ما يحدث في مجتمعاتنا العربية منذ بداية الألفية إلى اليوم ليست حربا على الإرهاب ولا اضطرابات اجتماعية ولا ثورات ولا قلاقل وفتناً بل حركة استهداف تدار من قبل الماسونية العالمية ومحافلها في بعض العواصم العربية تهدف إلى هدم التطبيقات الدينية لدى الشباب المسلم حتى لا يكون ارتباطه بالدين ارتباطا قويا ومتينا بل يكون ارتباطا هشا وسطحيا حتى يسهل على العدو التغلغل إلى البناءات الثقافية فيحدث فيها تبدلا وتغيرا، ويمكن قياس ذلك على حركة التطبيع مع الكيان الصهيوني وننظر إلى الجدل الفكري حول هذه الفكرة في منصات التواصل الاجتماعي بين مؤيد ورافض، وننظر إلى حركة الكفر بالمقدسات والأديان مثل تمزيق المصحف أو الإساءة للرسول عليه الصلاة والسلام والرموز الإسلامية.
لقد بلغ المستعمر غاياته – أو كاد أن يبلغها – ووصل إلى مراحل متقدمة، ونحن كأمة ننساق وراء الأشياء دون وعي، ودون إدراك لما يحدث، أو قراءة للأثر المترتب على التفاعلات، ولم نستبن الرشد إلى يومنا المشهود، وهو يوم يشهد كل التفاعلات الثقافية التي تستهدف القيم وتقاليد المجتمعات الإسلامية وتطبيقاتها، فالمرأة المحافظة بدأت تخرج في بث مباشر على منصات التواصل الاجتماعي كي تتحدث عن تجاربها المخلة بالشرف ومغامراتها العاطفية في سابقة لم تكن معهودة في كثير من المجتمعات العربية.
هناك إرادة صهيونية وأمريكية تعمل على سياسة هدم التطبيقات الاجتماعية، وقد اتسع نطاق نشاطها في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي المناشط الثقافية والفنية وفي المهرجانات ، ومن تابع الجدل الفني والثقافي الذي دار في مصر قبل زمن قصير يدرك أن رأس المال يتحرك في هذا الاتجاه، فرجل الأعمال المصري نجيب ساويرس خاض جدلا بشأن الفن الذي يفسد القيم والأخلاق وتقاليد المجتمعات العربية، وقد اتضح دوره في المهرجان السينمائي الذي نظمه، وهو بذلك يؤكد على الدور المشبوه الذي يقوم به في المجتمعات العربية على وجه العموم والمصري على وجه الخصوص، فرأس المال يرتبط مع الصهيونية في إدارة الأهداف ومعروف أن لها في كل بلد واجهة مالية وطنية وساويرس واجهتهم في مصر وإلا ليس بمقدوره إدارة مهرجان فني بمئات الملايين دون غاية أو هدف.
أما في اليمن – كمجتمع تقليدي – فقد كانت لهم سياسة مختلفة فمنذ بداية تسعينات القرن الماضي بدأت حركة الانفتاح السياسي الذي تضافرت في تعزيز حركته ووجوده عدة عوامل دولية كانهيار المنظومة الاشتراكية، وإقليمية كحرب الخليج، ووطنية وتتمثل في تحقيق الوحدة الوطنية والسياسية بين شطري اليمن، ومن خلال هذه المتغيرات دخلت عدة مفاهيم جديدة في القاموس السياسي اليمني كالوحدة، والتوافق، والتناوب، والشراكة الوطنية, والعدالة الانتقالية، كما لوحظ الإقبال المكثف على توظيف بعض المفاهيم الجديدة كالحداثة، والتحديث، والديمقراطية، المجتمع، المواطنة، الحريات، حقوق الإنسان …الخ، ومن اللافت للنظر أن توظيف تلك المصطلحات كان يتم دون نظر أو تدقيق أو حرص من أرباب السياسة أو جماعة صناعة الخطاب السياسي أو المؤسسات ومراكز الدراسات التابعة للمنظومة السياسية، وقد ترك ذلك الإهمال ظلالا قاتما على المفاهيم بعد الصراع الذي عاشته وتعيشه اليمن منذ عام 2007م إلى اليوم الذي تشهد فيه شيوع المفاهيم الملتبسة مثل الاستقلال والحرية والسيادة والتحرير …إلخ، فالصراع يترك ظلالا قاتما على المصطلح وقد يحدث التباسا بغية الوصول إلى انهيار النظام العام والطبيعي وقد حدث ذلك من حيث يدري أرباب السياسة ومن حيث لا يدرون، إذ أن الفجور في الخصومة السياسية يحدث انهيارا قيميا وبالتالي تهديدا واضحا للنظام العام والطبيعي دون مراعاة لأي اعتبارات إما عن جهل أو غباء سياسي مفرط أو التباس في مفهوم المواطنة.
