اليمن في مواجهة ماكينة الاستعمار

4 سنوات.. الكرامة أولا

 

محمد ناجي أحمد

يستمر العدوان والاحتلال طيلة أربع سنوات مستخدما أعتى أنواع الأسلحة المدمرة، مستهدفا في ذلك قتل الإنسان وتمزيق الجغرافيا اليمنية وطمس الذاكرة التاريخية والعمرانية لليمنيين.
لكن اليمن بجغرافيته المستعصية على غايات الغزاة، وإنسانه الذي تراكمت في جيناته قيم الكرامة والإباء والإيمان بالنصر ودحر الأعداء، ولملمة جروحه، لتصير نياشين عزة وفخار –هو اليمن والإنسان الصاعد دوماً ذرى العزة مسطراً ملاحم الشموخ، ومجترحاً معجزات الصمود كأسطورة فينيقية، يتصوره الأعداء رماداً خامداً فإذا به سيل جارف لكل أوساخ الاستعمار وأدواته، صانعاً لتاريخه الذي يتكرر فخاراً وكبرياء، سارداً لمهازل التاريخ حكايا يهدهد بها أطفاله، كي يتسنموا ويتشربوا قصص البطولة، ويعوا ضريبة الجغرافيا التي كتبت على اليمنيين أن يحيلوا بيارق المستعمرين وبيادقهم هباء منثوراً.

لم تكن سنوات العدوان والاحتلال الأربع التي حفرتها صواريخ وقاذفات وقنابل الغزاة وشما في الجسد اليمني –سوى مرحلة أرادها الغزاة أن تكون حصاداً لما خططوا له منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين.
ومع أوسلو صرح رئيس وزراء الكيان الصهيوني (شمعون بيريز) وهو من على طائرته فوق الأجواء اليمنية، معلناً زمن الزمن الإسرائيلي، المتحكم بالبحر الأحمر.. وصرح العديد من قيادات الكيان الصهيوني أن اليمن مبتغاهم، وأنهم سيحيلونها يابانا ثانية لو قبل اليمنيون أن يطبعوا معها، وتعالت الأصوات وكثرت الندوات وقتها متحدثة عن حق اليمنيين الذين ذهبوا إلى إسرائيل وتصهينوا –في الاحتفاظ بجنسيتهم اليمنية !وكان لأقطاب النظام حينها تواطؤ مع هذا التوجه، لكن الكيان الصهيوني ومشيخات الخليج وفي مقدمتها السعودية والإمارات وقطر يعرفون أن حائط الصد ضد التطبيع يتمثل بالشعب اليمني، فكان الشروع ببث ونشر مخططات تقسيم اليمن إلى أقاليم منذ عام 2005م وعلى جعل اليمن يمنات، ووقتها نشرت العديد من المشاريع التفتيتية بأسماء برلمانيين ووجاهات مشيخية بغرض تسويق تفتيت اللحمة اليمنية، التي يصعب بواحديتها أن يمر المشروع الغربي الصهيوني في الساحل الغربي وعدن، وحضرموت والمهرة، فكانت وتيرة الحركة السريعة نحو التفتيت، وكانت انتفاضة 11فبراير 2011م، والتي استغلت وضع الشباب اليمني الباحث عن التعليم وحق العمل، لتنحرف بالانتفاضة نحو تفكيك الجيش وتدمير مخزون السلاح بكل أنواعه الجوي والبحري والبري، لتكون اليمن مكشوفة دون جيش ودون دولة، وكانت (التسوية الخليجية الغربية) بواجهة سعودية إماراتية، وتخطيط أمريكي بريطاني صهيوني، ودور فرنسي الماني معاضد لمشروع إعادة رسم الخارطة الجغرافية والسياسية لليمن واليمنيين.. فقد كان تعليق الدستور وإحلال ما سمي بمخرجات الحوار الوطني، والعمل على فدرلة اليمن إلى ستة أقاليم وفقاً لمعايير مذهبية وطائفية وجهوية، تجعل غالبية الكثافة السكانية من اليمنيين داخل جغرافية ضيقة ومحاصرة في سجن جماعي، تجعلهم تحت السيطرة والتهجين والخنوع والقبول بما يملى عليهم، لكن المفاجأة التي لم تكن تتوقعها قوى العدوان والاحتلال أن مخططاتها ستسقط على صخرة الرفض اليمني، الذي خرج ليواجه ماكينة القتل بصرخة صمود مدوية ضد المشروع الغربي الصهيوني .
أربع سنوات لم يترك العدوان والاحتلال بنية تحتية من طرقات وجسور ومدارس وملاعب ومؤسسات مدنية وعسكرية، ومصانع وشركات وأطفال وشباب وشيوخ ونساء وأسواق وأعراس وعزاء، وقرى ومدن وموانئ ومطارات الخ، إلاَّ وقصفها قتلاً ودكاً وتدميراً.
لكنه ظل وسيظل عاجزاً عن كسر روح الثورة والتحدي، لشعب جُبِل منذ آلاف السنين على كسر رايات المستعمرين والغزاة، محولاً مشاريعهم إلى ذاكرة شعبية وحكايا كبرياء ترضعها الأمهات للأجيال تلو الأجيال.
من هنا مرَّ الرومان تاركين رفاتهم في (الجوف) ومن هنا مرَّ الأحباش والبرتغال والأتراك والبريطانيون.. احتفظت الذاكرة بانكسار أفواجهم، وطمست الرمال وأمواج البحر جثامين جنودهم.
هي حرب وجود كتبت على اليمنيين عبر التاريخ.. تلاشى العابرون وبقيت اليمن ترفرف بعبقرية الإنسان اليمني، وفرادة الموقع والموضع الجغرافي، الذي يجعلها محل أطماع الغزاة، ومقبرة لمشاريعهم في آن.
أربع سنوات وماكينة القتل التي زعم أصحابها أنها ستكون سياحة هوليودية مقتضبة بأسابيع-تتمدد وتشيخ، لكن اليمن بجغرافيته يزداد عنفوانا، وبإنسانه يزداد إصراراً على هزيمة الموت، ليكتب ملحمة الحياة لليمنيين.
