاستعمارية القديمة بعد فشل مشروع تحرير البلاد من التبعية والهيمنة الاستعمارية

حين اندلعت ثورة ١٤أكتوبر عام ١٩٦٣م ضداً للاحتلال البريطاني بقيادة الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل ، جاءت هذه الثورة على أنقاض مشروع “الجنوب العربي” الاستعماري ، وسعت من خلاله بريطانيا إلى قطع الطريق على مد ثوري وقومي أخذ يتشكل منذ بداية الخمسينيات وخصوصاً مع بزوغ المرحلة الناصرية وبعد أن صارت حركة التحرر الوطني في غير بلد تناهض المشاريع الاستعمارية ، لا بل صارت الثورات المسلحة ضد الاستعمار عنواناً رئيسياً لنيل الاستقلال.
الثورة / د. سامي عطا

إن هوية الجنوب تعرضت لمحاولات تجريف وسلخ بفعل الاحتلال، وسعى الاحتلال البريطاني إلى استباق رحيله بأن يؤسس كياناً سياسياً وظيفياً ملحقاً به والانتقال من الاحتلال المباشر إلى الاحتلال الاقتصادي وعبر أدوات محلية تحكم لتحقيق مصالحه ، مثلما فعل ذلك في غير بلد رحل عنه ، وأيقن أن الطريق إلى ذلك يمر عبر هندسة هوية صفرية منزوعة من تاريخها ومنفصلة جغرافياً.
لقد ظلت الهويات السياسية في البلدان العربية منذَ تأسيس الدول القطرية الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية تعيش أزمة “أن كل قطر عربي يعاني من أزمة هوية باستثناء مصر، وتزداد هذه الأزمة كلما اقتربنا من دائرة الأنظمة القبيلية العسكرية :العراق واليمن وتنفجر الأزمة في مجتمعات الخليج العربي وفي السعودية حيث تتخذ تلك الأنظمة صورة أسرة ممتدة أو عشيرة متمنطقة بمذهب ديني يوظف لخدمة توسعة النظام.” (الدكتور أبوبكر السقاف التعذيب وإشكالية الهوية الوطنية الثوري العدد 1539تاريخ 2 /9 /1998م)
والأزمة الماثلة اليوم هي أزمة ممتدة تعيد طرح نفسها منذُ منتصف خمسينيات القرن المنصرم, زمن نشوء الحركة الوطنية اليمنية أثناء الاحتلال البريطاني لعدن, وأعيد الاعتبار للهوية اليمنية داخل سياق الصراع مع المشاريع الاستعمارية ، وكانت بوابة للتحرر وتنامي النزوع الوطني للاستقلال من الاستعمار والتبعية له.
ومثلت فترة الخمسينيات مناخاً خصباً برزت فيه القضية الوطنية بسبب المد القومي التحرري الذي شهدته المنطقة العربية والعالم ونيل العديد من الدول استقلالها وبداية صعود حركات تحرر وطني في العالم بأسره وتشكلت أثناءها منظمة دول عدم الانحياز ( مؤتمر باندونج) هذه العوامل جميعها أعطت قضية الهويَّة زخماً قوياً.
ولقد شهد الجنوب اليمني منذُ منتصف خمسينيات القرن المنصرم جدلاً وصراعاً حول الهوية الوطنية , سعى الاحتلال البريطاني أن يختلق هويِّة للجنوب بديلة عن هويته التاريخية, وذلك في خضم صراع الاحتلال مع الإمام يحيى حميد الدين ومن ثم ابنه أحمد، وصراعه مع جمال عبدالناصر ومشروعه التحرري من الاستعمار.
