صوَّت برلمان كيان الاحتلال (الكنيست)، الخميس 18 يوليو 2024، بالأغلبية على مشروع قرار يرفض إقامة أي دولة فلسطينية في غرب نهر الأردن.
جاء في نص القرار أن دولة كهذه ستشكِّل “خطراً وجودياً على دولة إسرائيل ومواطنيها”، وقد حظي القرار بتأييد 68 عضواً في “الكنيست” من أصل 120، إذ صوّت لصالح القرار الائتلاف الحكومي والمعارضة في الكيان على حدٍ سواء، بينما صوّت تسعة أعضاء فقط برفض القرار، مع تغيُّب الباقين عن التصويت، وبذلك يعلن الكيان بصورة رسمية ونهائية وفات مشروع “أوسلو”، فلماذا في هذا التوقيت؟ وفي أي سياق يمكن وضع هذه الخطوة في ظل تطورات طوفان الأقصى؟
لم يكن مفاجئاً إعلان الكيان صراحةً عن نهاية مرحلة “أوسلو”، فمقدّمات وصول خديعة عملية “الأرض مقابل السلام” إلى منتهاها قد تجلّت منذ حين، إذ لطالما أكّدت أفعال الكيان المؤقت كونه احتلالاً اجتثاثياً إحلالياً، فكانت مضاعفة الاستيطان، وتصريحات مسؤولي الكيان المتكرّرة عن نيّتهم ضمّ أراضي الضفة، وإقرار الكنيست قانون “الدولة القومية”، أو ما بات يسمّى “قانون يهودية الدولة”، قبل ستة أعوام بالضبط من قرار الكنيست الأخير، ذاك القانون الذي ينص على أن “إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي”، وأنّ حقّ تقرير المصير فيها “يخصّ الشعب اليهودي فقط”، والذي يهدّد بقاء فلسطينيّ 1948 في أرضهم، كانت هذه كلها شواهد على طبيعة المشروع الصهيوني وأصل تكوينه الذي لا يمكن التعايش معه، وكانت تؤذن بقرب نهاية حقبة “أوسلو”.
لكنّ مجيء طوفان الأقصى قد سرّع في إنهاء مسارات إقليمية كانت تترنّح، وفتح مسارات أخرى، فقام بنقل المنطقة إلى وضع استراتيجي جديد، هذا الوضع الذي كان آتياً لا محالة، فاستحقاقات تبدُّل موازين القوى الإقليمية في العقدين الماضيين، ووضع الجغرافيا السياسية
المستجد عالمياً في ظل عملية تَشكُّل عالم ما بعد الأحادية القطبية، الذي نجَمت عنه حالة سيولة دولية وعدم وجود ضابط إيقاع للأحداث العالمية، كانت جميع هذه العوامل تنذر بانفجار إقليمي آتٍ، فأحسنت كتائب القسام باستغلال اللحظة التاريخية الراهنة، وأخذ زمام المبادرة، وإطلاق الطوفان الذي يعدّ بداية معركة التحرير واقتلاع الكيان الغاصب.
يدرك العدو هذه الحقائق عن طوفان الأقصى وأبعاده، وقد تجلّى هذا الإدراك في تصريحات مسؤوليه، وعلى رأسها تصريح نتنياهو الذي قال فيه مطلع الحرب بأنّ الكيان يخوض “حرب الاستقلال الثانية” بحسب تعبيره.
لذا فإن هذه الحرب تعدّ حرباً صفريةً، ولا تقبل القسمة على اثنين، فإما غالب أو مغلوب، ذلك بمعزل عن تفاصيلها اليومية، والمدى الزمني الذي ستتّخذه، والمنعطفات التي ستمر بها، سواء أكان في ارتفاع حدّة المعارك أم انخفاضها، حتى حسم أحد المعسكرين المتقابلين للمعركة.