أربع سنوات تحرك الغزاة خلالها بحرب صلبة لا تبقي شجرا ولا رضيعا، ترادفها حرب ناعمة، أراد منها الغزاة أن يُحَرِفوا بوصلة المعركة الوجودية ضد العدوان والاحتلال لتصير حربا بين المذاهب والطوائف والمناطق والجهات، لكن اليمنيين الأباة الرافضين للخنوع تنبهوا لكل هذه الأساليب والحروب الناعمة التي تديرها قوى الاستعمار فواجهوا الخطاب المناطقي والجهوي بأن أصبحت صنعاء جغرافية الوحدويين، وعليها يقع مشروع استعادة الوطن الوحدوي من براثن الفوضى والاحتلال.. وواجهوا الخطاب المذهبي والعنصري بخطاب مواطنة ووطن واحد، وأفشلوا كل خطاب إبليسي يبتغي تمزيق اليمن واليمنيين على أساس المذهب والمنطقة، واثبتوا للعالم أن صمود صنعاء العاصمة يعني مما يعنيه انتصار مشروع الوحدة اليمنية، وانهزام مشاريع التفتيت.
إن لحمة اليمنيين سلوك وخُلُق متوارث، وعفوي وطبيعي، عجز بسببه كل مستعمر أن يستثمر أسلحة الفرقة والتحريض، رغم عديد محاولاته عبر التاريخ، فحين زار الرحالة (نيبور) اليمن في القرن التاسع عشر تعجب من تسامح اليمنيين مذهبياً، بل ومع أصحاب الأديان والأجناس الأخرى.
الفتنة الطائفية والمناطقية هي سلاح كل مستعمر وغاز، وعلى هذا النهج سار الأتراك والبريطانيون، وذهبوا وبقي اليمن.. وسيذهب هذا الاحتلال وسيبقى اليمن واحدا موحدا، فهذا قانون الجغرافيا، وفضاء الروح المشرقة بالتسامح والالتحام بين اليمنيين .
اشتغل الغازي والمحتل المعاصر بواجهته السعودية /الإماراتية، وحقيقته الأمريكية البريطانية الصهيونية –اشتغل في حربه الناعمة على ثنائية طائفية عمل على تخليقها كأداة تابعة له، فبدأ بتحريك من سماهم بـ(الأقيال) وهي تسمية ترمز إلى فترة ضعف اليمن حين سقطت الدولة المركزية القديمة في القرن الثالث قبل الميلاد وإلى القرن الميلادي الأول، حين أصبح الموظفون التابعون للحكم المركزي وعلى عاتقهم يجمع الخراج –حكاما لمناطقهم، أي حين تمزقت وتشتتت أيدي اليمنيين، فظهر في تلك الفترة اسم (القيل) …ومن هنا استدعى الاستعمار المعاصر على اليمن هذه النعرة من تاريخ الضعف والتشتت، وجعلوها عنوانا لهوية وهمية، عمل المستعمرون على توظيف خبيث لثنائية (القحطاني) و(العدناني) و(الحميرية السياسية) و(الهاشمية السياسية) والغرض من كل ذلك تقسيم اليمنيين عموديا إلى مجتمعين عرقيين، وهو الشعب الواحد الموحد بجغرافيته ووطنيته وعروبته وعقيدته وآماله وآلامه، ومصيره وطموحه.
لكن الاستعمار الذي ينفذ من بين الهويات الوهمية ليبث الفرقة والشقاق ويزيف حقائق التاريخ، ومن ذلك تزييفه لحقيقة الحكم الزيدي في اليمن، مقدما إياه على أنه استعمار استمر أكثر من ألف ومائتي سنة! مع أن حقائق التاريخ تؤكد أن الحكم الزيدي في اليمن منذ مجيء الإمام يحيى بن الحسين وحتى آخر أئمة اليمن محمد البدر كان يمنيا في هواه وفي تجذره وفي ولائه وانتمائه، فلم يرتبط بولاء لسلطان أو ملك أو خليفة خارج اليمن، كما هو شأن العديد من الدويلات التي حكمت في اليمن، وكان ولاؤها لدمشق أو بغداد أو مصر، بل كانت اليمن هي قبلة الانتماء والولاء لهؤلاء الأئمة.
يقول مترجم كتاب (اليمن: الثورة والحرب حتى عام) لمؤلفه أدجار أوبالانس –ترجمة وتعليق الدكتور عبد الخالق محمد لاشين، والصادر عن دار الراقي-بيروت، مكتبة مدبولي، طبعة ثانية 1990م) يقول “ونعني به الحكم الإمامي الزيدي –جاء تأكيداً للهوية الخاصة والتراث التاريخي للشعب اليمني، فكان مذهبه الإسلامي الخاص الذي ميزه عن سائر أقطار العالم العربي التي اعتنقت الإسلام، بما في ذلك قلب الجزيرة العربية مهد الإسلام ذاته.
ولهذا فقد كان استمرار هذا الحكم استمرارا للذات اليمنية، حتى ولو بدا خلال القرون الأخيرة أن اليمن قد فاتها ركب التطور والحضارة الحديثة، وقد توافقت بشكل عجيب أبنية ذلك المجتمع في ظل الإمامة، وحتى مطلع القرن العشرين فكراً وتطبيقاً، ومن هنا فإن اليمن خروجاً على ما ألفه سائر البلدان العربية الأخرى ظل يشهد بشكل يكاد يكون متواصلا تدفق تيار الفكر والثقافة الإسلامية دونما توقف، اتساقاً مع تشابك أبنيته وأوضاعه تشابكاً عضويا ًلا انفصام فيه ” ص6-اليمن : الثورة والحرب.
لقد رفعت ثورة 23يوليو 1952م بمصر شعار _أن يدا تبني ويدا ترفع السلاح) وتواشجت حركة المقاومة اليمنية ضد الغزو والاحتلال السعودي الاماراتي بحقيقته الأمريكية البريطانية الصهيونية –شعار “يد تبني ويد تحمي “وحددت الثورة العربية في الخمسينيات عدوها الوجودي بالكيان الصهيوني والمشروع الغربي في المنطقة، وكذلك حددت (حركة أنصار الله )صرختها ب”الموت لأمريكا الموت لإسرائيل “وعلى نهج الثورة العربية ورفضها للصلح والتطبيع والاستسلام للكيان الصهيوني إثر عدوان 5حزيران 1967م –حددت المقاومة الوطنية اليمنية ضد الغزاة، المقاطعة الشعبية للتطبيع الثقافي والاقتصادي والسياسي، كموقف وطني وعروبي وعقائدي لقوى الصمود ضد الغزو والاحتلال والمشاريع الصهيونية، ذات الواجهة الخليجية وبجوهرها الأمريكي البريطاني الصهيوني.