ومن يعود إلى ارشيف سجالات تلك المرحلة على صدر صحافة عدن يجد فيها مواقف متباينة من قضية الهوية, لكن يمكن أن نلخصها في ثلاثة اتجاهات رئيسية:
اتجاه الجمعية العدنية:
هذه الجمعية التي تبنت شعار “عدن للعدنيين” عدن لمواليد عدن ” يجب أن تكون الوظائف لأبناء عدن ( انظر مقالة عبدالله باذيب “عدن… لِمَنْ” ! صحيفة النهضة العدد 255، 16 يونيو 1955م , أنظر أيضاً عبدالله باذيب كتابات مختارة الجزء الأول دار الفارابي بيروت 1978م ص54) ولقد تبنت هذه الجمعية عبر رئيسها حسن علي بيومي عام 1956م في مذكرة سياسية قدمها إلى المجلس التشريعي يطالب فيها تعديل دستور المجلس التشريعي و”تعدين” الوظائف وإعداد عدن للحكم الذاتي ضمن الكومنولث , وهذه المطالب كما أشار الاستاذ عبدالله باذيب ليست إلاّ مطالب أوحت بها إليه جريدة “التايمز “البريطانية ” وهكذا ” تصدر” المطالب والسياسات من لندن إلى الجمعية العدنية تماماً كما تصدر البضائع من تجار لندن إلى وكلائهم في عدن”( مقالة بعنوان المذكرة اللندنية صحيفة الجنوب العربي العدد 82 8 مايو 1956م , انظر كذلك كتابات مختارة ج1 ص156),
رابطة أبناء الجنوب :
تبنت فكرة اتحاد الجنوب العربي , ودعت إلى نضال أبناء الجنوب في عدن والامارات من أجل التحرر الوطني ووحدة الجنوب(انظر مقالة عبدالله باذيب بعنوان “حول بيان المؤتمر العام للطلاب اليمنيين في مصر نقاش هادئ صحيفة الفجر العدد 21 السنة الأولى 6 اغسطس 1956م , انظر عبدالله باذيب كتابات مختارة الجزء 1 ص 170) وفي هذا المقال يشير باذيب إلى بداية تباينه مع الرابطة الذي كان عضواً فيها, حيث كان ينظر للمسألة الوطنية بوصفها قضية كلٍ لا يتجزأ, حيث يقول باذيب ” ولا أذيع سراً إذا قلت أنني كنت العضو الإداري الوحيد الذي اعترض على هذا النص عندما اجتمعنا لمناقشة البيان وإقراره. ولقد طالبت باستبعاده مع جميع النصوص المتفرعة عنه والاكتفاء بشعارات الحركة الهادفة إلى الاستقلال الوطني والوحدة.. لا لأن ذلك النص قد تحوم حوله شبهة الانفصالية فحسب.. وإنما أيضاً لأن تخطيط البناء الفوقي للاتحاد وتحديد أشكاله ونحن في أول طريق الكفاح.. أمر سابق لأوانه كما يقولون. إن الشعب وحده بعد أن يتحرر .. هو الذي يملك : كيف يتحد .. وكيف يعطي وحدته الشكل الذي يجب”( المصدر السابق ص170 – 171) ومن خضم هذا الصراع بين اتجاهين انفصاليين (اتجاه الجمعية ” الحكم الذاتي لعدن” واتجاه رابطة أبناء الجنوب العربي الداعية للتحرر الوطني ووحدة الجنوب ظهر اتجاه ثالث مثل الاستاذ عبدالله باذيب نواته الأولى الذي صار بعد سنوات لاحقة حزباً سياسياً ” الاتحاد الشعبي الديمقراطي”(1961م).
وعلى الرغم من ظهور هويات على السطح الجمعية العدنية ( تأسست الجمعية العدنية عام 1949م كأول تنظيم سياسي واضح الأهداف ومنها الحكم الذاتي لعدن بعيدا عن سلطنات ومشيخات وإمارات الجنوب) ورفعت الجمعية شعار عدن للعدنيين أو دعوات تبنتها رابطة أبناء الجنوب العربي تدعو إلى مشروع الجنوب العربي, وكلا المشروعين استعماريان ظهرا بإيعاز من الاحتلال البريطاني أو ممالئاً له إذا أحسن الظن به, إلاّ أنه من وسط هذه الأزمة ظهر اتجاه ثالث مثّل حالة خروج من تلك الأزمة وكان إشهار الاتحاد الشعبي الديمقراطي عام 1961م أوضح تعبير له وأخذ هذا الحزب على عاتقه مهمة إعادة صياغة الوجدان الشعبي على قاعدة اليمننة.
