قيام القوات المسلحة اليمنية بقصف “تل أبيب” بطائرة يافا، لم يكن حدثاً عابراً أو عادياً، بل شكّل حال ذهول وصدمة مدوّية وصاعقة مفاجئة في “إسرائيل”، وأدخل المواجهة بداية مرحلة جديدة وخطيرة في مراحلها المستمرة منذ عشرة أشهر بين “إسرائيل” وجبهات الإسناد والمشاركة بدعم الشعب الفلسطيني ومقاومته في معركة طوفان الأقصى، هذه المعركة التي قلبت موازين المنطقة وثبّتت معادلات ردع ورعب جديدة، ليس في فلسطين أو غزة من خلال التأثّر والتأثير فحسب، بل على مستوى الإقليم بأكمله.
ماذا يعني أن تضرب اليمن “إسرائيل” بسلاح الطائرات المسيّرة في عقر دارها؟ سؤال تردّد كثيراً مع إعلان يحيى سريع المتحدّث الرسمي باسم القوات المسلحة اليمنية نبأ قصف “تل أبيب”، ونجاح الطائرة المسيّرة بقطع مسافة تتجاوز ألفي كيلومتر من دون نجاح الرادارات في كشفها أو اعتراضها.
ارتدادات هذه العملية كبيرة على الصعيد الاستراتيجي ولن تكون سهلة بالمطلق على المستويات كافة، سواء السياسية أو الأمنية وحتى العسكرية في “إسرائيل” التي كانت تتباهى بامتلاكها سلاح التفوّق الجوي وفرضت توازناً عسكرياً في يوم ما، أصبحت اليوم ساحة رماية تتلقّى الضربات من كلّ أطراف محور المقاومة، عاجزة في الدفاع عن أمنها، فبات التفوّق الجوي في “إسرائيل” في خبر كان، بعدما تهشّمت قوة الردع الإسرائيلية التي تهاوت على مدى عشرة أشهر من المواجهة أحدثتها ضربات المقاومتين الفلسطينية واللبنانية في الجبهتين الجنوبية والشمالية.
قدرة القوات المسلحة اليمنية على الوصول بطائرة مسيّرة وقصف “تل أبيب” تعدّ ضربة نوعية أولى، وفي تقديري لن تكون الأخيرة وهذا ما أعلنت عنه بشكل صريح، وعليه إذا أردنا قراءة ما أحدثته هذه العملية النوعية فأستطيع الجزم أنها أحدثت زلزالاً وإرباكاً في المنطقة عموماً، وفي “إسرائيل” خصوصاً ومن خلفها أمريكا التي أعلنت أنها تصدّت لأربع مسيّرات في الوقت ذاته، وكسرت كلّ قواعد الاشتباك التي أمّنت لها منذ سنوات القدرة على التصدّي وتحييد هذا النوع من السلاح، وفتحت الباب لشكل مواجهة أوسع في جبهات أخرى من شأنها أن تشلّ “إسرائيل” فوق شللها في مختلف النواحي السياسية والأمنية والعسكرية.
نجحت عملية قصف الطائرة المسيّرة في تقويض القدرة الإسرائيلية على فتح مواجهة واسعة متعدّدة الساحات، وقيّدتها بردّ محدود لترميم صورتها التي تآكلت كلياً، في وقت باتت تعيش فيه حرب استنزاف متواصلة على مدى عشرة أشهر، غير قادرة على الخلاص منها.
استطاعت القوات المسلحة اليمنية توجيه رسائل مهمة في هذا السياق، وأثبتت أنها قادرة ومعها كلّ قوى محور المقاومة على نقل ساحة المواجهة إلى العمق الإسرائيلي في “تل أبيب” وما بعدها، والتي كانت قد سجّلت فيها حركة حماس وقوى المقاومة أحداثاً نوعية مع بداية معركة طوفان الأقصى في إطلاق رشقات صاروخية موجّهة من العيار الثقيل، استهدفت وضربت عمق “تل أبيب”.