يأتي إفصاح الكيان عما كان دوماً يضمره ضمن هذا السياق، وضمن إدراك العدو لطبيعة المرحلة المستجدّة ومقتضياتها، إذ لم يكن يوماً في قاموسه ولا في معتقده وجودٌ لدولة فلسطينية أو شعب فلسطيني، فهدفه الحقيقي ينحصر في استكمال احتلال أراضي فلسطين وتهجير سكانها، بمن فيهم سكان الأراضي المحتلة عام 1948، والمعركة الراهنة لا تحتمل الخداع السياسي على نسق “أوسلو” وأكذوبة “الأرض مقابل السلام”، فحصيلتها الميدانية هي وحدها التي سترسم مستقبل المنطقة.
وما قرار الكنيست الأخير إلا رسمٌ لحدود المعركة الراهنة وأهدافها أمام جمهور المستوطنين من وجهة نظر الكيان الغاصب، وأيضاً أمام شركاء الكيان الغربيين في جريمة الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، فكلاهما متفقان على النتيجة النهائية التي يمنّون أنفسهم بها، لكن الخلاف على التكتيك بين استمرار الخداع السياسي على الطريقة الأمريكية، وبين وجهة نظر الكيان التي لا ترى في استمرار هذا الخداع أداةً تتناسب وحجم التحديات الوجودية التي باتت تواجهه، والتي بحسب قراءة قوى محور المقاومة هي قابلةٌ لتحويلها من مجرد تهديداتٍ وجوديةٍ نظرياً إلى إنجازات ميدانية فعلية، تنتهي بالزوال المحتوم لهذا الكيان الذي لا يعدو وجوده إلا طفرةً تاريخيةً في عمْر الأمّة العربية والإسلامية.
تتبع استراتيجية التصعيد التدريجي التي ينتهجها محور المقاومة في إدارة الحرب، التي كان آخرها رفع مستوى المواجهة لمرحلة جديدة أكبر وأعلى، والتي جاءت من خلال قصف القوات المسلّحة اليمنية منطقة يافا المحتلة – منطقة “غوش دان” و”تل أبيب” بحسب مسمّى الاحتلال – باستخدام محلّقة هجومية باسم “يافا”، والتي جاءت استجابةً لتعنّت نتنياهو وحكومته في رفض التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق نار يلبّي شروط كتائب القسام والشعب الفلسطيني، وردّاً على المجازر المروّعة الأخيرة التي اقترفها العدو بحقّ مناطق النازحين المدنيين في قطاع غزة.
إن تتبّع سياق المعارك وتصاعدها يقول بأن محور المقاومة جادٌ في منع الكيان من تحقيق نصر عسكري، وأنه مصمم على الوفاء بالالتزام الذي تعهّد به الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في بداية الطوفان بمنع هزيمة المقاومة الفلسطينية، وبأن تخرج المقاومة الفلسطينية، وتحديداً حركة حماس، منتصرةً في هذه الجولة.
تعمل أركان محور المقاومة بشكلٍ منسّقٍ وموحّدٍ في معركة الأمّة المصيرية الحالية، في تجسيدٍ لمعاني وحدة الأمّة، وقد كان متوقعاً في الأيام القليلة الماضية أن تشهد الحرب تصعيداً ما من قبل إحدى جبهات الإسناد، فقد بات واضحاً بأنه من دون أن تبدأ جبهة العدو الداخلية بدفع أثمان ملموسة من جراء استمرار المعارك، فإن حكومة الاحتلال مستمرة بالتعنّت ورفض إيقاف المجازر.
إن قرار الكنيست الأخير برفض إقامة دولة فلسطينية ينقل المنطقة إلى مرحلة سياسية مختلفة، بينما تصعيد جبهة اليمن ينقلها إلى مرحلة مختلفة من الناحية العسكرية، فالحرب تدور على مستوى الإقليم سياسياً وعسكرياً، وخطوة القوات المسلّحة اليمنية الأخيرة تقرّب من احتمالات الحرب الشاملة إذا لم يرتدع العدو. وقد كان واضحاً من خطابات الأمين العام لحزب الله خلال عاشوراء بأن قوى المقاومة تدرك طبيعة الحرب الدائرة وأبعادها الاستراتيجية، وبأنّها حاضرةٌ لكلّ الاحتمالات في سبيل تحقيق النصر، وهذا ما عبّر عنه بكلّ بلاغة شعار عاشوراء “ألسنا على الحق”.
كاتب وباحث فلسطيني