ولا غرابة أن هاتين الدعوتين أو المشروعين المنسجمين مع المصالح الاستعمارية يجري بعثهما من جديد اليوم ومن نفس المصدر تصديقاً لعبارة كارل ماركس ” إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين, مرة على شكل مأساة, ومرة على شكل مهزلة”
الاتحاد الشعبي الديمقراطي:
تأسس عام 1961م وتبنى ميثاقاً وطنياً وجاء في ديباجته الافتتاحية ” هذا هو ميثاقنا الوطني نقدمه للناس آملين أن تجد فيه القوى الوطنية مجتمعة أساساً صالحاً للوحدة الوطنية وأن يجد فيه شعبنا نبراساً يضيء له الطريق في كفاحه ضد الاستعمار والرجعية, ومن أجل التحرر الوطني والوحدة اليمنية والديمقراطية , وفي سبيل يمن حر ديمقراطي موحد”( عبدالله باذيب كتابات مختارة دار الفارابي بيروت 1978م ج2 ص181)،ومن يطالع الميثاق الوطني يجد أنه يتكون من مقدمة وأربع مواد وخاتمة , المقدمة تشرح طبيعة الأوضاع وتفرق بين مهمتين أمام الحزب الأوضاع في الشمال وضرورة ” صيانة استقلال الشمال فوق كل اعتبار آخر. إذ أنه بدون ذلك يستحيل إحراز أي تقدم في أي اتجاه وتترنح حركة الشعب في طريق مسدود بلا آفاق”( الميثاق الوطني للاتحاد الشعبي الديمقراطي أنظر عبدالله باذيب كتابات مختارة دار الفارابي بيروت 1978م ج2 ص186), كما أشارت المقدمة إلى ضرورة بناء جبهة وطنية على أسس ديمقراطية يناط بها انجاز مهام في الجنوب والشمال تضطلع بالتصدي الفكري والسياسي ضد الانتهازية والاتجاهات الانقسامية وضد المفاهيم الخاطئة والتيارات اليمينية في صفوف الحركة الوطنية وحركة الطبقة العاملة، وتحت عنوان “نحو يمن حر ديمقراطي موحد” أشار الاتحاد إلى أنه يناضل من أجل بناء يمن جديد حر وموحد يسير في طريق الديمقراطية والتقدم والسلم” ومن أجل تحقيق ذلك ينبغي ” التحرر الوطني والوحدة اليمنية”( نفس المرجع ص 187) وحدد الحزب مهامه تجاه الجنوب بالآتي: الكفاح بحزم ضد الاستعمار وعملائه في الجنوب اليمني المحتل” عدن وما يسمى بالمحميات من أجل التحرر الوطني التام والوحدة اليمنية, وحدد سبع مهام في كفاحه نلخصها بالآتي:
النضال من أجل حق تقرير مصير شعبنا في الجنوب.
إدانة ومقاومة المشاريع الاستعمارية مثل مشروع الحكم الذاتي المزعوم لعدن وما يسمى باتحاد إمارات الجنوب العربي.
تصفية القواعد العسكرية ومنع اتخاذ عدن قاعدة للحرب ومنطلقاً لضرب حركات التحرر في البلدان الأخرى.
الوقوف ضد القوانين المقيدة للحريات مثل قانون التحكيم الإجباري الذي يحرم العمال من حقهم المقدس في الإضراب وقانون منع جمع التبرعات وقانون منع التظاهر.
مقاومة الهجرة الأجنبية وكل محاولة لجعل الأجانب طرفاً في تقرير مصير الشعب.
محاربة السياسات والأنظمة الاقطاعية والاستبدادية فيما يسمى بالمحميات.
محاربة جميع أشكال السيطرة والاستغلال الاقتصادي الاستعماري ومقاومة اتفاقيات استغلال الثروات المعدنية من قبل الشركات الانجلو أمريكية.( نفس المرجع السابق ص 187 – 188).
أما فيما يخص الشمال , فإن الحزب وضع أمامه مهمة أساسية كبرى جاءت تحت عنوان “صيانة استقلال الشمال وإقامة حكم وطني ديمقراطي” وذلك على قاعدة الكفاح بحزم ضد الاستعمار والإقطاع والرجعية وعملائهم وأعوانهم من أجل صيانة استقلال الشمال ( اليمن المستقل) وإقامة حكم وطني ديمقراطي يعبر عن إرادة الشعب ويخضع لرقابته.( نفس المرجع ص 188).