لقد كان توصيف الوضع في اليمن أنه بحاجة إلى شراكة القوى اليمنية، في تحديد التحديات ومعالجتها، وذلك ما أورده الشهيد جار الله عمر في كلمته التي ألقاها بمناسبة انعقاد المؤتمر العام الثالث للتجمع اليمني للإصلاح، لكن خيار العدو المتربص باليمن حدد ذلك التوقيت والمكان لاغتيال جار الله عمر، لكن الشهيد قال كلمته ومضى في رحاب الخالدين، ومما أورده في كلمته تلك قوله: “إن اليمن بحاجة إلى إرساء دولة النظام والقانون، دولة المؤسسات، كي تتفرغ لمواجهة التحديات الكبرى في المجالات المختلفة، وأهمها تعثر التنمية وشح المياه وتكاثر السكان وتفشي الفقر والفساد والأمية وتهميش المرأة وتراجع الهامش الديمقراطي وسيادة التخلف العلمي والمعرفي، حتى بمقاييس البلدان المتخلفة، إلى جانب العجز أمام تحديات العولمة وقادها المؤثرة، التي ستفرض مصالحها ورؤاها وسياستها وقيمها على الآخرين، دون اكتراث باحتجاجاتهم الصاخبة”.
إن هذه التحديات الكبيرة، الداخلية والخارجية تفرض على كل القوى السياسية الحية والفعاليات الاجتماعية في السلطة والمعارضة النهوض بواجباتها والدخول بدون تردد في حوار جاد ومسؤول، وصولاً إلى بلورة ما يمكن الاتفاق عليه من أهداف مشتركة، والسعي إلى تحقيق تلك الأهداف ولو بأساليب متباينة، حسب موقع كل طرف داخل المجتمع وتأثيره وسط فئاته المختلفة .ذلك أن النجاح في الوصول بالحوار الوطني إلى أهداف مشتركة أنفع للوطن والمواطنين من استمرار الاختلاف على كل شيء، مع الاحتفاظ لكل طرف بالحق بالتمسك بما يراد حيوياً من أهداف ورؤى وبرامج خاصة …”هذه هي الرؤية الوطنية التي أرادها الشهيد جار الله عمر للحوار الوطني بين اليمنيين، لكن الكيان السعودي ومن خلفه قوى الغرب أرادوا حوارا ينطلق من تقسيم اليمن وتفكيك الجيش، وتخصيب الهويات القاتلة.. تركوا تحديات التنمية والتعليم والمياه والكثافة السكانية، والشراكة السياسية، ليجعلوا من حوار التسوية الخليجية عام 2012م معول هدم للوطن والوطنية اليمنية .
ولأن الكيان السعودي في بنيته البدوية والوهابية يقوم على أساس اجتثاث العمران والأوطان والذاكرة التاريخية والروحية، فقد استهدف في عدوانه واحتلاله مقامات الأولياء والأضرحة والقباب والقبور والمساجد والآثار والمدن القديمة، في عداء صريح وواضح لكل ما يحمل ذاكرة الوطن والتاريخ اليمني في حرب الأربع سنوات وما قبلها.. وهو ما صنعه الكيان السعودي حين سيطر على الطائف ومكة والمدينة وجدة، فقد هدم قبور الأولياء والصالحين والصحابة والقباب والمقامات والأضرحة، وطمس الآثار الخ، مما دفع بالوفد المصري والهندي المشارك في المؤتمر الاسلامي الذي عقد في مكة عام 1926م، وافتتح في 7حزيران من ذلك العام بمكة، فقد طالب رئيس الوفد المصري محمد الظواهري، ورئيس جمعية الخلافة الاسلامية بالهند شوكت علي –طالبوا بإعادة بناء الأضرحة والقبور والقباب التي هدمها الوهابيون عند سيطرتهم على الحجاز، وقد حاول عبد العزيز بن سعود أن يشتري ذمم وولاء المشاركين كي يسوقوا النظام السعودي في بلدانهم، فصرف الكثير من المال، “يقول القنصل البريطاني في تقرير سري إلى حكومته: المظنون أن المؤتمر كلف ابن سعود ما لا يقل عن العشرين ألف جنيه، كان بعضها نفقات للوفود، والبعض الآخر رشوات لهم.. وذكر القنصل أن أعضاء الوفود باستثناء القليل منهم قبضوا الرشوات من ابن سعود كل حسب أهميته.. فالشيخ رشيد رضا مثلاً قبض ألفي جنيه، وأمين الحسيني قبض ألفا، وأبو العزائم قبض ثلاثمائة .وكان قصد ابن سعود من ذلك أن يجتذب قلوبهم، ويضمن دعاية حسنة في بلادهم “ص327-قصة الأشراف وابن سعود-الدكتور علي الوردي –الطبعة الثالثة –دار الوراق للنشر المحدودة 2013م .
هو كيان منذ نشأته الأولى في الدولة السعودية الثالثة التي أسسها عبد العزيز بن سعود – يقوم على شراء الذمم وتوزيع الرشوات، حتى أصبح لهذا الكيان بعد ذلك لجنة خاصة لشراء الذمم والولاءات، وزرع القلاقل والفتن وإضعاف الدول وإسقاطها من الداخل.. بإشراف الأمير سلطان، الذي توفي بمرض السرطان قبل سنوات، ولن نقول أن الله عاقبه بهذا المرض عقوبة على ما اقترفت يداه؛ لأن هذا تفكير اتكالي وخطير في آن، فالبعض حين يرى تناقضات تحالف العدوان والاحتلال فيما بينها، أو بين أدواته في الداخل خدمة من التحالف لأنصار الله، كعون رباني وتوجيه إلهي! والحقيقة أن هذا القول فيه سوء نية إذا أحسنا الظن، وقول يخدم العدوان، ويتناغم معه إذا أسأنا الظن ووسعنا الحذر.. فالتناقضات بين قوى العدوان والاحتلال تتراكم وتظهر بفعل صمود القوى اليمنية المناهضة للعدوان والاحتلال، أي أن سبب بروز هذه التناقضات هو الصمود الأسطوري لليمنيين في مواجهة هذا العدوان والغزو، فلولا صمود الجيش واللجان الشعبية في مواجهة الغزو ما كان لهذه التناقضات أن تثمر هزيمة للمخطط الغربي الصهيوني، في كل أبعاده وأهدافه وغاياته.
