عندما يتدخل العالم لإدارة مفاوضات بين أطراف محلية لا تريد التفاوض وتقاتل لتدمير أي قواسم مشتركة تغيب الرؤى الوطنية في زحمة مشاريع متنافرة نفشل في كل شيء سوى بإفساحها المجال لأجندات خارجية تصبح بمرور الوقت صاحبة القول الفصل في السلم والحرب.ذلك ما يحدث تماما في الأزمة الليبية خلال 11 عاما من صراع مزمن وانسداد سياسي أعاد الحديث بقوة عن خيار الدولة الفيدرالية.
الثورة / أبو بكر عبدالله
في العقود التي حكم فيها العقيد الراحل معمر القذافي ذابت التناقضات الليبية والهويات الإقليمية واندمجت سائر المكونات السياسية في وحدة سياسية وقانونية واقتصادية قسرية حافظت على حالة الاستقرار تحت حكم مركزي فردي أنتج خلال 40 عاما مستوى مقبولاً من التعايش والاندماج الحضاري، غير أن 11 عاما من الصراع المسلح والانقسام دمر ذلك النسيج كليا.
النظام الجديد الذي ورث دولة القذافي بعد انتفاضة فبراير 2011 لمن يناهض فقط الحكم الاستبدادي الفردي بل قضى على كل جهوده في بناء دولة موحدة، ما افضى إلى نتيجة سوداوية بكل المستويات رزحت فيها الدولة الليبية في عشرية سوداء من الصراع المسلح والأزمات والانقسامات.
هذا المشهد أنتج معطيات جديدة في هرم الأزمة الليبية يهيمن فيها اليوم بقوة شبح التقسيم بين أقاليم طرابلس في الغرب، وبرقة في الشرق، وفزان في الجنوب بعدما صار كل منها يمتلك ميزات مليشياوية تنتشر في طول وعرض الجغرافيا الليبية بارتباطات خارجية جعلت كل إقليم منها دولة مستقلة بذاتها في معادلة الصراع على الحكم والموارد.
لماذا الانقسام؟
ليس هناك حدود للصراعات السياسية التي تنخرط فيها المليشيا، والتاريخ القريب للأزمة الليبية حافل بالشواهد، فأطراف الصراع التي تمترست منذ اليوم الأول خلف المليشيا، تتفاوض منذ 11 عاما على صياغة بضعة مواد في الدستور تتعلق بمن يحق له الترشح للرئاسة وشكل النظام السياسي (برلماني أم رئاسي) وهي المادة التي اشعلت صراعا مزمنا عطل كل مفاعيل العملية السياسية.
مشهد لا يبدو طبيعيا إذا ما قارناه بأزمة الحرب العالمية الأولى التي انتهت بـ “معاهدة فرساي” بعد مفاوضات دامت فقط 6 أشهر وكانت كافية لتشكل أساسا لإنشاء «عصبة الأمم المتحدة وميثاقها الذي غيّر وجه العالم.
تجارب عشر سنوات من المفاوضات والاجتماعات، أثبتت أن لا أحدا من الأطراف الليبية المتصارعة يريد انتخابات تفضي إلى حصول طرف على شرعية رئاسية انتخابية، كما لا أحد يريد نظاما سياسيا سواء كان برلمانيا أم رئاسيا، وما يريده كل طرف هو تشريعات تفصّل له نظاما سياسيا يحفظ بقاؤه في الحكم ويحفظ له نصيبا من كعكة الموارد.
ورغم أن مسودة الدستور تنص على النظام الرئاسي، فإن كل الأطراف السياسية المؤيدة للنظام الرئاسي أو النظام البرلماني تنهمك في التفكير بطرق يمكن من خلالها إزاحة الخصوم ومنحها فرصة جني مكاسب النظام الرئاسي وشروط الترشح للانتخابات الرئاسية بصورة منفردة في حين أنها واقعا غير مستعدة للانخراط بعملية سياسية تقود إلى انتخابات حرة ونزيهة يحدد فيها الشعب الليبي خياراته في اختيار الرئيس ونواب البرلمان.
بعد مضي سنوات على المفاوضات والمؤتمرات الدولية للتسوية الليبية، صار من شبه المؤكد أن الأطراف الليبية المخرطة في مفاوضات القاهرة بشأن القاعدة الدستورية لن تتمكن في ظل خارطة الصراع والانقسام الحاصلة اليوم من تجاوز عتبة النظام السياسي ومن يحق له الترشح لمنصب الرئيس.
ذلك أن المليشيا ومعها التيارات السياسية والعشائرية والجهوية المتصارعة على الحكم والثروة ومن خلفها الأطراف الخارجية المنخرطة في معادلة المصالح الدولية، دائما ما تجتمع على عرقلة أي حلول أو تسويات سياسية قائمة على مبدأ الشراكة والقبول بالمنافسة الديموقراطية، بل وصار بعضها يعمل بوضوح لعرقلة أي مشروع للتوافق السياسي والمصالحة وتنظيم انتخابات يشارك فيها الجميع وتقود إلى برلمان وحكومة يمتلكان الشرعية.
وحال الانقسام والتنازع السياسي عكس نفسه بقوة على التنازع حول الموارد في ظل وجود ثلاثة أقاليم تتنازع فيها المليشيا عائدات النفط في طرابلس وبرقة وفزان أدى إلى تعطل الماكنة النفطية الليبية كليا، حيث لا يزال جانب كبير منه محظورا من عمليات الإنتاج والتصدير ويفقد الليبيون القاطنين تحت جحيم الأزمة الاقتصادية والمعيشية موارد كان ينتظر أن تتوجه لتحسين أوضاعهم المعيشية في حين أن احتمالات عودة النفط إلى التدفق في مناطق الإغلاق صار أمراً بعيد المنال من غير الاتفاق على آلية لتوزيع العائدات بين الأقاليم الثلاثة وهو الخيار الذي رحبت به الولايات المتحدة الأميركية وبعثة الأمم المتحدة مؤخرا في إطار مساعيهما للامساك بأطراف الملف الليبي.
