امنحه الحب كما تمنحه الطعام

سوء فهم أزلي مفادْه, أنك لتصنع جميلا ليتيمُ ما, عليك أن تدفع إليه إعانة ما في عيشه, أو أنك تكفْله ! وفي حقيقة الأمر, ذرءْ صداقة مع يتيم, ليس بالأمر الذي يستهان به ! لا يحتاج اليتيم إلى من يطعمه ويكسيه فقط. أو من يمسح بكفيه الحانيتين جبينِه المحروم ثم يرحل عنه, و كأنما كان جبينه هذا قبلةٍ للآثمين, يعيثون في الأرض فسادا, ويستحمون بالذنوب في كل يوم, ثم يقصدونه كل عامُ نادمين, يطْوفْون, يْؤدون الصلاة, ينحرون الأضاحي ثم يرحلون مستبشرين ! هو يحتاج لأكثر من ذلك يا صديقي. يحتاج لمن يْحبه ويتحدث إليه, من يغوصْ في أغوار قلبه ينقبْ له عن مواطن المعجزات الكامنات فيستدعيها له ليجابه بها الحياة. يدعوه, مثلا, لقضاء يوم كامل بمنزله, يعدان الغداء ويلعبان الشطرنج, و يمران بكْتيباته في الرفوف و يتحدثان. ببساطه, هو يحتاج لأن يكن لديه ” أقربْ الناس إليه”.