ثوابت الجغرافيات وتكرار مهازل التاريخ الدامية:
ليس أمراً اعتباطياً أن يبدأ الصراع بين اليمن والرياض مع البدايات الأولى لتأسيس الكيان السعودي، ففي عام 1923م كانت مذبحة (تنومة وسدوان) في عسير التي رح ضحيتها ثلاثة آلاف حاج يمني تقريباً، وقد كانت دلالة المذبحة مع تمدد الكيان السعودي واضحة الرسالة من جغرافية تتوسع بأميرها عبد العزيز بن سعود، وجغرافية تتجه نحو تكوين اليمن الحديث، بعد استعمار عثماني دام عقوداً في مراحله المختلفة منذ القرن السادس عشر، إلى خروجه من اليمن في نوفمبر عام 1918م.
الصراع على أساس الجغرافية الطبيعية لليمن، والجغرافية المصطنعة لنجد والحجاز في تمددها إلى نجران وعسير كان حتميا عليها أن تتواجه، حتى لو كان المنتصر في الصراع بين نجد والحجاز هو الشريف حسين، فالتمدد جنوباً كان في أجندة وادعاءات الشريف حسين فيما يتعلق بالسيطرة على المخلاف السليماني، وانتزاعه من اليمن، وقد كانت هناك بدايات اصطدام مع الشريف حسين بخصوص عسير وجيزان…فالجغرافيات المصطنعة في الجزيرة العربية تحتاج إلى أن تتمدد بالغزو في كل الاتجاهات كي تبني كيانها المصطنع، ولأنها كيانات مصطنعة تظل دوما تتغذى وجودياً على الحروب، فـ”الحدود التي يصنعها البشر، والتي لا تتوافق مع منطقة من الحدود الطبيعية، تكون غير حصينة على نحو خاص “ص15-انتقام الجغرافيا-ما الذي تخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة وعن الحرب ضد الجميع –تأليف روبرت د.كابلاند-ترجمة د.إيهاب عبد الرحيم علي –عالم المعرفة –يناير 2015م –وقد نشره المؤلف في نيويورك باللغة الانجليزية عام 2012م.
يرتبط ما سمي بالربيع العربي في جوهره بتنظيف المنطقة جغرافيا من استقرار الجغرافيا والدولة، نحو تفتيت الجغرافيات وإسقاطها في الفوضى.. فبدايات هذا الربيع كانت تتكيء على أساس اجتماعي اقتصادي، فبني عليها وهم الحرية دون جغرافية مستقرة وثابة، ودون رغيف الخبز!
في تونس بدأ ما سمي بـ(الربيع العربي ) في بلدة سيدي بوزيد، في ديسمبر 2010م “عندما عمد بائع للفاكهة والخضروات إلى إضرام النار في نفسه كعمل من أعمال الاحتجاج “ص17-انتقام الجغرافيا.
أي أن الظروف التي اضطرته إلى ذلك كانت ظروف المعيشة والتضييق الذي يتعرض له من قبل (البلدية)إلى أن يعلن احتجاجه الاجتماعي بإحراق نفسه.. سقط البعد الاجتماعي، وتم محوه من الذاكرة؛ ليصبح الموضوع إسقاطاً للأنظمة وقتلاً للجغرافيات، وتركاً للبلدان دون نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي يلملم شتات الجغرافيا.
لقد انساق الوعي الفردي مع الجماهير التي تم سوقها في مسار لم تختطه هي، إن وعي الفرد كان ينجرف بحثاً عن أمانه وفقا لعبارة (جورج أورويل) في روايته (1984م): “عليك أن تصبح دائما مع الجماهير، هذا ما أقوله، غنها الطريقة الوحيدة لأن تكون آمنا”.
وتأتي شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لتعزز من سطوة الجماهير العمياء، والموجَهَة .
يرى مؤلف كتاب (انتقام الجغرافيا) أن الهشاشة متأصلة في الجغرافيا اليمنية “كانت اليمن تمثل ما أطلق عليه العالمان الأوربيان، اللذان عاشا في القرن العشرين، إرنست غلنر، وروبير مونتاني، اسم المجتمع “المجزأ وهو ثمرة طبيعية شرق أوسطية تعصف بها الجبال والصحارى، ولكونه يتأرجح بين المركزية والفوضى، يتجسد هذا المجتمع وفقاً لصياغة مونتاني في نظام “يستنزف الحياة من منطقة ما “وأنه “بسبب الهشاشة المتأصلة فيه ” فقد فشل في إقامة مؤسسات دائمة.. فهناك تتسم القبائل بقوتها والحكومة المركزية بضعفها، وبالتالي فإن الصراع من أجل بناء أنظمة ليبرالية في مثل هذه الأماكن لا يمكن فصله عن مثل هذه الحقائق” ص18.
والحقيقة أن هذه اللغة الجغرافية الحتمية في مصادراتها تؤسس لمسار قادم باسم حتمية الجغرافيا، فالتأرجح بين المركزية والفوضى يتعلق بعوامل اقتصادية، وأخرى مرتبطة بتحديات الخارج الغازي، لا بالجغرافيا التي هي طبيعية، ويوجد لها ما يماثله في العالم، والقبيلة تخضع مثلها مثل غيرها من العوامل الاجتماعية لقوة الدولة المركزية أو ضعفها، فحين تضعف الدولة تتقوى كل الأوهام سواء أكانت قبلية أو مناطقية أو مذهبية أو جهوية، وهو ما يستدعي إعادة رسم الجغرافيا وفق للحالة السياسية والاقتصادية وليس العكس!
إن هذه اللغة التي تستعين بحتميات متوهمة جغرافيا، في جعلها الهشاشة مقدمة جغرافية وليست نتيجة-فيها مصادرة للعقل وللجغرافيا الطبيعية وللتاريخ والإنسان في آن.
