رغم أنها ليست الزيارة الأولى للأردن إلاِ أن هذا البلد الصغير يدهشك بتاريخه الغني وحضارته العريقة وتطوره الكبير رغم محدودية الموارد لا نفط ولا غاز ويعاني أيضا من فقر المياه.
ومع ذلك يصاب الزائر بالذهول حينما يرى الفارق بين زيارة وأخرى فهنا مصنع يبنى وهناك فنادق تشيد والسياح يأتون من كل فج عميق .. إنه الأمن والأمان واستقرار النظام ما جعل بلداٍ صغيراٍ كالأردن قبلة للمستثمرين والزوار بل واللاجئين أيضاٍ.
المسافة بين صنعاء وعمِان ثلاث ساعات عبر الطيران اقلتنا الخطوط الجوية الأردنية من مطار صنعاء الساعة الثانية قبل فجر السبت الموافق الثامن عشر من مارس 2014م معظم الركاب إن لم يكن جميعهم يمنيون منهم مسافرون نحو أميركا وآخرون وجهتهم الأردن معظمهم –بالطبع- مرضى يبحثون عن طبيب ماهر يشخص حالاتهم الصحية ومشفى يعالجهم من علل وأمراض استعصى علاج بعضها في الداخل.
ما إن تقلع الطائرة حتى يبدأ الكثير في الحديث مع بعضهم البعض تسمع حكايا وقصصاٍ يختلط فيها الشخصي بالعام الاجتماعي بالسياسي كل يحدث الآخر عما يجول بخاطره وفجأة تنطفئ المصابيح وتتحدث المضيفة بلطف (على جميع السادة الركاب ربط الأحزمة استعداداٍ للهبوط).
وصلنا مطار الملكة (علياء) في الساعة الخامسة صباحاٍ كان الجو بارداٍ للغاية قيل لنا أنه آخر أيام الموجة الباردة أخذنا حقائبنا بعد اتمام الإجراءات في جوازات المطار وذهبنا للفندق لأخذ قسط من النوم والراحة.
رحلة إلى العصر الروماني
ظهر يوم السبت انطلقنا في رحلة تاريخية طويلة باتجاه مدينة (جرش) الأْثرية والتي تقع إلى الشمال من عمان و بمسافة تقدر بـ45 – 50 كم .. في ذلك المكان الأثري الذي يعود تاريخه لأكثر من 6500 سنة تشعر بأنك لست أمام حضارة عريقة فحسب بل أمام (امبراطورية عظمى) خصص لها (القرآن الكريم) سورة كاملة باسمها انها (الروم) هنا يدل لك ما تبقى من آثار تاريخية أنك أمام دولة متطورة وقوية حكمت جزءاٍ كبيراٍ من العالم بدءاٍ من أوروبا حتى بلاد الشام ومنها الأردن.
بعد تناول وجبة طعام (الغداء) في مطعم شعبي قريب من المدينة وصلنا (جرش) الساعة الثالثة عصراٍ كان الجو بارداٍ للغاية لأن موجة البرد كانت شديدة في ذلك اليوم فضلاٍ عن أن المنطقة جبلية ترتفع عن سطح البحر بنحو 600 متر.
دخلنا المدينة من البوابة الجنوبية وأول ما يلفت انتباه الزائر بوابتها الضخمة ذات الأقواس الثلاثة والتي شيدت في عهد الامبراطور الروماني (هدريان) وفقاٍ للمعلومات والبروشورات الصادرة عن هيئة تنشيط السياحة الأردنية وذلك احتفاءٍ بدخوله إليها عام 129م.
وأول من بنى هذه المدينة هو الاسكندر الاكبر في القرن السادس قبل الميلاد بحسب شرح الدليل السياحي – عادل محادين.
تبهرك جرش بشوارعها المرصوفة وكنائسها وأسواقها وميادين سباق الخيول والساحات العامة والمسارح والحمامات العامة والنوافير والأسوار وكل ذلك يدل على التقدم الذي وصل إليه (الرومان) آنذاك ومستوى الرفاهية فهذه المدينة المبهرة تمثل رمزاٍ للفخامة والتطور المدني عند الرومان في الشرق الأوسط.
بعد عبور البوابة الجنوبية (قوس هدريان) يلحظ الزائر عن يمينه آثار كنائس وعن يساره يشاهد ميدان سباق الخيل والذي يبلغ طوله 245 مترا وعرضه 52 مترا ويتسع لنحو 6000-15000 متفرج أما الساحة البيضاوية فهي من أهم الأمكنة إذ تبلغ مساحتها 90×80م2 وتحاط برصيف عريض وصف من الأعمدة الايونية ويقال أنها كانت تستخدم كسوق وكموقع للخدمات كما كان يتم مناقشة قضايا المدينة في ذلك المكان ويلحظ المرء على امتداد الشارع الرئيسي شبكة تصريف المياه تحت الأرض وكذا شبكة المياه والتي كانت تستخدم للنوافير والزراعة ايضا.