صدقني يا صديقي, من هم بلا آباء قد يقهرون الجوعِ والعِوزِ. قدرتهم على تحمْل ذلك هائلة, قد تفوق قدرتك أو ربما ضعفها مرتين. لكنها وحدها العزلة المكفهرة والغربة الباردة في غِلس الليلات الدامسات هي من تقهرهم وتنتصر. الغربةْ بين غرباء مشابهين, قاسية ! واليتامى هم كذلك, تجمعهم الأقدار في حصونُ معزولةُ كأقبية. لا يملكون فيها مرايا ليتأملوا ذواتهم, وجْوههْم المحرومة هي مراياهم الوحيدة لبعضهم البعض. وقد انطوت نفوسهم على ذواتها وأوصدت أبوابِها بأقفالُ من حديد, وأقسى ما في الوجود يا صديقي هو الأبوابْ المؤصدة ! فتمضي أيامْهم لا يعرفون ذواتهم ولا يدركون كم أنهم بالغو النباهة او كم أنهم يْؤذنون بالبزوغ ! لو أنك تدري إشاراتْ اكتشاف الذات ورسالاتْ الطمأنينة الغامرة لهؤلاء, غاليةَ ثمينة. تسافرْ في اللحم منهم والعظم والجسد وتطوف حول القلب والعقل, لا تغادر ولا تستريح حتى يبلغو بها منافذِ النور! صدقني, فأنا نشأت يتيمة. واجهتْ الحياةِ منذ بداياتها بلا أب, لم أعرف أبي ولم التقه. عند قدومي الى هذا العالم, احتجت الدنيا وبشده على استيعابنا معا في ذات العمر ! وليضمن إحدانا البقاء, كان لإحدانا أن يعتزم الرحيل ! لا أنكر أن ظرفي كان استثنائيا وأمن لي ما لم يْؤمنه لليتامى سواي. إلا أنه , وحقا أقول, ليس هو من صنعني أو كان في صدارة أسباب النجاة ! بل إنها صداقةَ مخلصة هي من فعلت ذلك, وأمنته لي حقا ! أمي الحانية, كانت تشد علي يدي دائما ومرارا تقول لي أنني قوية, وأنني أملك بداخلي الكثير! أملكْ معجزات مْوسى التسع وعصاه ! ولي جناحان واثبان, ك شراعين. كانت تدعك جسمي النحيل كل ليلة بالثلج والنور والنار ! وتنفخْ رئتي بالأمل, ثم أنها تسعر في صدري حقول الأمنيات. و ْتكررْ دائما أن المركبةِ الورقيةِ الهشة, ستغدو في أوج العمر بحرا عاصفا يشقْ صدر الهواء.
صدقني يا سيدي
أسمى عطاياكِ ليتيم أن تكن له صديقا مْحبا نبيلا, وذلك أوجْ الصنيع ! الحب, خِمرةْ الحياة وتمام النعيم وغيابْه جحيم, ولن يكلفك هذا التمامْ الكثير. فقط, زْره كل شهر, وادعه إلى منزلك كل شهرين, وقدم له هديةٍ في كل عام ثم أنك تتحدث إليه ! تحدث إليه, وعلمه. علمه كيف يواجه المحتوم ويغير المْحتمل ويهادن القدر ويحلمْ بالمستحيل. كيف يكون كاسراٍ عاتياٍ أو ظافراٍ مْفرط الرقة. و كيف أن الحكمةِ في التروي, لكنه ميتَ من لا يجازف ! و أن الفطنةِ والتخطيطِ هما مفتاحْ اللعبة, لكنه ميتَ من, بين الحينة والأخرى, لا يقلب الطاولة ! علمه ان الحياةِ واسعةَ بهية, وخلف تلك الجدران السوداء التي تحاصره, أفقَ أزرقَ فسيح, مليءَ بالشطآن والوديان والصواري والحقول. وأن جفنيه المتوْرمين, من يطفحان كل ليلة بالدموع, سيلتمعان يوما ما وينضحان بالفرح والندى, كوردتين. عليه حينها أن يروي حظه الجائع, فيمتشق كل ما في جعب هذه الحياة بل ويستوفي ضرعِها حلبا , لا يستبقي فيه شيئا ! علمه أن تفكيك الحياة لا يعني الإعياءِ والارتياب, ولا اللْهاثِ والتعب ! وأنه لا شيء قد يضاهي فك الشفرات ونيل الأمنيات بقلبُ آمنُ وفكرُ منير. فليحفر أعمق في كل مرة, ففي العمق تكون مناجم الماس ! وليتشدق مطمئنا بالأمل ولو كان حبلا من رياح, ف أهزعْ السهام في جعبته قد تكون أصوبها وأقواها ! علمه أنها ليست مرتعا للقبح والبشاعة قدر أنها مسرحا للفوضى وتبادل الأدوار ! علمه أنها ليست وكرا من الحيات ! كرر له ذلك دائما, الحياة ليست وكرا من الحيات. و أن لها وجهاٍ عادلاٍ غيرِ ذلك الوجه القبيح الذي ظلمه يوما ما, بل وأنها لم تخذلْه بمفرِده, إنها تخذلنا جميعا أولا أو أخيرا, جميعنا ذائقَ ذلك الخْذلان ! فليغفر لها إذن, فليغفر لها ويصفح, وليعانقها صْلحا ولا يقتصú ! لا يوزع اللعنات ولا يقتص, مغدورَ هو من يقتص, من يْداوي القهرِ بالجمر والنار بالنار. وثم أنه ليس ثمة وقتُ للقصاص, العمر سريعَ ثمين ولن يحيا هو مرتين, والأولى به سدادْ الديون! علمه الرحمه بل علمه أيضا أن يكون حنونا رحيما ! أن يرجْفِ قلبْه الصغير لمْواء قطُ جائع أو أنين عصفورُ جناحْه جريح ! هذبه لذلك بأفكارُ من ذلك النوع البالغ العطف والرقة والعذوبة, كأن يْشفقِ, مثلاٍ, على حطبُ أوجِعتْه الفؤوس وأسقطت على عْروقه شفا نصلها القاصل الشرس بلا رحمة ! واكشف له الخدع وعلمه كنههن ! علمه أن الرهبنة على مذبح الرب خْدعة ! فلا يْهدر أفراحِ قلبه ْسدىٍ. وأن “سيرينات البحر” لذة ولعنتْهن خدْعة ! فلينغمس في سحر غنائهن وشدْوهن ولا يبالي, إياه أن يختم على أذنيه بالشمع كما فعل أوديسيوس بآذان بحارته المخدوعين. و أن وْجوهِنا وأسماءنا وأنسابنا وأصولنا ودماءنا العريقة أو النقيصة, خْدعة ! خدعةَ دميمةَ, زبدَ هائج لكنه زائف ! إنما حقيقةْ ذاته, ثمينةٍ كانت أو بخسة , هي شيءَ في داخله, شيءَ منه, صنيعْ يديه ونتاج قلبه. افعل , افعل وسترى كم انه ممتن لك, يرمقك كأنك طوقْ النجاة ورحمة السماء تنزلت على جناح ملاكُ منير. أو أنك زهرةْ نرجسُ شهمةُ كريمة في وادي السماء المْعلق الكثيف, أو قطعةَ من القمر جاءته على كنف ضبابةُ نقية وفي كل مرة يلقاك, يملئ راحتيه المحرومتين بشذرات ضبابك الدافئ, وينغمر.
صدقني يا صديقي, املأ القلوبِ الفارغة قبل الأيدي الفارغة منها, واستر الارواحِ العارية قبل أجسادها وعالج فيافي الروح قبل علاجك البدن. فأبشع ما لا يْحتمل في هذا الكون المْكتظ, هو قلبَ فارغَ وحيد, صندوقه خاوُ, وصناديق القلب الخاوية ثقيلة, يملؤها الشقاء ! مناغاةْ الأرواح والقلوب, وبوحَ بالحب والانتماء والاكتراث, و جسرَ من صوتك الجليدي الناعم غير المنقطع, لصديقُ أو حبيبُ أو يتيم, هو أسمى ما قد يكون بينكما ! هو ترانيمْ وصالُ قْدسية كموسيقى زرقاءُ رقراقه. و جذوة دفئُ عشقية من نورُ وفراشُ ذائب. و مهدَ ودودَ آمن وجميلْ صنيعُ لا يموت.

قد يعجبك ايضا