لهذا ينطلق كتاب (انتقام الجغرافيا) من هذه المقدمات التي تزيح الوعي لتؤسس لأيديولوجية جديدة، ومن ذلك قوله : “فحتى الترتيب المكاني للقبائل الليبية ولسلاسل الجبال اليمنية سيستمر في لعب دور حاسم في التطور السياسي في تلك البلدان”، ومع أن المؤلف ينفي قدرية الجغرافيا “يقتصر دور الجغرافيا على التنوير، وليس التحديد.. وبالتالي فإن الجغرافيا ليست مرادفا للقدرية”، لكنه ينقض ذلك حين يعطي للجغرافيا دور”توزيع القوة الاقتصادية والعسكرية ذاتها “وما يحدث في الواقع هو العكس، أي إعطاء الجغرافيا دور الموزع والمتحكم بالقوة الاقتصادية والعسكرية، وليس العكس.
للجغرافيا ثوابتها في تكرار الصراع، بتعاقب رغم اختلاف الأيديولوجيات والحكام، ومن ذلك الصراع الجغرافيا بين اليمن والحجاز على الحدود “في العام 1942م، كتب بجامعة ييل، نيكولاس ج. سبيكمان، وهو منظر استراتيجي أمريكي –هولندي بارز من حقبة أوائل الحرب العالمية الثانية، أن “الجغرافيا لا تجادل، فهي ما عليه ببساطة ” ويستطرد قائلاً : الجغرافيا هي العامل الأكثر أهمية في السياسة الخارجية للدول، لأنها أكثر ديمومة .يأتي الوزراء ويذهبون، وحتى الطغاة يموتون، لكن السلاسل الجبلية تظل راسخة في مكانها، إن جورج واشنطن دافع عن ثلاث عشرة ولاية بجيش غير نظامي، قد خلفه فرانكلين د. روزفلت الذي كانت تحت تصرفه موارد قارة بأسرها، لكن المحيط الأطلسي استمر في فصل أوروبا عن الولايات المتحدة، كما أن موانيء نهر سانت لورنس ما زالت تغلق بسبب الجليد في فصل الشتاء، أما الكسندر الأول، وهو قيصر جميع الأراضي الروسية، فقد أورث ستالين والذي كان عضواً بسيطاً في الحزب الشيوعي، ليس فقط سلطته، ولكن كفاحه الذي لا ينتهي للوصول إلى البحر، في حين ورث ما جينو وكليمنصو من قيصر روما والملك لويس الرابع عشر قلقهما على الحدود الألمانية المفتوحة “ص50-انتقام الجغرافيا.
وعلى ذلك نفهم موقف الإمام يحيى والرئيس إبراهيم الحمدي وقحطان الشعبي وسالمين وعلي عبد الله صالح وحركة أنصار الله في الصراع البارد أو الدموي مع حكام الكيان السعودي.. إنه صراع الجغرافيا الذي لا يزول بتغير الأشخاص والأيديولوجيات، وإنما يستمر وإن اختلفت الرايات فالجغرافيا ثابتة.
وفي سياق ثوابت الجغرافيا فإن (بطرس الأكبر) حين جعل من مدينة (بطرسبورغ) عاصمة لـ(روسيا) في حماقة استمرت قرنين ضد حقائق الجغرافيا، كما يرى صاحب كتاب (انتقام الجغرافيا) لم يكن ذلك سوى حماقة “غير أن موسكو المرتبطة بالأرض –ومن ثم بالجغرافيا –انتصرت مجددا في نهاية المطاف .
للإرادة البشرية حدود لا يمكن تجاوزها “ص69.ومن ذلك حين يتم نقل العاصمة في اليمن من (صنعاء) إلى (تعز) أو (جبلة) أو (عدن) أو (حضرموت) أو (زبيد) أو غيرها من الجغرافيات اليمنية، فإن ذلك لا يعد سوى حماقة تخضع للأمزجة والهويات الضيقة، في محاولة لتجاوز حقائق الجغرافيا، لكن الإرادات الحمقاء سرعان ما تهوي في قيعانها لتستعيد (صنعاء) محوريتها كعاصمة لليمن الواحد.
في حرب التحالف بواجهته السعودية /الإماراتية وجوهره الأمريكي البريطاني الصهيوني –تسعة هذه الأطراف في حربها على اليمن، إلى تغيير سلوك حركة أنصار الله، ونقلها من محور المقاومة إلى محور التطبيع والانقياد للمشروع الأمريكي.. ويستخدم تحالف العدوان والاحتلال للوصول إلى غايته، إلى جوار ماكينة الدمار الحربية جواً وبراً وبحراً، يستخدم تقنيات شبكة الانترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، لكنها ذات التقنيات التي تلحق “الهزيمة بالجغرافيا تمتلك القدرة أيضاً على تعزيز الجغرافيا “-انتقام الجغرافيا. فالجغرافيا السياسية هنا تحل محل الأيديولوجيا.. ومحو الذاكرة رقمياً يواجه بتعزيزها، فالأمة كما يقول هنتغتون، المنظر الأمريكي لحروب الثقافات : الأمة “مجتمع مستعاد من الذاكرة” أي المجتمع الذي يملك ذاكرة تاريخية عن نفسه “ص400 – 401 – انتقام الجغرافيا؛ ولأن الكيان السعودي والإماراتي بلا ذاكرة فهو حريص على تجريف الذاكرة من خلال نهب الآثار، وتشويش ذاكرة الأمة، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة الاليكترونية والمواقع الأليكترونية، خوفاً من تجذر الأمة اليمنية في التاريخ.
لم تكن نصيحة الملك عبد العزيز بن سعود لأبنائه بخصوص اليمن، والتي يشير لها المفكر علي الوردي، والصحفي والكاتب الشهير محمد حسنين هيكل، والتي تنص على أن الخطر على كيان السعودية المختلق والطارئ تاريخياً مهدد بالخطر من وحدة اليمن أرضاً وإنساناً، لهذا نصحهم بالعمل على إبقاء اليمن هشا تتنازعه الصراعات، وعلى ذلك بنى ورثته سياسته تجاه اليمن، وكانت وظيفة اللجنة الخاصة زعزعة الاستقرار والتنمية والوحدة اليمنية.
