بكيل المير وحرض.. عودة إلى الأرض

جهود مجتمعية.. صنعت من الجراح أملاً جديداً

 

 

إلى وديان وهضاب أثقلت ظلال الخوف والتوجس كاهل إنسانها والأرض، حتى قيل إن من يقوم بزيارتها، لا يعود.. كثيرة هي قصص الرعب التي خلفتها قذائف وطائرات التي ظل، على مدى 9 سنوات، تتعقب كل حركة، لتصنع أمواجًا من الألم والخراب.
في رحلتنا إلى بكيل المير وحرض، رافقنا منسق مؤسسة بنيان التنموية لمربع عاهم، أحمد المؤيد، وأثناء عبور الطريق من وسط وادي مستبأ إلى بكيل المير، أوضح أن مديريتَي بكيل المير وحرض من مديريات محافظة حجة الواقعة خلف خط التماس مع العدو، تعرضتا خلال العدوان السعودي الإماراتي، وعلى مدى 9 سنوات، لتدمير شامل، طال البشر والشجر والحجر، مما أدى إلى نزوح أكثر من 120 ألف من سكانهما إلى مناطق أخرى.
وصف الأضرار بالكارثة المأساوية خصوصًا أنها طالت ممتلكات المواطنين من الأراضي الزراعية، والمواشي المصدر الأساسي لمعيشتهم… دمرت منازلهم، قتلت مواشيهم، تشردوا من منازلهم وقراهم، وما يقارب 20 ألف هكتار من الأراضي تحولت إلى أراضي صالبة، وغابات تحتلها شجرة السيسبان الأمريكية التي تمتص المياه ولا فائدة منها سوى أنها شجرة أنانية تقضي على كل ما ينبت بجوارها من نبات أو أعشاب أو أشجار مفيدة.
توجسات الخيال ظلت تلاحقنا بمشاهد شتى، من مظاهر الموت والفوضى، حتى انقطع صوت (المؤيد) عن السرد، بالقول: نحن الآن في خارطة بكيل المير وحرض، صار علينا أن نستطلع بأم أعيننا مبشرات النبأ اليقين.

