اليمن وتداعيات التحولات الجيوسياسية

طه العامري

 

لاشك أن أزمة اليمن والعدوان والحصار ألقت بظلالها على حياة الإنسان اليمني الذي تعرض لسلسلة من المعاناة كنتاج طبيعي للحالة التي يعيشها وطنه، وبين التشرد والنزوح الذي تسبب به العدوان إلى اهتزازات طالت الجوانب المعيشية وأجبرت ملايين اليمنيين إلى الاعتماد على المساعدات الإغاثية بعد أن أفقدت الحرب والعدوان هذا الشعب الكثير من مقومات الاستقرار، اضف إلى ذلك انقطاع المرتبات تزامنا مع انسياب ثروات اليمن إلى خزائن دول العدوان وجيوب مرتزقتها في الداخل..؟!
حرب وحصار عاشتها اليمن خلال عقد من الزمن أثمرت عن الآف الشهداء والجرحى والمعاقين، ناهيكم عن الآف من الأطفال اليتامى والأمهات الثكالي والنساء الأرامل، ناهيكم عن دور أدوات العدوان القوى المحلية في تغييب وتهميش وحدة الإرادة والمركز السيادي الوطني بعد تدمير (القصر الجمهوري ودار الرئاسة في صنعاء وقصر الشعب في تعز) فيما بدأ (قصر معاشيق) وكأنه وكر ( للغربان والخفافيش) بما يوحي للناظر وكأن اليمن خرجت من أجندة إهتمام المحيط والعالم، فبدت الحياة بنظر الغالبية من أبنائها وكأنها كابوسا أفقد البلاد والشعب كل ممكنات الحياة والفعل، وهذه رؤية يمكن تقبلها من منظور سطحي عابر يغلب ناظره هموم الحاضر على مقومات القادم الذي يجعل اليمن حاضراً وبقوة في ملعب التحولات الجيوسياسية ليس كمتفرج ولا كأداة بل كفاعل أصيل وشريك أساسي في صناعة التحولات الدرماتيكية التي تشهدها خارطة المنطقة والعالم..
قبل 12 عاما وفي مثل هذا الشهر حين بدأ العدوان الإرهابي على الجمهورية العربية السورية كتبت مقالا أكدت فيه بأن (سورية سوف تنتصر وان خارطة العالم سوف تتشكل من دمشق) لم أكن يومها على علم بمفاجأة أخرى قادمة من (صنعاء) التي وبرغم التضحيات الجسام التي قدمتها ودفع ثمنها الشعب بكل شرائحه وطبقاته الاجتماعية، إلا أن صنعاء ومن خلال صمودها الأسطوري في مواجهة العدوان الدولي والحصار، استطاعت أن تنتزع موقعها في قائمة الأطراف الفاعلة في إعادة هيكلة الخارطة الجيوسياسية إقليميا ودوليا، ويمكن لأي مراقب أو محلل حصيف أن يدرك هذه الحقيقة من خلال ربط التفاهمات الإيرانية _السعودية التي أنجزت مؤخرا برعاية صينية، والتي ما كانت لتكون لولا صمود صنعاء في مواجهة العدوان والحصار، في ذات السياق كان الصمود السوري في مواجهة المؤامرة الإرهابية الكونية، وان كانت (دمشق) قد فتحت أمام (موسكو) بوابة الولوج إلى صدارة الملعب الجيوسياسي، لتذهب دمشق بموقفها هذا في شرعنة وتكريس استراتيجية (عالم متعدد الأقطاب) فإن (صنعاء) ذهبت بدورها في مهمة استكمال دور دمشق في فتح بوابة الولوج أمام (طهران)، الأمر الذي جعل صنعاء ومن خلال صمودها تعبد طريق التواصل بين ( طهران _والرياض) بعد أربعة عقود من زراعة هذا الطريق ب( الألغام) من قبل أعداء البلدين والمنطقة والأمة وأعداء الوجود الإنساني المستقر..!