وما يشد الانتباه تلك الاعمدة المبنية من الحجارة وتزين الشارع الرئيسي من الجانبين إذ تم بناؤها من الحجارة منحوتة على شكل دائرة وفي أعلاها تم وضع تيجان مزخرفة بشكل جمالي بديع.
وفوق شارع الالف عمود يشاهد الزائر من جهة اليسار الكاتدرائية حيث تقع البوابة الحجرية الضخمة الغنية بالصورة المنحوتة لمعبد ديونيسوس الرومي والذي تم تحويله فيما بعد إلى كنيسة بيزنطية تسمى حالياٍ بـ(الكاتدرائية) وفي أعلى الدرج مقابل جدار شرقي خارجي للكاتدرائية يقع ضريح مريم العذراء مزينا بنقوش ملونة لمريم والملكين ميخائيل وجبريل عليهما السلام.
كما تشمل المدينة الرومانية بجرش سبيل الحوريات حيث تم بناء نافورة تزينها الزخارف الرائعة عام 191م بحسب المعلومات التي تضمنها الكتيب التعريفي (الأردن تاريخ وثقافة) وذلك تكريساٍ لحوريات الماء وتوجد مثل هذه النوافير في المدن الرومانية لتعطي صورة حيوية للمدينة.
ولا تخلو المدينة من المسارح إذ تم بناء مسرحين في شمال المدينة وجنوبها الأول تم بناؤه عام 165م ويتسع لـ1600 مقعد فيما تم بناء الثاني في عام 90-92 ميلادي ويتسع لنحو 5000 متفرج الأمر الذي يشير إلى أن التقدم لم يكن حضريا واقتصاديا فحسب وإنما كان هناك تقدم معرفي وأدبي وثقافي.
وبالرغم من أن المدينة تعتبر الوجهة السياحية الثانية بعد مدينة (البتراء) إلا أنها ما تزال خارج قائمة (التراث العالمي) وذلك بسبب الشارع الاسفلتي الذي يقع أسفل المدينة ما حرمها من دخول القائمة العالمية.
متحف السيارات الملكي
يعد المتحف الذي يقع في حدائق الملك حسين من أهم الأماكن السياحية إذ يحتوي على مجموعة مدهشة من الدراجات النارية (الموتورات) والسيارات التي يعود تاريخها إلى زمن الثورة العربية الكبرى كما يتضمن مجموعة سيارات للمغفور له الملك حسين بن طلال.
فسيفساء مادبا
في الثانية عشرة والربع من ظهر الاحد 19 مارس خرجنا من عمان جنوبا باتجاه مادبا والتي تبعد نحو 30 كيلو متراٍ مررنا بمناطق عديدة بدءاٍ من منطقة مرج الحمام مروراٍ بـ(ناعور) و(حسبان) و(جرينة) وصولاٍ إلى (مادبا) والتي تسمى بمدينة الفسيفساء .. يلاحظ المرء على جانبي الطريق طبيعة خلابة فأشجار اللوز منتشرة في تلك المناطق والأراضي الزراعية الخصبة بدأت تتلاشى في بعض المناطق نتيجة الزحف العمراني – ذكرتني تلك المناظر بما حدث في مدينة إب والتي حولت البنايات الاسمنتية المدرجات الزراعية إلى كتل اسمنية شوهت المحافظة الخضراء -.
تتميز تلك المناطق بسهولها ووديانها التي تنتج الخضار والفواكه فمحافظة مادبا ومنطقة البحر الميت تعتبر ( سلة غذاء) الأردن وتحقق اكتفاء ذاتياٍ بل ويتم تصدير عدد من المنتجات للخارج.
وتحتضن مدينة مادبا عدداٍ من المواقع الدينية المسيحية من أهمها الخريطة الفسيفسائية التي تتوسط كنيسة جورج الارثوذكسية الاغريقية المعاصرة .. وتتصف هذه الخريطة البيزنطية المشغولة بالفسيفساء الملونة بأنها أقدم خريطة صنعها الانسان على وجه الأرض إذ تعود إلى القرن السادس الميلادي .. وتظهر الخريطة أهم المواقع المسيحية واتجاهاتها من مصر إلى لبنان والعراق وفلسطين وغيرها من البلدان.
وقد جعلت الخريطة مدينة القدس كعنصر مركزي إذ افرد لها الفنان اطاراٍ خاصاٍ بها حيث المدينة المتكاملة بكل مكوناتها أي بأسوارها وكنائسها وشوارعها .. وهذه الخارطة مصنوعة من ألفي حجر ملون وحجمها الأصلي 25×5م2 وتظهر في الخريطة التلال والوديان والقرى والمدن وتظهر مناطق تمتد حتى دلتا النيل.