الثورة / يحيى الربيعي

مأساة النزوح
وعند نقطة توقف أعدت لاستراحتنا، كان في استقبالنا رئيس جمعية بكيل المير التعاونية الزراعية، حسين أبو عبدل، وهناك استمعنا إلى قصة المزارع العائد (علي محمد العبدلي- 50 عامًا، من أهلي عزلة القطن) مع النزوح، والتي قال فيها: في مناطق النزوح، اعتمد النازحون على فتات ما كانت تقدمه المنظمات من سلال غذائية. إغاثة سرعان ما أخذت تتناقص رويدًا رويدًا حتى انقطعت.
عندها باعوا كل ما يملكون على أمل البقاء على قيد الحياة تحت ظلال الخيام. اشتدت الظروف وضاقت الأحوال، فكروا في طريق العودة إلى الأرض، لكنهم تذكروا أن قراهم وأراضيهم غير قابلة للعيش، فلم يترك فيها طيران العدوان شيئا من مقومات الحياة إلا وطاله بقصف حاقد، دمر كل ما له صلة بالحياة.. لم يكتف بإزهاق الأرواح، بل تسبب في خلق معاناة كبيرة لا يزال الناس يعانون منها حتى الآن… أضف إلى ذلك، ألم الشعور بالإحباط نتيجة عدم توفر الإمكانيات لإعادة الحياة إلى قراهم، واستصلاح أراضيهم الزراعية. (ولزم الصمت؟).
روح الصمود
في صباح اليوم الثاني، كنا على موعد لنقلنا إلى أرض الواقع؛ حيث المبادرات. وهناك، وعلى مدى أربعة أيام، طفنا نكتشف واقعًا مشرقًا من مظاهر حياة تصنع بإرادة صلبة رغم شحة الإمكانيات، واقع بدأت معه سحابة نظرة التشاؤم تتلاشى لتشع أملًا من هنا وهناك… مظاهر، وإن كانت تتسلح بالحذر والحيطة من موتٍ يتربص نتيجة احتمالات عودة عدوان الشر، إلا أنها، وفي خضم الصعوبات والمعوقات، عبرت عن صلابة قلوب تنبض بالنشاط والإصرار، لتؤكد حقيقة أن العمل بروح التعاون قادر على النهوض بالواقع وبدء صفحة جديدة من التنمية المستدامة، تجسد روح الصمود جمالها!
ما وجدناه واقعًا ملموسًا، هي أفعال سبقت الأقوال واستحقت أن توصف بأنها علامات لنهوض تنموي يحبو إلى القمة… نهوض صنع ببساطة الأدوات ونقاء عزيمة أياد سمراء حاصلة على شهادة خبرة «ما حملته أكتاف الرجال خف».
وجدنا إرادة أبناء بكيل المير وحرض تقهر التحديات… رأينا إرادة فولاذية تأبى الاستسلام… إرادة رجال عزموا على إعادة بناء ما دمرته آلة الحرب واستصلاح الأراضي القاحلة، فمضوا على حرث قادرين!
في وسط المأساة، خاض فرسان التنمية والجمعية التعاونية بقيادة الشيخ التنموي علي العبدلي والخيرين من أبناء المديريتين بمساندة السلطات المحلية وشركاء التنمية معركة جبارة لاستنهاض الطاقات وبعث روح المبادرة منها، بالإمكانيات المتاحة، بدأت رحلة «عودتنا إلى الأرض»، (عبارة ترددت على ألسنة كل من وجدناه على قارعة الطريق أو في مزارعته من أبناء بكيل وحرض).
ويضيف: الحمد لله، بعد أن تعاون أبناء المجتمع فيما بينهم، وقدموا كل ما هو متاح وممكن من الجهد والإمكانات لتعزيز الاستقرار وإنعاش الحياة من جديد، عاد النازحون إلى أراضيهم عقب استصلاحها وبناء ما تدمر من منازلهم، عادت الابتسامة إلى وجوه أسرهم.. زرعنا وحصدنا، وأصبح أقل واحد منا يملك ما يكفي أسرته لعام كامل من الحبوب والأعلاف.
البحث عن الحل
أدركنا، حينها، أننا أمام معجزة بزوغ أمل. معجزة هيأنا عدسة الكاميرا لتوثيقها مشاهد حية لخطوات فيلم استعادة الوجود، يسرد تفاصيل حكايته عضو مجلس النواب، الشيخ التنموي، علي العبدلي، في ثنايا السطور التالية:
أمام كارثة بهذا الحجم – ويشير إلى ما سمعناه معًا عن مأساة النزوح – بات على الجميع تحمل المسؤولية في البحث عن حل… وبتوفيق من الله القائل: «واتقوا الله ويعلمكم الله»، عقدت مؤسسة بنيان التنموية ورشة حول أساسات العمل الطوعي والمبادرات المجتمعية، لمجموعة من شباب المديريتين… حضرناها، واستمعنا إلى نور الهدى… حثتنا موجهات القيادة الثورية والسياسية إلى الاهتمام بإنعاش روح التعاون والتكاتف وتفعيل المتاح من الطاقات والإمكانات في إطلاق المبادرات المجتمعية.
منها بدأنا التحرك مع الشباب بالنزول إلى أوساط المجتمع في المديرية وفي مخيمات النزوح. وجدنا أبناء المجتمع يعانون معاناة كبيرة أمام الدولة التي لا تمتلك ما ترفع به المعاناة عنهم، بسبب العدوان والحصار.
على الرغم من ذلك، عقدنا جلسات التوعية والتحفيز والتحشيد، وكان لذلك أثر كبير؛ فقد أسفرت الجهود عن استنهاض روح التعاون والتكاتف لإطلاق المبادرات المجتمعية لاستصلاح الأراضي الزراعية وزراعتها.
تفعيل المتاح
بدأنا بحصر الآلات والمعدات الموجودة، ومن ثم العمل على تفعيلها وإصلاح ما يحتاج منها إلى إصلاح. وفرنا حوالي 15 معدة ما بين 4 شيولات و8 دركتلات و3 حراثات. وكي نضمن نجاح سير العمل بشكل منظم ومستمر، قام كل شيخ بضمانة أهالي قريته، ونحن بدورنا ضمنا المشايخ عند مالكي المعدات. وبروحية تعاونية توكلنا على الله، ووفرنا قرابة 30 ألف لتر من الديزل.
المبادرة والمساندة
