للمرة الأولى في التاريخ ينتظر العالم قرارات استثنائية مؤقتة يتوقع أن تصدرها محكمة العدل الدولية في لاهاي في إطار خطوات المرحلة الأولى من إجراءات التقاضي في الدعوى التي قدمتها جمهورية جنوب أفريقيا للمحكمة الدولية ضد الكيان الإسرائيلي بارتكاب جرائم إبادة جماعية، في خطوة قد تُرغم حكومة الكيان على وقف مجازرها بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وسط ضغوط دولية تسعى لكبح هذا القرار.
الثورة / أبو بكر عبدالله
تبدو محكمة العدل الدولية المعنيّة بالنظر في النزاعات بين الدول المستقلة أمام امتحان صعب حول قدرتها والمنظمة الدولية على تجاوز الضغوط السياسية وإنفاذ القانون الدولي تجاه الدعوى المقدمة ضد إسرائيل بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، والتي تحوّلت إلى قضية رأي عام عالمي محاطة بقدر هائل من الحساسية القانونية والأخلاقية.
حتى الآن تذهب التقديرات القانونية إلى إمكانية أن تحقق جنوب أفريقيا نجاحاً بصدور قرار ملزم ضد دولة الكيان من أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة يشمل إجراءات طارئة بوقف فوري للحرب الهمجية الإسرائيلية في غزة كخطوة أولى على طريق طويل يسعى لإدانة إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة.
ورغم أن حكومة الكيان وافقت على المثول أمام المحكمة لنفي الاتهامات الواردة في الدعوى دون حساب للنتائج، إلا أن المخاوف برزت بقوة بداخل حكومة الكيان من مخاطر أن توجه محكمة العدل الدولية اتهامات إليها بارتكاب جرائم إبادة وهي التهمة التي قد تعرّض الكيان الإسرائيلي لعقوبات دولية في حال رفضها الخضوع لقرارات المحكمة.
وعلى أن الدعوى التي قدمتها جوهانسبرغ ضد إسرائيل أزعجت الحلفاء الدوليين للكيان، إلا أنها لاقت دعماً وتأييداً من دول كثيرة مثل اندونيسيا وماليزيا وتركيا والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي التي تمثل 57 دولة فضلاً عن دول غربية أخرى كلها رأت أن الالتزام الدولي بمبادئ اتفاقيات جنيف واتفاقية منع الإبادة الجماعية صار اليوم موضع اختبار وتدقيق عالمي.
بيان الاتهام
في دعواها المرفوعة أمام المحكمة الدولية، اتهمت جنوب أفريقيا إسرائيل بارتكاب “أعمال إبادة” بحق الفلسطينيين في غزة من خلال أفعال محددة قصدت تدمير الفلسطينيين كمجموعة قومية وعنصرية وإثنية، ما شكّل انتهاكاً لاتفاقية منع جرائم الإبادة والتي تعرف هذه الجرائم بأنها “أفعال مرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية”.
تضمنت الدعوى التي استندت إلى الاتفاقية الموقعة في العام 1948 أربع تهم يتصدرها ارتكاب اسرائيل الإبادة الجماعية، بقتل أكثر من 23 ألف فلسطيني، والتسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لعدد كبير من سكان قطاع غزة ناهز 50 ألف فلسطيني بما خلفته من معاناة إنسانية طاولت مئات الآلاف من سكان القطاع.
واتهمت الدعوى المؤلفة من 84 صفحة إسرائيل بالتعمد في إخضاع الأفراد لأوضاع معيشية تدمرهم كلياً أو جزئياً، وهي التهمة التي تم توثيقها بإعلان مسؤولين إسرائيليين منع الطعام والماء والإمدادات الطبية والوقود عن سكان القطاع والدعوة لتحويل غزة إلى معسكر اعتقال، فضلاً عن فرض حكومة الكيان تدابير لمنع الولادات وتدمير المشافي وقتل الأطباء واستهدفت سيارات الإسعاف بشكل متعمد، كما لفتت إلى إخفاق الكيان في تقديم الأغذية الأساسية والمياه والأدوية والوقود، وتوفير الملاجئ والمساعدات الإنسانية الأخرى لسكان القطاع.
خلال الجلسات قدّم فريق الدفاع الجنوب افريقي الذي ضم خبراء في القانون الدولي برئاسة المحامية من أصول يمنية عديلة هاشم محمد المشرقي، مرافعات مشفوعة بالأدلة، أكدت أن الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي دمر مساحات واسعة من القطاع الساحلي الضيق وقتل أكثر من 23 ألف فلسطيني بهدف “القضاء على السكان” ما عزز هدف الدعوى باعتبار كل الممارسات الصهيونية في غزة جرائم إبادة.
