في كل مرة تحقق فيها الأطراف الليبية المتصارعة توافقات سياسية أو قانونية، فإن المشهد يستقر في النهاية على أطراف مجهولة تجعل من تلك التوافقات أشبه بانسحابات تكتيكية تنقل أطراف الصراع إلى جولة صراع جديدة، وهذا تماما ما حدث في التوافق التاريخي الذي حققه الليبيون بالمصادقة على قوانين الانتخابات قبل أن تُظهر التداعيات اللاحقة أن ذلك التوافق لم يكن سوى استعداد لجولة صراع حول حكومة موحدة تبدو بعيدة المنال.
الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله
قبل نحو شهرين وغداة مصادقة البرلمان على القوانين الانتخابية كان الشارع الليبي يأمل في أن تنخرط أطراف الصراع الليبي مباشرة في انتخابات تنهي سنوات الحرب والانقسام والفوضى، بعد أن أفلحت جهود مجلسي النواب والدولة في تجاوز معضلة القاعدة الدستورية، غير أن الجميع تفاجأ بعودة الخلافات التي أرجأت الانتخابات إلى أجل غير مسمى.
ذلك أن نتيجة جهود عام كامل من المؤتمرات والاجتماعات والمشاورات انتهت بقذف اللاعبين المحليين كرة الأزمة ليس إلى اللاعبين الدوليين المنشغلين بأزمة الحرب الهمجية التي يقودها العدو الإسرائيلي في غزة، بل إلى المربع الأممي الذي لم يكف عن ممارسة هواياته في نقل الأزمة من مربع إلى آخر.
اليوم يترقب الشارع الليبي بقلق نتائج مهمة صعبة شرع بها ممثل الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا عبدالله باتيلي في مشروع مفاوضات «الطاولة الخماسية» لإيجاد تسوية نهائية لما اعتبرها خلافات حول القوانين الانتخابية المصادق عليها البرلمان، مضافة اليها خلافات تشكيل الحكومة التنفيذية الموحدة التي يراد لها إدارة العملية الانتخابية وتسيير الشأن العام على كامل الأراضي الليبية بدلا عن الحكومتين اللتين تتنازعان الشرعية في شرق البلاد وغربها.
كان غريبا استجابة البعثة الأممية للخلافات المفتعلة بشأن التشريعات الانتخابية، بعد أن صادق مجلس النواب بإجماع على القوانين المقدمة من لجنة الـ (6+6) المؤلفة بالتساوي من طرفي الصراع الأساسيين مجلسي النواب والدولة، كما نشرها في الجريدة الرسمية، معززة بإعلان رئيس المجلس عقيلة صالح جاهزية القوانين الانتخابية أساسا قانونيا وشرعيا لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية ورفض أي دعوات لتعديلها.
هذه التصريحات اعقبها اعلان رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة رفضه القوانين التي أقرها البرلمان، باعتبارها «باطلة» ومطالبته بقوانين ترضي الأطراف الليبية كافة فضلا عن دعوته إلى مناقشة ملف المناصب السيادية قبل الشروع بالانتخابات في موقف اعتبره البعض محاولة لخلط الأوراق غير بعيد عن مواقف الأطراف الدولية الداعمة لمساعي حكومة الوحدة الوطنية المقالة برئاسة عبدالحميد الدبيبة للحفاظ على موقعها على رأس السلطة في طرابلس.
ازداد المشهد ضبابية بعد البيان الذي أعلنه ممثل الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا عبدالله باتيلي الذي بدا مؤيدا لموقف المجلس الأعلى للدولة، حيث اعتبر القوانين الانتخابية المقرة من مجلس النواب لا تضمن نجاح الانتخابات وهو الموقف الذي حظي بتأييد كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وأمريكا وبريطانيا ومعها رئيس المجلس الأعلى للدولة بينما رفضه رئيس مجلس النواب الذي أكد أن القوانين صارت نافذة وغير قابلة للتعديل.
وبقدر محدود من التفصيلي أعلن باتيلي أن قانونَي الانتخابات الجديدين «يسترعيان عدداً من الملاحظات» متحدثا عن قضايا مثيرة للجدل تحتاج إلى حلول من بينها إلزامية الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، خلافاً للممارسة المتعارف عليها.
هذا الموقف أثار توجس رئيس البرلمان عقيلة صالح لما انطوى عليه من توجه بتجاوز التوافقات المحققة بين مجلسي النواب والدولة، خصوصا وأنه جاء بعد سلسلة لقاءات عقدها المبعوث الأممي في واشنطن وعواصم عربية وأجنبية، كرست لحسم ملف الانتخابات في ليبيا بصورة نهائية.
