في بداية العقد الثامن من القرن الماضي كانت السودان قد أشرفت على حياة جديدة وأشرقت فيها أنوار الديمقراطية ببعدها الإيماني المتأصل، فبعد إسقاط نظام النميري الذي حكم السودان بالحديد والنار ، جاء عصر سوار الذهب ذلك الشخص النادر الاستثنائي الذي رفض الاستمرار في الحكم بعد أن انتهت الفترة المحددة له وهي عام ، واكتفى بأن هيأ البلاد لانتخابات نزيهة أثمرت عن أول حكومة ديمقراطية برئاسة الصادق المهدي رئيس حزب الأمة ، وفي تلك الانتخابات حدثت مشاهد كثيرة استبشر الناس بها خيراً ، وكان السودانيين قد أجمعوا على إسقاط حركة الإخوان المسلمين من القائمة السياسية نظراً لما قام به الترابي من أعمال مخالفة للشرع والعُرف والنظام والقانون ، حيث أصدر الفتاوى التي مكنت النميري من تصفية خصومه بدعوى الردة عن الإسلام، كما حدث للمرحوم محمود طه ، وكثيراً هي الأحداث التي توالت من هذا النوع وكل ذلك استناداً إلى مباركة وفتاوى الترابي ، الذي أقام الدُنيا ولم يقعدها عندما أقصاه السودانيون عبر صندوق الانتخابات ولم يرض بالنتيجة التي حدثت ، لأن كل الأحزاب السياسية تكالبت عليه .
أذكر أن الدائرة التي ترشح فيها الترابي نفسه أجمعت فيها القوى السياسية وحتى المستقلون على إسقاط الترابي وانتخاب المرشح الشيوعي محمد إبراهيم سنوا ، مما أغاض الترابي وأنصاره ودفعهم إلى التآمر والتحول إلى الثكنات العسكرية بدفع البشير قائد الجناح العسكري في الجماعة إلى القيام بانقلاب على الحكومة الشرعية ومنذ تلك اللحظة تأسست الفوضى فلم يمض سوى شهور حتى قام البشير نفسه بالانقلاب على الترابي ولي نعمته ، وتمزيق القوات المسلحة لإحلال مليشيات خاصة بدلاً عنها ، وإبقاء الجيش النظامي مهلهلاً غير قادر على الحركة ، وعلى هذا الأساس تأسست قوات الدعم السريع والجنجويد ، وكلها مليشيات خاصة استخدمها البشير للقمع ، وكان من مساوئ هذا التوجه الإخواني فصل جنوب السودان عن السودان الأم ، وتحويله إلى دولة مستقلة والإخوان يباركون ذلك ، بعد ذلك وعندما تم القضاء على البشير شكلياً- أما في الواقع فهو ما يزال قائماً ونظامه هو من يُسير السودان- توزعت المليشيات أشتاتاً مع قطر والسعودية وتركيا والإمارات وأمريكا وروسيا ومصر وكل دول العالم ، وهذا نتيجة ما يجري اليوم في السودان ، بحيث أصبحت السودان عبارة عن خزان لدعم المليشيات في كل دول العالم ، وها هي السعودية اليوم تحاول ترميم ما أحدثته من شُرخ في جسد السودان الواحد بلا جدوى ، بعد أن تحولت إلى طرف فقط يُغذي جهة معينة وبقية الجهات لها مصادر أخرى تمولها وتدفعها إلى جبهات الحرب كلاً بحسب مصالحه ورغباته وعلى هذا الأساس يبدو مستقبل السودان مُظلماً والكارثة تحيط بأبنائه من كل جانب.
نسأل الله لهم السلامة وعلى الإخوان في بقية الدول أن يتعظوا بما جرى ويعرفوا حجم الكارثة التي تسببوا بها وأصبحت هي مصدر دمار للإسلام والمسلمين والعرب على وجه الخصوص .. والله من وراء القصد ..