بعثت القوات المسلحة اليمنية رسالة مهمة لرأس الأفعى أمريكا الداعم الرئيسي لـ “إسرائيل” في هذه الحرب، رسالة نار مفادها أنّ المعادلات تغيّرت ويتوجّب أخذ ذلك بعين الاعتبار، وأنّ فوّهة النار ستفتح أكثر في البحر وعلى العمق الإسرائيلي أكثر إذا ما فكّرت بتوسيع نطاق المعركة، وهو الموقف ذاته الذي صدر بعد قيام “إسرائيل” بالردّ وقصف ميناء الحديدية في اليمن.
شكّلت عملية قصف “تل أبيب” رسالة ضغط مباشرة على نتنياهو وكلّ من يعطّل إبرام صفقة تبادل للأسرى ووقف العدوان على غزة، بأنّ الخيارات الأخرى ستكون مكلفة للجميع حال لم يتمّ لجم “إسرائيل”، وأنّ الرسالة الأهم التي تقرأ في هذا السياق، أنّ البديل عن استمرار القتل والإبادة في غزة سيكون مزيداً من الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة التي ستفرض حلاً على نتنياهو.
ثمّة رسالة مهمة أخرى تسجّل في هذا السياق لكلّ الأطراف الحريصة على أمن “إسرائيل”، أنّ هناك عناصر لقوى فاعلة في المنطقة أصبحوا لاعبين أساسيين ويملكون من القوة والتأثير ما يفوق حال العجز والخذلان الذي يسيطر على الجيوش العربية الرسمية ووقوفها موقف المتفرّج أمام جرائم “إسرائيل” في غزة.
وصول مسيّرة أنصار الله “تل أبيب” ستشكّل انعطافة في الحرب، والتصعيد في المنطقة سيأخذ أشكالاً جديدة متصاعدة، مرحلة عنوانها “إسرائيل” لم تعد آمنة وسماء “تل أبيب” لن تعود صافيةً، وعملية كهذه ورغم الردّ الإسرائيلي إلا أنها ستغيّر الكثير من قواعد الاشتباك والمواجهة وتعيد حسابات كثيرة لأطراف في المنطقة، في ظلّ استحضار “إسرائيل” سيناريو الحرب الكبرى، في وقت أشارت فيه أوساط إسرائيلية إلى أنه في اللحظة التي تتدحرج فيها الأحداث إلى حرب كبرى فإنّ “إسرائيل” عرضة لتلقّي ضربات غير مسبوقة، ستشمل أكثر من خمسة آلاف طائرة مسيّرة وصواريخ متعددة الأنواع ستحوّل “إسرائيل” إلى جحيم حقيقي إلى جانب الحصار البحري، وكما تشير الأوساط ذاتها إلى أنه من الصعب على “إسرائيل” بعد حرب مستمرة لمدة اقتربت على العام أن تخوض حرباً كبيرة متعدّدة الجبهات، في وقت باتت متضرّرة من جميع النواحي.
القوات المسلحة اليمنية سجّلت جبهة إسناد مهمة إلى جانب الجبهة التي يقودها حزب الله في الشمال، وصفحة مشرّفة من صفحات عزّ وبطولة في تاريخ هذه المعركة، وهي مستمرة في فرض حصار بحري على كلّ مصالح “إسرائيل” في البحر الأحمر، تطوّر من أدواتها وأدائها وتلوّح بالمزيد في وقت فقدت فيه “إسرائيل” قوة الردع في الجنوب مع غزة وفي الشمال مع لبنان، وها هي تفقد الردع مع اليمن في قلب “تل أبيب” بعدما كسَرَ قواعد الاشتباك ورفع من إيقاع المواجهة درجة.
فشل إسرائيلي عسكري كبير يضاف إلى فشل السابع من أكتوبر. وهذا ما يوصلنا إلى نتيجة واحدة مفادها أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء وأنّ زمن “انتصار إسرائيل” ولّى وإلى الأبد.
*كاتب ومحلل سياسي فلسطيني