المبادرة الأممية
كان واضحا لكثيرين أن تباين المواقف حيال القوانين الانتخابية المقرة من طرفي الصراع والمصادق عليها من البرلمان جاءت فقط لتضع أساسا لمبادرة جديدة تبناها المبعوث الأممي تحت مسمى «الطاولة الخماسية» والتي قال إنها تسعى لجمع الأطراف الرئيسية الخمسة، صالح وتكالة والدبيبة ورئيس المجلس الرئاسي ومحمد المنفي والمشير خليفة حفتر، على طاولة مفاوضات تستهدف التوافق حول القضايا موضع الخلاف في قوانين الانتخابات وآليات تشكيل الحكومة الموحدة التي ستشرف على العملية الانتخابية.
ولإضفاء الشرعية الدولية على هذه المبادرة، سعى باتيلي إلى حشد تأييد أطراف إقليمية ودولية لدعمها على أمل أن تمارس هذه الاطراف نوعا من الضغوط على المكونات الليبية للانخراط فيها، وتقديم تنازلات لإنجاح خطته في المضي نحو الانتخابات.
واستنادا إلى مخاوف تحدثت عن محاولات لإنهاء أي دور للبرلمان في المعادلة السياسية القادمة، أعلن رئيس البرلمان عقيلة صالح رفضه خطة باتيلي، وعلل ذلك بتجاهلها أو عدم اعترافها بمخرجات مجلس النواب المتعلقة بالتعديل الدستوري رقم 13 وعدم دعوة الحكومة التي شكلها البرلمان برئاسة أسامة حماد إلى المشاركة في مفاوضات الطاولة الخماسية رغم أنها الحكومة الشرعية واشتراطه قبول المبادرة الأممية الاعتراف بقرارات البرلمان وتوسيع الطاولة الخماسية إلى سداسية بضم رئيس الحكومة المشكلة من البرلمان إليها، على أن يتضمن جدول أعمال الاجتماع تشكيل حكومة موحدة جديدة.
هذا الموقف كان كافيا لذهاب المجلس الأعلى للدولة لتبني موقف مغاير، حيث أبدى ترحيبه بالمبادرة الأممية الجديدة وأعلن اختيار ممثليه لاجتماعات الطاولة الخماسية، عن دوائر الغرب والشرق والجنوب، فيما أعلن رئيس الحكومة المقالة عبدالحميد الدبيبة قبوله المبادرة الأممية بشرط أن تضمن دورا لحكومته في المرحلة الانتقالية وفي العملية الانتخابية القادمة.
تقاطعات كبيرة
كان واضحا منذ البداية أن مبادرة «الطاولة الخماسية» لم تستهدف تحريك المياه الراكدة في بركة القاعدة الدستورية، بقدر ما أرادت إنتاج إطار واسع للنقاط الخلافية المثارة حول بعض مواد القوانين الانتخابية المصادق عليها من البرلمان، وإعادة الأطراف إلى طاولة مفاوضات قد تم تجاوزها بالفعل، وكان ينقصها فقط الدعم الأممي، بما يجعلها قاعدة توافقية يمكن الاعتماد عليها لنقل ليبيا إلى مرحلة جديدة تتوحد فيها المؤسسات وتتجدد فيها الشرعية السياسية عبر قوى سياسية منتخبة.
والمشروع الأممي الجديد لم يضف جديدا إلى مسار التخبط الذي اتسمت به مشاريع البعثة الأممية والتي انتقلت في غضون أشهر قليلة من مشروع لجنة التسيير الرفيعة المستوى للانتخابات إلى مشروع «الطاولة الخماسية» زادت منه المواقف المثيرة للريبة تجاه القوانين المصادق عليها من البرلمان والتي أثارت الشكوك في عدم جدية البعثة الأممية بحل الأزمة الليبية ورضوخها لضغوط أطراف دولية ترغب ببقاء الوضع على ما هو عليه.
ذلك أن المبادرة الأممية التي حظيت بتأييد الدول الكبرى المؤثرة في المشهد الليبي، انطوت على تشكيك بشرعية القرارات التي اتخذها البرلمان بالمصادقة على القوانين الانتخابية وفق الصيغة المتوافق عليها من لجنة الـ (6+6) المؤلفة بالتساوي من مجلسي النواب والدولة، كما انطوت على عدم اعتراف بالحكومة التي شكلها البرلمان مقابل دعمها لحالة الانقسام الحكومي باعترافها بحكومة الوحدة الوطنية المقالة برئاسة عبدالحميد الدبيبة التي يرى البرلمان أنها تفتقد إلى الشرعية.
ومن جانب آخر فهناك تقديرات تؤكد أن مشروع «الطاولة الخماسية» لن يضمن تماما الوصول إلى انتخابات وحكومة موحدة على كامل الجغرافيا الليبية، ولن يتمكن من جمع الفرقاء الليبيين على كلمة واحدة، كون الأطراف المشاركين فيها ليسوا فقط من يحكمون المشهد الليبي في ظل وجود أطراف أخرى تتحكم بأجزاء من الجغرافيا الليبية الممزقة وتمتلك قوات وعتاداً عسكرياً قد يمكنها من إجهاض العملية الانتخابية وقلب الطاولة على الجميع، ناهيك عن مراكز القوى التي تتمترس للحفاظ على ما تحصل عليه من كعكة الموارد.