حانت ساعة الصفر. المعنويات عالية.. الجميع وضع ثقته في الله. وبعون الله وتوفيقه، تضافرت الجهود، وبدأ الناس في استصلاح أراضيهم الزراعية.
عملت فرق المبادرات على مدار الساعة، وتم استغلال كل لحظة وكل إمكانية متاحة حتى تم انتزاع الأراضي الزراعية من سيطرة أشجار السيسبان واستعادة هويتها كحقول زراعية تجود بأصناف الذرة الرفيعة والدجرة.
تواصلنا باللجنة الزراعية والسمكية العليا والسلطة المحلية في المحافظة، وزارنا السيد إبراهيم المداني رئيس اللجنة والمحافظ هلال الصوفي، وبادروا إلى مساندة المبادرات المجتمعية عبر جمعية بكيل المير التعاونية الزراعية متعددة الأغراض، رائدة العمل التنموي في مديريتي بكيل وحرض بـ 100 ألف لتر كدفعة أولى.
وهناك دفعة ثانية بـ 100 ألف لتر لاستكمال استصلاح الأراضي وبناء السدود والحواجز المائية، بالإضافة إلى مساهمة وحدة البذور باللجنة الزراعية في توفير احتياج مرحلة الاستصلاح الأولى من البذور.
الجميع عمل بجد؛ كبار السن والأطفال والنساء قبل الشباب، شاركوا الرجال وذوي الخبرات والآلات والمعدات في تنفيذ الأعمال البسيطة، روح التعاون والتكاتف ملأت الأجواء، وبات الجميع يشعر بالفخر بما يحققونه.
بدأت مظاهر الحياة الطبيعية تعود تدريجيًا إلى بكيل المير وحرض، لكن التحديات لم تنتهِ بعد، كان هناك نقص في المشتقات والمعدات، وكان على المجتمع أن يتكاتف أكثر لمواجهة هذه الصعوبات.
وبالتضافر وتكامل الجهود الرسمية مع جهود وإمكانات أبناء المجتمع، أقرض من يملك منهم لا يملكون جزءًا من مواشيه، وأصبح الناس يأكلون من خيرات أراضيهم، ولديهم أعلاف لمواشيهم.. نستطيع القول إن أبناء المجتمع في بكيل المير وحرض باتوا يتعاونون فيما بينهم ويقدمون ما يستطيعون لتنمية مناطقهم.
على نطاق واسع
بدأ العمل في استصلاح الأراضي وإزالة الأضرار بشكل أكبر في مناطق كثيرة ومتفرقة على امتداد جغرافيا المديرتين حرصنا، في المرحلة الأولى، على توزيع العمل على المناطق كلها مع الأخذ بعين الاعتبار المناطق الأكثر ضررًا، ومراعاة مواسم الزراعة في كل منطقة، حتى يتمكن أبناء كل منطقة من اللحاق بالزراعة في الموسم الزراعي المناسب.
قطعنا شوطًا كبيرًا في استصلاح الأراضي الزراعية التي دمرها العدوان، أنجزنا حوالي 50-60 في المائة من المساحة، وما تبقى جاري العمل على إنجازه.
كما بدأنا مرحلة ثانية، مرحلة مبادرات بناء وتشييد سدود وحواجز وكرفانات وبرك حصاد المياه، وكذا إعادة تأهيل عقوم التغذية من حواف الوديان. نفذنا عددًا من الحواجز الترابية في مختلف مناطق المديريتين.. وتعد مبادرة سد النهضة أول مبادرة حاجز ترابي من المتوقع أن يسقي مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية ويغذي الكثير من الآبار المائية في المنطقة.
خدمات وتمكين
كما أننا لم نغفل الخدمات من مبادرات ترميم/ إعادة بناء منازل النازحين وتهيئة كافة الظروف لعودتهم إلى أراضيهم من مرافق التعليم والصحة، والطرق وحتى الكهرباء… نماذج حية لخطى ثابتة، يحرك ويقود عجلتها العمل التعاوني المجتمعي الطوعي.
مبادرات تمول بجهود وإمكانيات مجتمعية خالصة، تسندها رعاية رسمية بالإدارة والإشراف والدعم الفني والمتاح من الإمكانيات المادية.. مبادرة المدرسة، وإلى جوارها مبادرة الوحدة الصحية، وهناك 3 مواطير عملاقة جاهزة، لا ينقصها سوى مد الشبكة إلى منازل المواطنين من كابلات وأعمدة وفريق كهربائي. وبعون الله، ومن ثم دعم الخيرين في الحكومة والمجتمع، سيتم ربطها عما قريب.
وعلى مسار التمكين الاقتصادي للمزارعين، الجمعية بصدد استلام وتوزيع عدد 200 منظمة طاقة شمسية قروض حسنة مقدمة من وحدة تمويل المشاريع والمبادرات المجتمعية للمزارعين، دفعة أولى تليها دفعات، هذا إلى جانب مشاريع القروض المجتمعية، المتمثلة في توزيع 200 رأس من البقر والأغنام، بالإضافة إلى 1000 عود نحل، وذلك لمساعدة أبناء المديريتين على تكوين مشاريعهم الصغيرة التي من شأنها تحسين ظروفهم المعيشية.
القدوة الحسنة
في الختام، علينا جميعًا (حكومة- مجتمع) أن نستثمر ما أنعم الله على هذه البلاد من نعمة القيادة الربانية الحكيمة، ممثلة بسماحة قائد المسيرة القرآنية السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي – يحفظه الله – وأن تنزل القيادات إلى أوساط المجتمع تحفزه وتحشد طاقاته وتشاركه بالمتاح من الدعم الفني والمادي.
من واجب كل مسؤول أن يمثل القدوة الحسنة في تنفيذ وصية الإمام علي عليه السلام في إدارة شؤون الأمة من خلال «جهاد أعدائها وجباية إخراجها واستصلاح أهلها». وكما أن الجميع مسؤول عن الجهاد في الجبهة العسكرية، فالمسؤولية أكبر على عاتق الجميع في النهوض بالجبهة التنموية، في امتداد طبيعي لمسار ما يتحقق من انتصارات في الجبهة العسكرية.

قد يعجبك ايضا