بل إن قوانين الجغرافيا تقول ذلك، فبحسب كتاب (انتقام الجغرافيا) “إن الخطر الأساسي على المملكة العربية السعودية المرتكزة على نجدها هو اليمن؛ فعلى الرغم من أن اليمن لا تمتلك سوى ربع مساحة أراضي المملكة العربية السعودية، فإن سكانها يبلغون الحجم نفسه تقريباً، بحيث يقع القلب الديمغرافي البالغ الأهمية لشبه الجزيرة العربية في الركن الجنوبي الغربي الجبلي منها، حيث الهضاب البازلتية الشاسعة، والتي تنتصب مشكلة تكوينات تشبه القلاع الرملية والفوهات البركانية، في حين تؤوي شبكة من الواحات الكثيفة سكانها منذ العصور القديمة”ص313.
تعلم السعودية أن احتلال اليمن أمر مستحيل جغرافياً وديمغرافياً، لهذا تعمل على جعل اليمن ضعيفاً وهشاً، ومنقسماً إلى أجزاء متناحرة، عملا بنصيحة الأب المؤسس عبد العزيز بن سعود، الذي حين قال له بعض السياسيين والصحفيين بعد حرب 1934م ضد اليمن، وأخذه لعسير ونجران وجيزان، واحتلاله للحديدة : لماذا لم يتوسع أكثر ليضم اليمن كله لحكمه؟ فكان جوابه أنه لن يغامر بحماقة عجز الاحتلال البريطاني عن فعلها حين كان محتلا لعدن وما أسماه بالمحميات الشرقية والغربية.
إن ما يقلق السعودية هو تجذر اليمن كأمة في الذاكرة، في مقابل كيانها الوظيفي الطارئ على التاريخ، فـ”مستقبل اليمن المزدحم بسكانه وذي الطبيعة القبلية سيمارس دورا كبيرا في تحديد مستقبل المملكة العربية السعودية، وربما كان ذلك متعلقا بالجغرافيا أكثر مما يتعلق بالأفكار “ص؛ ولأن الولايات المتحدة مع مضي الوقت سترفع يدها عن دعم هذه الحرب المكلفة، وفقا لمبدئها المتمثل بـ(اقتصاد القوة) فإن على الكيان السعودي أن يبحث له عن استراتيجية أخرى في تعامله مع اليمن، وفقا لمبدأ الشراكة والجوار، بدلا من أوهام اجتثاث الذاكرة كأمة وجغرافيا، وتلك بلاهة دامية، لكنها لا تستطيع تغيير ثوابت الجغرافيا وحقائق التاريخ.
اليمن والوطنية الجامعة:
تجذرت الوطنية اليمنية بجغرافيتها الطبيعية الممتدة من المحيط الهندي إلى مرابع نجد عبر التاريخ، وكان للغزو الخارجي دوره في استنهاض الانتماء اليمني ضد الغزاة.
في القرن السادس الميلادي كان الرومان يزحفون إلى اليمن فكانت مقبرتهم في الجوف شاهداً على عمق الرفض الشعبي لكل دخيل يريد أن يقضم الأرض والثروة والكينونة اليمنية.
صحيح أن كل “الهويات متخيلة “بمعنى أن كل الهويات هي نتاج التاريخ، لكن البعض يخلط عمدا بين مصطلح الهويات المتخيلة التي تحيل إلى النشوء التاريخي للانتماءات وبين “الهويات الوهمية” والقاتلة، التي يتم تخليقها بغرض ضرب الانتماء الوطني وتفتيته.
يتحدث (مكيافلي) في كتابه “الأمير” عن الضعف وعدم الثبات للسلطة التي لا تستند إلى قوى المرء الذاتية (في السعي وراء السلطة).
فكيف إذا كانت السلطة معتمدة على عدوان خارجي، يعمل على استثمار العصبيات والهويات المذهبية والجغرافية.
الوطنية الجامعة تبنى على القوى الذاتية للوطن والوطنيين، وليس على سلطة خارجية دولية أو إقليمية. فطالما ظلت الحركة الوطنية قديما تردد بأن “ما تجمعه الأوطان لا تفرقه المذاهب ونزعات السلطان ” كشعار تنطلق منه وتؤمن به.
لقد كانت رسالة الإمام محمد بن يحيى حميد الدين إلى السلطان العثماني في الاستانة واضحة وعميقة في إدراكها للجوهر الوطني، حين أكد على أن اليمنيين لا يقبلون بظلم اليمني، فعزته وكرامته تعاف ذلك، فكيف بظلم الغازي الأجنبي. وكفى بالغزو والاستعمار ظلما لايوازيه ظلم أو استبداد.
ولازالت الذاكرة الوطنية لليمنيين تتذكر الجزاء الذي ناله الإمام محمد بن يحيى المنصور في منتصف القرن التاسع عشر حين ذهب إلى الحديدة لاستقبال الأتراك، وقَبِل أن تكون اليمن تابعة للأستانة، وهو وال لهم فيها، وحين عاد بألف وخمسمائة من الجنود الأتراك، تحركت الهمم الوطنية، محاصرة له في قصره ببستان السلطان، وأعلنت استباحة دم الأتراك أنَّا وجدوهم، فكان الخروج الذليل لمن تبقى منهم سالما، وانسحابهم إلى الحديدة، ولم تهدأ جموع اليمنيين حتى أقام الإمام علي بن المهدي حكم الإعدام بالإمام المخلوع محمد بن يحيى المنصور.
هي الوطنية اليمنية التي لا تقبل الضيم ولا الخيانة والتواطؤ مع المحتل لأي شبر من أرض اليمن، فكيف بصنعاء محور الوطن ووحدته واستعادة كرامته!
لا يحقق العدوان مبتغاه في احتلال اليمن إلاَّ إذا وجهوا سهامهم نحو الوطنية الجامعة لليمنيين، بإضعاف صنعاء، وتأجيج “الهويات الوهمية”.
استخدم الأتراك الورقة المذهبية، والجهوية، فكان لهم الاستيلاء على معظم الجغرافية اليمنية، ولقد أدرك أحد الرحالة الفرنسيين ذلك حين زار اليمن في القرن التاسع عشر، متوقعاً عودتهم لاحتلال اليمن، وذلك من خلال توظيفهم لورقة التعدد المذهبي والجهوي، وتحويل ذلك التعدد إلى آلية لإنهاك اليمنيين، بدلا من أن يكون كل تعدد إثراء للمركز الوحدوي، وقوة اليمن المستقل.