دفاع مضطرب
في مقابل التهم والأدلة المقدمة من جنوب افريقيا حاول فريق الدفاع الإسرائيلي هدم الأركان التي تقوم عليها دعوى جرائم الإبادة، إذ أكد إن جيش الاحتلال لم ينتهك القوانين الإنسانية وقوانين الحرب وأن تحقيقا إسرائيلياً سيجري للتحقيق في هذه الادعاءات نافياً أن يكون لدى الجيش الإسرائيلي أي نيات لتنفيذ جرائم إبادة جماعية، أو احتلال غزة بشكل دائم أو تهجير سكانها المدنيين.
استنادا إلى ذلك رفضت إسرائيل اتهامها بارتكاب جرائم إبادة بحق الفلسطينيين ودعت قضاة المحكمة إلى رفض طلب جنوب أفريقيا المتعلق بوقف هجومها على قطاع غزة الفلسطيني، كون ذلك سيمنعها من الدفاع عن نفسها وطعنت بالأسباب الشكلية للدعوى لعدم توفر شروطها.
ومنذ جلسة الاستماع التي قدم فيها الدفاع الإسرائيلي مرافعاته واضحاً أن الحجج الإسرائيلية ضعيفة، كونها تعارضت مع ما يجري على الأرض، حيث سقط أكثر من 30 ألف قتيل و70 ألف جريح خلال ثلاثة أشهر في نتائج بدت مذهلة إن تم مقارنتها مع نتائج عامين من الحرب المندلعة في اوكرانيا.
ولم يستطع الدفاع الاسرائيلي تبرير سقوط العدد الكبير من الضحايا، والذي يعدّ قرينة قوية على وجود نية للإبادة جماعية واكتفوا بعرض الصور التي كان عرضها جيش الاحتلال الإسرائيلي لترويج مزاعمه حول استغلال حماس للمستشفيات والمرافق المدنية في حين أن حجة “الدفاع عن النفس” كانت ضعيفة أيضا باعتبار أن إسرائيل هي المحتل وتقوم بممارساتها ضد شعب محتل ما يفقدها حق الدفاع عن النفس بموجب القانون الدولي والمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
خسارة مبكرة
هذه المرة هي الأولى التي تخضع فيها حكومة الكيان للمساءلة والاتهام أمام المحكمة الدولية في واحدة من أكثر القضايا التي أثارت ردود فعل ساخطة ضد إسرائيل ومتضامنة مع الشعب الفلسطيني.
ومنذ الجولة الأولى بدت إسرائيل قد خسرت القضية، فجنوب أفريقيا وفريقها القانوني قدموا ما يكفي للحصول على قرار ينهي مجازر الحرب التي يرتكبها الاحتلال في غزة، في الوقت الذي فشل فيه فريق الدفاع الإسرائيلي في إسقاط الدعوى أو التشكيك في الأدلة المقدمة وبالتالي إسقاط المطالب العاجلة التي تضمنتها الدعوى بوقف فوري للمجازر الوحشية في القطاع.
ذلك أن الدعوى المقدمة من جوهانسبرغ كانت استعجالية واستندت إلى نص المادة 41 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية التي تنص على أنه: ” يكون للمحكمة سلطة أن تبيّن، إذا رأت أن الظروف تتطلّب ذلك، أي تدابير مؤقتة ينبغي اتخاذها للحفاظ على الحقوق الخاصة بأي من الطرفَين. ريثما يتم اتخاذ القرار النهائي يجب على الفور إبلاغ الأطراف ومجلس الأمن بالتدابير المقترحة”.
والتدابير المؤقتة المطالب بها تكمن في إصدار قرار بوقف الحرب الإسرائيلية في غزة فوراً، على اعتبار أن استمرار هذه الأعمال سيؤدي إلى سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين بمرور الوقت، ما يجعل من اتخاذ تدابير مستعجلة أمراً ضرورياً لحفظ حق الفلسطينيين في الحياة.
مخاوف اسرائيلية
من المعلوم أن إسرائيل ليست عضوا في المحكمة الجنائية الدولية وترفض ولايتها القضائية، غير أن إجراءات المحكمة التي تزامنت مع تصاعد الإدانات الدولية تجاه ما يقوم به جيش الاحتلال من مجازر وحشية اضطرتها للمثول أمام المحكمة خصوصا بعد أن تزايد عدد القتلى يوم تقديم الدعوى إلى أكثر من 33 ألفاً ناهيك عن أكثر من 70 ألف جريح ودمار شامل في القطاع.
هذه النتائج التي أثارت غضباً عالمياً، أرغمت الكيان على إرسال مندوبيه للتعاطي مع قواعد القانون الدولي والمثول أمام المحكمة وهي ذاتها التي دفعت مئات اليهود المقيمين في لاهاي إلى التظاهر ضد إسرائيل وإعلان براءتهم من مجازرها الوحشية في غزة.
والمسار القانوني المدين لدولة الاحتلال كان موضع اجماع خبراء القانون الدولي الذي توقعوا إصدار المحكمة قرارات عاجلة استنادا إلى سوابق قانونية في قضايا ميانمار مع الروهينغا وأوكرانيا والبوسنة وهو ما زاد من حجم المخاوف الإسرائيلية بإدانتها بارتكاب جرائم إبادة.