لقد وصلنا إلى مرحلة تاريخية فاصلة في اليمن ولا بد لنا من الوقوف أمامها بقدر واعٍ من المسؤولية الأخلاقية والمعرفية، فالصراع اليوم لم يعد صراعا عاديا بل يستخدم سيل المعلومات للوصول إلى أهدافه، وقد تكون أهدافه هدم المفاهيم وتغيير المصطلحات وتفكيك النظم المعرفية حتى يصل الخصم إلى حالة التيه، ولذلك فالانتصار في مثل معارك اليوم يبدأ من خلال ضبط المفاهيم وتحديد أبعادها النفسية والأخلاقية والمعرفية فهي محك القيمة الفردية والمجتمعية ومحك المواطنة الحقة من غيرها، كما أن السلاح التقليدي لم يعد كافيا وحده في إدارة المعارك، فالفنون – كما في الحالة التركية – تدير مشروعا استعماريا توسعيا ناعما تستخدم الدراما فيه والسياسة والاقتصاد وها هي تتمكن من تثبيت قدمها في العمق العربي بطرق ناعمة فهي تتواجد في جزيرة سواكن بالسودان دون أن تثير ضجيجا وتتواجد بقطر في غباء قادة الصحراء العربية وتتواجد في البحر الأحمر والعربي برضى المجتمع الدولي، فالصراع اليوم ليس كما في أمسه فهو مختلف جدا، فالصراع والانتصار فيه يعتمد على قدرة الدول في توظيف الانفجار المعرفي بما يخدم مصالحها، ولذلك فبناء الفرد وتفجير قدراته وطاقاته من أهم الاستثمارات في هذا الزمن وذلك من خلال تحديد مفهوم الوطنية والمواطنة وفق قيم وأسس التطورات الحضارية الحديثة وبما يكفل مواطنا واعيا مستقرا نفسيا واجتماعيا من خلال توفر حاجاته البيولوجية الأساسية ومن خلال شعوره بالعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وهي عوامل تعزز من الانتماء وتشد من العزائم لتفجير الطاقات بصورة إيجابية وليس سلبية.
لكل مرحلة من تاريخ المجتمعات مفاهيمها الخاصة التي تؤطر طريقة تفكير الأفراد والجماعات، وتحدد هوية وطبيعة العلاقات بينهم، ولا تكاد تقتصر جدلية الفكر واللغة على إنتاج مفاهيم جديدة تستجيب للتحولات التي تطرأ على علاقة الفكر بالأشياء وبالعالم بل تعمل على تحسين المحتوى العام للمفردات وتحسين المفاهيم في اتجاه توسيع المحتوى الدلالي أو تضييقه أو تعديله بشكل من الأشكال.
ولذلك نقول إن المعركة الثقافية اليوم لا تقل شأنا عن المعركة العسكرية ولا بد لنا من خوض غمارها بقدرة كبيرة حتى نحقق الانتصار الذي نرغب ما لم فنحن ندور في دوائر مفرغة لا قيمة لها في الواقع ولا أثر لها في المستقبل، فدوائر التطور متعددة وتشمل إلى جانب الدين العقل والفن ولا بد من التوازن بين الدوائر حتى لا تطغى دائرة على أخرى فيكون الصراع تعبيرا عن النقص لا استقرارا من توازن الكمال بينهم.