جبل نيبو .. مكان مقدس
بعد تناول طعام الغداء في مطعم (جدودنا) بالقرب من كنيسة جورج بمادبا اتجهنا نحو جبل نيبو والذي يقع على بعد 10 كيلو مترات من مدينة مادبا ونحو 41 كم من العاصمة (عمِان).
زاد شوقنا للطلوع إلى قمة الجبل المرتفع 680 متراٍ فوق سطح البحر بعد سماعنا من المرشد السياحي عادل محادين بأن هذا الجبل مكان مقدس هاجر إليه النبي موسى من مصر ويعتقد أنه دفن فيه بالإضافة إلى أنه بإمكاننا مشاهدة القدس من أعلى قمة الجبل.
وبالفعل بإمكان المرء أن يستمتع بمشاهدة العديد من المناظر للقدس واريحا ونهر الأردن والبحر الميت.
ويعد جبل نيبو قبلة الحجيج المؤمنين المسيحيين وفيه أول كنيسة بنيت في أواخر القرن الرابع الميلادي كعلامة للموقع الذي قيل أن النبي موسى عليه السلام توفي فيه وتم العثور على ستة أضرحة من فترات زمنية مختلفة كان قد تم تجويفها في الصخر تحت اغطية من الفسيفساء في الكنسية.
وفي أعلى قمة الجبل يشاهد الزائر آثاراٍ من الفسيفساء حيث أن أقدمها تصور صليبا مظفورا وهناك صليب افعواني حديث يلتف حول صليب صنع من الصلب ونصب أمام الكنيسة وهو يرمز لعصى النبي موسى التي كانت تتحول إلى حية كمعجزة من معجزاته التي عززه الله بها.
في البحر الميت
يعتبر البحر الميت من عجائب الدنيا الطبيعية حيث أنه اخفض بقعة على سطح الأرض وبانخفاض يصل إلى 410 مترات عن مستوى سطح البحر وللمنطقة تسميات عديدة منها بحيرة لوط وبحيرة الملح ويقال أن نبي الله لوط عليه السلام عاش في هذه المنطقة وفيها أنزل الله عقابه الشديد على قومه إذ يروى أن زوجته تحولت إلى تمثال من الملح لعصيانها مشيئة الخالق.
بين زيارتي السابقة للبحر الميت في عام 2008م والزيارة الأخيرة وجدت فارقا كبيرا فالمنتجعات السياحية والصحية كانت محدودة للغاية بينما شهد الآن الساحل المحاذي للبحر تطورا كبيرا إذ تم انشاء عدد من الفنادق والمنتجعات الصحية والمتنزهات والأماكن الترفيهية.
وبالرغم من أن البحر الميت لا تعيش فيه الكائنات الحية نظراٍ لارتفاع ملوحته إلا أنه تحول إلى مورد مهم بالنسبة للأردن إذ تحول إلى مقصد للسياحة العلاجية فمياهه المالحة يقال أنها علاج للكثير من الأمراض المستعصية كالصدفية وغيرها من الأمراض الجلدية.
السياحة العلاجية
إلى جانب نجاحها في جذب ملايين السياح لزيارة الأماكن الاثرية والبيئية نجحت الاردن في جذب مئات الآلاف في ما يسمى بـ(السياحة العلاجية) فالأردن شهدت نهضة كبرى في المجال الطبي وأضحت تحتل المرتبة الثالثة على مستوى العالم.
ويلحظ الزائر للمستشفيات الخاصة أن هناك الكثير من المرضى الأجانب ومن ضمنهم بالطبع اليمنيون يمثلون نسبة كبيرة إلى جانب المرضى الليبيين والسودانيين والجزائريين.
التقيت بعدد من اليمنيين خلال زيارتنا لمستشفى الأردن والمستشفى التخصصي واستمعت إلى شكاواهم من ارتفاع تكلفة العلاج هناك غير أن مسؤولي المستشفيات يقولون أنها الأرخص إذا ما تمت مقارنتها بالأسعار في أوروبا وأميركا.
يتحدث الأردنيون بفخر عن تميزهم في القطاع الطبي والذي يسهم بنحو مليار دولار سنوياٍ في الناتج المحلي الاجمالي للأردن وهذا الرقم يكشف قوة القطاع الطبي ومساهماته الفاعلة في النمو الاقتصادي.
وإذا كانت الأردن فقيرة في مواردها النفطية إلا أنها غنية بمواردها البشرية فالإنسان هناك يمثل رأس المال وبالتالي فقد نجحت المملكة الأردنية في استثمار طاقة البشر وجعلهم قوى منتجة ولهذا فإن الأردنيين ممتنون للملك الذي استطاع أن يحقق نجاحات في بلد محدود الموارد.