وباتيلي نفسه كان قد اعترف بذلك سابقا، عندما تحدث عن وجود أطراف ليبية كثيرة مؤثرة لا تريد تنظيم الانتخابات وعودة الاستقرار، وأن ما يعنيها هو ما تحصل عليه من مكاسب من الثروة النفطية، والحفاظ على الأوضاع غير المستقرة التي تضمن لها الحصول على جزء كعكة الموارد.
نوافذ مفتوحة
استنادا إلى التقديرات التي ترجح صعوبة تحقيق المبعوث الأممي نتائج إيجابية في خطة «الطاولة الخماسية» تلبي طموحات الشارع الليبي بالخروج من نفق الأزمة، هناك ثمة نوافذ مفتوحة لم يتطرق اليها الفرقاء الليبيون ولا البعثة الأممية، يتصدرها تبني البعثة الأممية مبادرة لتوسيع دائرة القوة السياسية الفاعلة، بما يساعد على الدفع بالفاعلين الرئيسيين للمضي قدما نحو الانتخابات، مع التركيز على مقاربات يمكنها إنتاج شرعية جديدة أكثر قوة من شرعية القوى المتصارعة.
ويمكن لمؤتمر وطني عام تقوده الأطراف الرئيسية في الصراع ويشارك فيه طيف أوسع من الأطراف الليبية، بما فيها الأحزاب السياسية، والأطراف العسكرية والوجهاء والأعيان والمكونات الاقتصادية والثقافية والشبابية والنساء والمجتمع المدني، دفع الفاعلين الرئيسيين إلى تسوية المسائل الخلافية العالقة وفتح الطريق لتوافق حقيقي يقود إلى انتخابات ينخرط فيها الجميع.
هذا السيناريو يمكن أن يساهم في تحقيق طموحات الليبيين بانتخابات تخرجهم من نفق الفوضى والانقسام وبالمقابل حفظ الدور السياسي والقانوني لمجلسي النواب والدولة بما يجعلهما مركزين أساسيين في صياغة خارطة التوافقات المستقبلية.
النافذة الثانية تكمن في إمكانية تنظيم انتخابات تشريعية وإرجاء الانتخابات الرئاسية وهي فكرة تبدو واقعية وقابلة للتطبيق يمكن من خلالها حصد مكاسب كبيرة ليس اقلها تجاوز الحالة الضبابية القائمة اليوم بوضع جميع الأطراف أمام اختبار عملي حقيقي، خصوصا مع غياب الخلافات بين مراكز القوى الرئيسية حول قانون الانتخابات التشريعية المتوافق عليه من لجنة الـ 6+6 والمصادق عليه من البرلمان، قياسا إلى قانون الانتخابات الرئاسية.
يمكن لهذه الخطوة أيضا أن تحدث اختراقا مهما في جدار الأزمة، كونها ستلبي مطالب الأطراف المتصارعة بتشكيل مجلس الأمة بغرفتيه النواب ومقره بنغازي والشيوخ ومقره العاصمة طرابلس، بما يقود إلى تشكيل سلطة تنفيذية منتخبة لديها ما يكفي من الشرعية لفرض سلطتها على كامل التراب الليبي.
فضلا عن ذلك فإن هذه الخطوة ستلقي بمهمة تحقيق التوافق الصعب في ملف الانتخابات الرئاسية على كاهل البرلمان المنتخب الذي سيحظى بالشرعية والاعتراف من جميع الأطراف، بما يمنحه شرعية تفوق شرعية جميع المؤسسات الليبية القائمة التي انتهت شرعيتها.
هذه الخارطة يمكن أيضا أن تفسح المجال لتشكيل الحكومة الموحدة التي يُراد لها تسيير أمور الشأن العام والإشراف على العملية الانتخابية، عن طريق صيغة بديلة مقبولة تقضي بتشكيل هيئة وطنية تتشارك في تشكيلها حكومتا الشرق والغرب بما يمنح جميع الأطراف دورا في الإشراف على انتخاب مجلس الأمة من جهة من جهة ثانية إزالة أي عقبات تواجه آمال وطموحات الشارع الليبي بدستور دائم يوحد البلاد ويخضع له الجميع.
سوى ذلك فإن أي مشاريع منفردة بتبناها رئيس البرلمان أو رئيس المجلس الأعلى للدولة لتشكيل حكومة موحدة لن يكتب لها النجاح، لأنها ببساطة لن تمثل جميع الأطياف المتصارعة، ولن تستطيع فرض السيطرة على الخارطة الليبية ووجودها لن يضيف شيئاً إلى المشهد سوى تكريس المزيد من الانقسام.
وأي خطوة من هذا القبيل عبر «الطاولة الخماسية» لن تكون أكثر من تكرار للسيناريو الذي نفذه مجلس النواب قبل عامين عندما شكل حكومة فتحي باشاغا التي تمركزت في الشرق وفشلت كل محاولاتها في استلام السلطة من حكومة الغرب التي ظلت تمارس مهامها حتى بعد انهيار حكومة باشاغا وتشكيل حكومة ثانية برئاسة أسامة حماد.