وعلى هذا المنوال تسلل الاستعمار البريطاني مستخدماً ومؤججاً للصراعات القبلية، والثارات، في جعل كل القبائل والمشيخات في جنوب اليمن عدوة لبعضها، ليكون الإجماع على طاعة المستعمر باتفاقيات الحماية والاستشارة، وتكون الفرقة والاقتتال في ما بين اليمنيين .
عملت بريطانيا على إنشاء سلطنات ومشيخات، وطمس أخرى من المشهد السياسي والجغرافي وفقا للولاء لها أو البراء منها ورفض الانطواء في مشروعها.
ولأن بعض الأئمة في اليمن كانوا يعون أن اكتمال الكينونة اليمنية لا تكون إلاّ باستعادة كامل الجغرافية الطبيعية لليمن –كان رفضهم الدائم لسلطات الاستعمار في الجنوب، ومطالبتهم المستمرة بواحدية اليمن. واستقلال إقليم اليمن، الذي يشمل اليابس منه والبحر والغطاء الجوي الذي يعلو أرضها وماءها.
استقلالية المركز أي صنعاء يجسد دوما السعي نحو تحقيق الوحدة اليمنية واستعادتها، فالمركز كقاعدة متمسكة بواحدية اليمن بموازاة الفكر الثوري كفيلان دوما باستعادة الوجود اليمني لجغرافيته ودوره الحضاري في المنطقة.
سقط رهان بريطانيا على الورقة الطائفية والمذهبية حين كانت تزرع الفرقة بين ما أسماه الغزاة ب(اليمن الأسفل) و(اليمن الأعلى) وبين الشوافع والزيود.. كانوا يخوفون مشيخات الجنوب من الزيود، وما سموه بإمام الزيود. وحين قاموا في عشرينيات وبداية ثلاثينيات القرن العشرين بضرب المناطق اليمنية بتعز وبيت الفقيه ويريم والحديدة إلخ، كانوا إلى جوار قنابلهم التي تلقيها طائراتهم لتقتل آلاف اليمنيين يلقون بقنابلهم المذهبية والجهوية التي تحملها منشوراتهم زاعمين أنهم يدافعون عن الشوافع ضد الزيود، وهي قنابل أشد فتكا وإجراما، ومع ذلك سقط الرهان، وظل اليمنيون ينتظرون تحقيق أملهم باستعادة الوحدة اليمنية كإطار جامع للحمتهم الوطنية.
بعد أن تحقق الأمل الوحدوي في 22مايو 1990م لم يسع نظام الحكم في اليمن لتنمية المضمون الوحدوي بثقافة وحدوية، بل عمل على النقيض من ذلك.
لقد جعل من اليمن الواحد فيداً وغنيمة يقتسمون ثرواتهم فيما بينهم كحكام، وينجزون أجندات أمريكية في تصفية ممكنات اليسار اليمني، فكانت حرب 1994م تتويجا لسنوات من تجريف الوطن أرضا وإنسانا. وحين لم يبق في المشهد السياسي سوى تحالف قوى الحكم بعد إقصاء المختلف عنهم ممثلا بالحزب الاشتراكي انتقلت تناقضاتهم إلى داخل بنيتهم، ممثلة بسلطة الرئيس علي عبد الله صالح من جهة، وفى التجمع اليمني للإصلاح من جهة أخرى، واستمرت الحوارات السياسية بينهم تنطلق على أرضية المحاصصات فيما بينهم، وحدود سلطة وثروة كل طرف.
في هذا المسار من التنازع على السلطة والثروة، وإصرار الرئيس علي عبد الله صالح على الاستفراد بالحكم، وإزاحة شركائه في انتخابات 1997م، و 1999م، و2006م – نفذ صبر قوى تجمع الإصلاح، وعبر عنه ناطقهم الرسمي الأستاذ محمد قحطان حين قال بأنهم سوف يلجأون إلى ثورة تشبه ما سماه ب”ثورة الفقيه سعيد” ومن المعلوم أن حركة “الفقيه سعيد بن صالح بن يس العنسي، الهتاري، المذحجي “كانت تمرداً ضد سلطة الإمام الهادي محمد بن المتوكل أحمد، مستغلة آلام ومعاناة الفلاحين في مناطق العدين وشرعب وإب، التي تسبب بها مشايخ ووجهاء ذي محمد وذي حسين، وغيرهم من مشايخ المنطقة .ليدعو لنفسه عام 1840م بعد انسحاب المصريين من تعز، متخذا لنفسه لقبا سياسيا ودينيا، إماما مهديا .ص291-293-مائة عام من تاريخ اليمن الحديث –الدكتور حسين عبد الله العمري -1984م.
كانت انطلاقة الفقيه سعيد من “الدَّنْوة “قرية من عزلة بني محرّم في العدين، مُكَنِّيا نفسه “إمام الشرع المطهر المهدي “ومضيفاً إلى ذلك كنية “المهدي المنتظر “ص293-المرجع السابق.
لم تكن حركة الفقيه سعيد مستقلة عن أطمع الأتراك، فلقد كان له رحلة إلى عدة بلدان منها تركيا قبل عودتها إلى “الدَّنْوة” في العدين،وقيامه بحركته مستغلاً حالة الفراغ السياسي التي تسبب بها انسحاب المصريين من تعز، وحالة التذمر الشعبي من ظلم مشايخ (برط) المالكين للأراضي الخصبة في إب، وظلمهم للفلاحين .
فاستدعاء حركة الفقيه سعيد من التاريخ الحديث لليمن، ورقة مذهبية وجهوية يلوح بها تجمع الإصلاح في وجه الرئيس علي عبد الله صالح.. وهو تلويح كشفت الأحداث بعد ذلك بأنه كان من مقدمات عدوان قفازات الغرب في المنطقة العربية.
ويُعَضِّد ذلك العمل طيلة عقود في تعز على تنشئة جيل من الأطفال داخل مدارس سلفية، وتوفير السكن والمعيشة لهم، والعمل على ترويج الكتاب السلفي بأسعار رمزية، بل وإقامة معارض الكتاب السلفي، الذي كان يتخذ من مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة غطاء له، في الجانب المذهبي، والعمل على طباعة الكتب عن “المعافر” كهوية تاريخية مستقلة عن تاريخ اليمن، بتكامل بين مؤسسة السعيد والمكتب التنفيذي لتعز عاصمة للثقافة ” كمؤسسات لتخليق “الهويات الوهمية”.