إن صنعاء ورغما عن كل الظروف الحياتية التي تعيشها ويعيشها أبناء اليمن على امتداد النطاق الجغرافي اليمني، لم تعيد الاعتبار لقرارها الوطني المستقل، ولم تستعد كرامة شعب أهدرت وسيادة وطن استبيحت، بل وضعت نفسها في مكانة على خارطة التحولات الجيوسياسية إقليميا ودوليا من خلال تشابك وتواصل دورها مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة المؤمنة بحرية وسيادة وكرامة الشعوب وأنسنة العلاقات وتكاملها على قاعدة الاحترام المتبادل والتعامل الندي، وهذه القيم التي شكلت أهم الدوافع لدى القوى الحية والحرة في صنعاء لمواجهة العدوان وغطرسة أطرافه وتحمل تبعات الحصار وتداعياته وان كانت مؤلمة، غير أن الألآم مهما كانت تبقى هينة في سبيل الغايات النبيلة، لأن الآلام العظيمة تبني الأمم العظيمة، وان كانت العلوم السياسية تقوم على قاعدة تقول :أن السياسة ليست صداقة دائمة ولا عداوة دائمة وإنما مصالح دائمة، فإن صنعاء أقدمت ولأول مرة منذ بزغ فجر التحولات الوطنية بقيام الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر، على تحديد دورها ومكانتها ووضع نفسها حيث يجب أن يكون، وحققت بهذا أحلام وتطلعات أحرار اليمن، وإعادت بهذا الدور الاعتبار لكل الذين دفعوا حياتهم ثمنا لحرية وسيادة الوطن والشعب وكرامتهما.
كان يمكن أن لا نكون أعداء لأي طرف قريبا كان أو بعيدا إذا ما تعامل هذا الطرف مع وطننا وشعبنا باحترام وندية وتكامل، بعيدا عن ثقافة التبعية والارتهان والاستعلاء. كان يمكن أن تكون عواصم الجوار الخليجي وأنظمتهم أقرب إلينا بحكم الجوار والجغرافية والشراكة الانسيابية لكل مقومات الحياة التي تجمع شعبنا بهم، غير أن غطرستهم واستعلاءهم والتعامل مع شعبنا بدونية وارتهانهم لأعداء الأمة ووجودها وكل معتقداتها، عوامل وسلوكيات جعلت (طهران) أقرب إلينا منهم، ليس لأننا اتباع لها ولا أدوات بيدها ولا (مرتزقة نستجدي مكارمها وننتظر أوامرها لننفذها ضد شعبنا) لا..
لكنها دولة تحترم سيادتنا وتؤمن بحقنا في الحرية والكرامة والاستقلال والاستقرار..
ذات يوم موغل وقبل تساقط صواريخ وقنابل العدوان على رؤوسنا كان لي لقاء مع (سفير جمهورية إيران الإسلامية _في صنعاء) ودار بيني وبينه حوار ضاف وصادق وصريح لدرجة نسيت نفسي أنني صحفي وأنني أتحدث مع سفير دولة، هو الآخر بادلنا المشاعر الصادقة وتحدث معي بكل شفافية، كان محور الحديث يدور حول أول ( سفينة إيرانية) قيل إنها احتجزت في شواطيء اليمن على البحر العربي وكانت (محملة أسلحة للحوثيين) وقد فوجئت يومها بالسفير يخرج من درج مكتبه ملفا كاملا عن القضية وقال هذا الملف (هدية لك إكراما وتقديرا لصراحتك) وقال حرفيا ( لا نريد شيئا من اليمن، وليس لدينا أطماع تجاهها ونحترم سيادتها وقيم وأخلاقيات شعبها، لكن اليمن يتمتع بموقع استراتيجي مهم، وكل ما نتمناه منكم هو أن تكونوا اقويا ويكون لديكم دولة قوية وحكومة قوية تتعامل مع محيطها بندية ومساواة، ان لا تكون تابعة لطرف، لأن موقعكم الجغرافي يحتم عليكم أن تكونوا كذلك..! )
للعلم لازلت أحتفظ بالملف الذي أهداني إياه ( سعادة السفير) وما يحتويه من وثائق يمثل (فضيحة أخلاقية وإنسانية لحكومة صنعاء حينها) وليس دبلوماسية وحسب..؟!
للموضوع تتمة

قد يعجبك ايضا