ومعالم القلق بدت بوضوح خلال الأيام الماضية في الحملة الدولة الواسعة النطاق التي بدأتها إسرائيل لحث الحكومات في دول العالم على مقاومة الدعوى المقدمة ضدها والتنديد بها، ودعوتها سفارات بلادها في عواصم العالم للمماسة الضغوط من أجل إصدار مواقف ترفض المحاكمة والاتهامات الموجهة لإسرائيل.
ورغم اطمئنان حكومة الكيان بإمكان وقف هذه الإجراءات عبر الفيتو الأميركي لكبح أي إجراء تنفيذي يتبناه مجلس الأمن، إلا أن القلق الإسرائيلي ينبع من أن جنوب افريقيا تستطيع أن تواجه الفيتو برفع الأمر إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لتنفيذه بموجب قرار “الاتحاد من أجل السلام” وهي الخطوة التي قد تُفضي إلى تعليق مشاركة دولة الكيان في أنشطة المنظمة الدولية استناداً إلى حالات سابقة مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وغيرها.
وأكثر من ذلك أن تذهب الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي ظل التأييد الدولي للقضية إلى إنشاء محكمة جنائية دولية خاصة بإسرائيل على غرار المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، باعتبارها هيئة فرعية بموجب المادة 22 من ميثاق الأمم المتحدة.
حسابات سياسية
أكثر التقديرات تشير إلى أن المرحلة الأولى من إجراءات التقاضي أمام محكمة العدل الدولية، قد تُفضي إلى إصدار أوامر عاجلة تأمر فيها المحكمة إسرائيل بوقف حربها الوحشية في قطاع غزة وأقل من ذلك قرار عاجل بمنع المساس بالمدنيين والمنشآت المدنية في القطاع والضفة الغربية.
وثمّة احتمال آخر بإصدار المحكمة قراراً بعدم صلاحيتها القانونية للنظر في القضية، نظراً للطعون التي طرحتها حكومة الكيان التي تقول إنه لم يسبق القضية منازعات حقيقية بين جنوب أفريقيا وبين إسرائيل، وهي الخطوة التي تعتبر أحد الأسس التي يعتمد عليها قبل التنازع أمام محكمة العدل الدولية.
مع ذلك لن يكون سهلاً أن تصدر المحكمة الدولية قرارها في ظل الضغوط الدولية التي تواجهها الدعوى الجنوب أفريقية وفي ظل عدم اعتراف اسرائيل بمحكمة لاهاي.
ومن الوارد أن تعرقل الولايات المتحدة وحفائها الغربيين إجراءات الدعوى أو تغير نتائجها المتوقعة، خصوصاً وأن الولايات المتحدة الأميركية ستكون بموجب المادة الثالثة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية متهمة بالتواطؤ من إسرائيل في الجرائم محل الدعوى.
ومن جانب آخر فإن المرجح أن يواجه قضاة المحكمة ضغوطاً من جانب الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل من أجل افشال هذه الجهود أو حرف نتائجها لتكون لصالح إسرائيل، خصوصاً إذا علمنا أن رئيسة المحكمة الدولية جون دوناهو تعمل منذ فترة طويلة في وزارة الخارجية الأميركية، وهي تُخضع عملها في المحكمة لمصالح الولايات المتحدة.
وقد استبقت واشنطن ذلك بتصريحات أدلى بها المتحدث باسم مجلس الأمن الوطني جون كيربي اعتبر فيها ما جاء في دعوى جنوب أفريقيا عارٍ عن الصحة.
والثابت أن أي قرار تصدره المحكمة الدولية سيواجه مقاومة من إسرائيل التي تؤكد مراراً وتكراراً أنها ستواصل الحرب لحين تحقيق أهدافها في القضاء على حماس واستعاده الأسرى وهو موقف يحظى بدعم أمريكي كبير وعلّق عليه نتنياهو اثناء جلسات المحكمة بالتأكيد أن “لا شيء سيمنع حكومة الكيان من مواصلة الحرب سواءً محكمه لاهاي أو محور الشر” على حد قوله.
ومن غير المستبعد أن اسرائيل التي لا تعترف بالمحكمة الدولية ولم توقع على اتفاقية منع جرائم الإبادة أرادت هي وواشنطن امتصاص الغضب العالمي بالتماهي مع الإجراءات والمثول أمام المحكمة لتكون هذه الخطوة خط رجعة لحكومة نتنياهو في حال اضطرت إلى التنصل عن التزاماتها بتحقيق الأهداف المعلنة.
ولا يمكن اغفال أن واشنطن التي صارت اليوم تشعر أن الحكومة الإسرائيلية وضعتها في مأزق كبير في ظل استمرارها بارتكاب المجازر الوحشية بحق المدنيين قد تكون سمحت بالمضي بهذه الخطوات تحت سقف معيّن أملاَ في تكون وسيلتها الأخيرة للضغط على إسرائيل من أجل التعجيل بوقف مجازرها بحق الفلسطينيين في القطاع.