لم يكن “الإخوان المسلمون” معنيين بالقضية الوطنية، بل هم نشأوا على نقضها بإحلال مصطلحات فقهية عن “دار الإسلام” و”دار الكفر” بديلاً عن مصطلح “الوطن”.
في حركة 17فبراير 1948م كان لهم اليد الطولى في تقويض اليمن المتوكلي، باغتيال الإمام يحيى، ومنذ ثلاثينيات القرن العشرين ومرشدهم “حسن البنا” يسعى لجعل اليمن احتياطي جماعة الإخوان المسلمين في العالم .
وحين قامت ثورة 26سبتمبر 1962م كان رموز الإخوان المسلمين في اليمن يتحركون كطابور خامس في نشر الأراجيف، وضرب الثورة، وخاصة في توزيعهم للمناشير بقرب سقوط صنعاء في حصار السبعين يوماً.
وكان دورهم في صياغة مقررات مؤتمر خمر 1965م، وفي العمل على ضرب التوجه القومي لليمن طيلة ستينيات القرن العشرين. وحين اتضح لهم أن حركة 13يونيو 1974م مغايرة لمشروعهم عملوا أداوت مع السعودية على طمس معالم هذه الحركة، عسكرياً وتعاونياً وتعليمياً ونهجاً سيادياً.
كانوا في كل توجه سلمي باتجاه الوحدة يقفون على النقيض، رافضين ومسعري حرب بين شطري اليمن آنذاك، سواء في مواجهات قعطبة عام 1972م، أو عام 1979م، أو في كل مفاوضات الوحدة في طرابلس والكويت وعدن وتعز وصنعاء .موقفهم دوما هو السعي لضم الجنوب بالقوة، ودحر ما سموه ب”خطر الشيوعية ” كهدف تموله وتدعمه الولايات المتحدة الأمريكية في زمن “الحرب الباردة..
يكتب “جان فرانسوا بايار في مقدمة كتابه “أوهام الهوية “ترجمة حليم طوسون –دار العالم الثالث -1998م –عن (الهويات الثقافية ) التي تقابلها بالضرورة (هوية سياسية) لا تخلو هي أيضا بالواقع من طابعها الوهمي .فليس هناك سوى “استراتيجيات للهوية “يتبعها بشكل غير رشيد محركون يمكن التعرف عليهم، ومنهم محترفو السياسة، الذين يصنعون مذابح عرقية ودينية.
إن الهوية التي تصنع في سياق الخوف من الآخر والهرب منه، والقلق تجاهه لا يمكن أن تكون سوى هروب من عبء الهوية، بحسب تعبير أحمد حيدر في كتابه (إعادة إنتاج الهوية ) دار الحصاد -1997م.
ما تحتاجه اليمن هو بناء مركز قوي ممثلا بعاصمته الوحدوية صنعاء، والعمل على تعزيز الهوية الجامعة على أسس الشراكة، كمواطنين لا كـ”أطراف معنية “ووجاهات وجهات. وتعزيز الإبداع والابتكار لدى اليمنيين بنظام تعليمي أساسه العقل وحرية التفكير، والفكر، والتعليم الاستكشافي، وتوظيف التعدد بما يخدم الوحدة لا بما ينفيها، ويصورها مشكلة، بل هي الحل، والعمل على الاهتمام بالمسألة الاقتصادية في اليمن كونها جوهر الصراع وأحد متكآت الاستعمار.
في 22مايو 1990م تم التوافق على “هوية سياسية” مغايرة لزمن التشطير دون أن يصحب ذلك الانتقال إلى “هوية ثقافية “جديدة، مما جعل الهويات السياسية والثقافية السابقة تعبر عن نفسها لدى “المنتصر” و”المنكفئ” في حرب 1994م.. مما جعل الهوية الجامعة لليمنيين تتعرض لاهتزازات بفعل غياب وعدم إنتاج هوية ثقافية للوحدة اليمنية، تختلف عن هشاشة الهوية الأيديولوجية المعبر عنها إعلامياً، كون تلك “الهوية الإعلامية “لم تكن سوى شعارات ذات صلة بأنظمتها التسلطية والشمولية لأنظمة التشطير.
لا أريد لفكرة “الآخر” كهوية عنصرية أن تتجذر، ما أريد هو أن يتلاشى هذا التباين الوهمي بين الأنا والآخر، وأن يتم دمج الأفراد في إطار ثقافي يتيح لكل فرد الابداع والابتكار وتحقيق الذات، دون أن يوجد “أنا” “أصلية” و”فطرية” و”آخر” هامشي ينبغي اجتثاثه، فحين يفكر اليمنيون بمشروع جامع مبني على المواطنة والوطن والمواطن تسقط الأقنعة الهوياتية، ويتعايش المواطنون وفق منافع متبادلة ومنتجة، وليس عصبويات تعيش على العطالة والأساطير.
إن جوهر الانقسام إلى هويات مذهبية وطائفية وجهوية والتشبث بها هو السياسة، وما يرتبط بها من منافع، وبالتالي فهي مسألة قابلة للزوال إذا توقف العدوان الخارجي، فالمنافع العامة والسياسة الجامعة للمواطنين بتساوي الفرص وتميز الكفاءات هي أساس اللحمة الوطنية.
أما في ظل الاستعمار فإن جميع الهويات القاتلة قابلة للانتعاش، كجماعات تبحث عن حصتها واستحقاقاتها في زمن الحرب!
ما يحتاجه اليمنيون هو دولة مركزية قوية، ونظام سياسي وحدوي يطلق الطاقات، ويؤمن الحياة ورغيف الخبز، وحرية الرأي، وتعليم يبني الوعي النقدي، ولا يجعلهم مشاريع توحش وقتل، يحتاجون إلى تأمين صحي، ونهوض تنموي، وحريات شخصية، ونمو متكامل للشخصية بأبعادها الجمالية والفكرية، في المسرح والسينما والموسيقى وسائر مشارب الثقافة.
يحتاجون إلى شراكة سياسية تستنهض قواهم ولا تستنزفها، وإلى ثقافة مغايرة ومختلفة عن ثقافة تنتج الكراهية وتجعلهم في حالة تمترس وعدوان مبين.

قد يعجبك ايضا