وفي ظل هذه المناخات ركز عبدالله باذيب على قضية الهويَّة الوطنية باعتبارها مفتاح النضال من أجل توحيد ورص صفوف الشعب في الجنوب , وكان في مجمل نشاطه السياسي ناقداً كل دعوات التعامل مع القضية الوطنية اليمنية بالمماثلة , إذ كان يفرق بين وضعين جنوب تحت الاحتلال وشمال مستقل وإن كان استبدادياً فردياً , ووجه انتقادات إلى حركة معارضة النظام الإمامي المتواجدة في عدن ” حركة الحرار النعمان والزبيري ” وانتقد أساليب كفاحهم واطروحاتهم السياسية ووصفهم في مقالة في صحيفة الجنوب العربي بأنهم ” أناس يفهمون الكفاح الشعبي على أنه عداء شخصي للإمام ” وعزاه إلى فشلهم المتكرر(حركة 1948م وانقلاب 1955) الذي ولد عقدة نفسية كفروا بثوراتهم وبالشعب ” ولقد ولّد الفشل المتكرر عقدة في نفوسهم فكفروا بثوراتهم وبالشعب وانتظروا أن تتغير الأوضاع في اليمن من تلقاء نفسها.. وأن تهب رياح سحرية لتضعهم فجأة على << عرش>> اليمن.. ولا يهمهم من أين تهب الرياح”( صحيفة الجنوب العربي العدد 122- 26 فبراير 1957م انظر أيضاً كتاب عبدالله باذيب كتابات دار الفارابي بيروت عام 1978م جزء1, ص 231).
كتب عبدالله باذيب في صحيفة الجنوب العربي مقالة بعنوان “القضية اليمنية” قال في مستهلها ” الدعوة إلى انضمام المحميات وعدن إلى اليمن تحت الحكم الراهن شيء والدعوة إلى اعتبار قضية اليمن حلقة من سلسلة القضايا التي يعانيها شعب الجنوب كله شيء آخر” ويستطرد الأستاذ عبدالله باذيب في شرح خطورة هذه الدعوات إذ يقول ” ومن هذا الفرق الفاصل الدقيق والخطير الذي يكمن وراء الدعوات التي ترتفع من هنا وهناك وتدعو إلى اعتبار القضية اليمنية شيئاً خاصاً باليمنيين وحدهم . تماماً مثلما ترتفع الدعوات في عدن منادية بالانفصال تدعو إلى سلخ عدن عن بقية أجزاء الجنوب”( صحيفة الجنوب العربي العدد 48، 13 سبتمبر 1955م)انظر أيضاً كتاب عبدالله باذيب كتابات مختارة دار الفارابي بيروت جزء 1 1978م ص 113). ولقد ميِّز باذيب كما أسلفنا بين دعوتين في إطار فهمه للقضية اليمنية , الدعوة إلى انضمام المحميات وعدن إلى اليمن تحت الحكم الراهن, والدعوة إلى اعتبار قضية اليمن حلقة من سلسلة القضايا التي يعانيها شعب الجنوب كله, لأنه كان يدرك اختلاف الظروف بين الوضعين , فالجنوب يخضع للاحتلال البريطاني , بينما الشمال مملكة مستقلة عن التبعية وإن كان النظام فيها فردياً استبدادياً ( عبدالله باذيب مصدر سابق ص 113).
واعتبر باذيب ” أن الاستعمار هو العقبة الأساسية وأن التحرر من الاستعمار يستتبع حتماً التحرر من كل القوى الرجعية…… ونؤمن أن الإنسان لا يمكن أن يكون حراً من جانب واحد .. فيقاوم الحكم الفردي في اليمن فيما يهادن الاستعمار ويمالئه…. والذين لا يعرفون الحرية في الكفاح ضد الاستعمار.. لا حق لهم في مهاجمة أي حكم مطلق”( المصدر السابق ص233).
وفي ظل هذه المناخ جاءت ثورة ١٤ أكتوبر ١٩٦٣م ، وأكدت الجبهة القومية على ثلاث قضايا للتأكيد على يمنية الجنوب وعروبته ، كما أكدت أيضاً على أن الكفاح المسلح وسيلة نيل الاستقلال.
وما يجري اليوم في الجنوب هو امتداد للمشاريع الاستعمارية القديمة بفعل فشل مشروع تحرير البلد من التبعية والهيمنة الاستعمارية.

قد يعجبك ايضا