العامل الخارجي
في الأزمة الليبية ثمة تداخل كبير بين ما هو داخلي وماهو خارجي، ففي وقت سابق كان للأطراف الدولية الفاعلة في المشهد الليبي وكلاء في الداخل، غير أن تعقيدات الأزمة وطول امدها مكن بعض الأطراف الدولية من امتلاك قوات عسكرية على الأرض ولم تعد تحتاج إلى وكلاء محليين.
يشار في ذلك إلى الدول الـ 17 المؤثرة في المشهد السياسي الليبي وهي ذات الدول التي شاركت في مؤتمر باريس وفي برلين 1 وبرلين 2 وجنيف.
لدى هذه الدول وكلاء في الداخل لا تقتصر تبعيتهم السياسية والعسكرية على فرض الانقسام كأمر واقع، بل أنها صارت تقدم خدمات توسيع النفوذ والبقاء في السلطة والحفاظ على المكاسب، تماما كما حدث مع الحكومتين اللتين تتنازعان الشرعية حاليا، حيث تمارس الأولى برئاسة عبد الحميد الدبيبة المنتهية ولايته مهامها من العاصمة طرابلس بينما تمارس الحكومة الثانية برئاسة فتحي باشاغا الحاصلة على ثقة البرلمان، مهامها من مدينة سرت في ظل اعتراف مزدوج من الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة في المشهد الليبي.
يمكن القول ان التدخل الخارجي في الأزمة الليبية قلل من فرص الانهيار الكامل للدولة الليبية، لكن الحقيقية
التي لا تقبل الجدل أن هذا التدخل عبث بمقومات وحدتها، وعمق حالة الانقسام بين الأطراف المتصارعة، وحال دون تقاربها كما حال دون إيجاد مقاربة لمصالحة وطنية شاملة أو أي مقاربة سياسية تجنب البلد الخسائر التي ساهم التدخل الخارجي باستمرارها.
ورغم وجود أطراف سياسية تحاول جاهدة الخروج من نفق الأزمة المظلم إلا أن هذه الأطراف تواجه عراقيل في تركة الصراع الطويل الأمد، كما تواجه عقبات أكبر في محاولاتها تفكيك أبنية بعض القوى السياسية الليبية التي ذاب بعضها ضمن أجندات المصالح الدولية ما جعل احتمالات العودة إلى النزاع المسلح أمرا واردا.
زاد الأمر قتامة أن أكثر الشخصيات والكيانات المدعومة من الخارج لم تضع حدودا لطموحاتها السياسية، ما أدى إلى إضعاف مؤسسات الشرعية الهشة القائمة وترسيخ مشهد الصراع والانقسام.
خارطة المليشيا
المعلوم أن انتفاضة 17 فبراير نجحت في الإطاحة بنظام معمر القذافي غير أن من قاموا بالثورة لم يلقوا السلاح بعد رغم مضي 11 سنة على إسقاط النظام.
وخريطة السيطرة على الأرض في ليبيا اليوم تتنازعها عشرات الفصائل والمليشيا المسلحة، فعلى المستوى الرسمي المعلن يسيطر الجنرال خليفة حفتر على بنغازي وطبرق والشرق الليبي، وفي الغرب هناك طرابلس والزاوية ومصراته التي تتمترس فيها تشكيلة واسعة جدا من المليشيا التابعة للإخوان المسلمين والسلفية الجهادية وفروعها، من «القاعدة” و”أنصار الشريعة”، والأفغان العرب ناهيك بعشرات الجماعات العشائرية المسلحة.
أما في الجنوب والوسط الليبي فثمة مناطق تخضع لسيطرة “القاعدة” و”داعش” وأخيراً مناطق فزان والكفرة، التي تسيطر عليها قبائل التبو والطوارق والتشاديون، بينما تميل العديد من القبائل هناك إلى نظام القذافي.
تلك هي خريطة السيطرة على الأرض في ليبيا، ولا يبدو أن أي طرف من القوى المسيطرة على الأرض مستعد للتخلي عن مناطق نفوذه لمصلحة حكومة مركزية في طرابلس أو غيرها، فجميع تلك الأطراف تعتبر أن المناطق التي تقع تحت سيطرتها تم انتزاعها بالقوة والتضحيات ولا يمكن “التفريط” فيها.
ومنذ توقيع اتفاق وقف النار، اكتفت جمع الأطراف بوقف القتال في الخطوط الأمامية، لكنها لم تلتزم ببقية بنود الاتفاق حيث احتفظت بترسانتها من السلاح وتشكيلاتها المليشياوية، رغم أن الاتفاق كان نص على تجميد اتفاقيات التدريب العسكري الأجنبية، وتفكيك المليشيا ومغادرة المقاتلين الأجانب.
وما حمله التقرير السنوي الأخير لخبراء الأمم المتحدة حول ليبيا كان كافيا لتوضيح المشهد القاتم إذ أكد استمرار تدفق السلاح إلى ليبيا، كاشفا النقاب عن دول أعضاء في الأمم المتحدة “تواصل انتهاك الحظر المفروض على ليبيا منذ العام 2011، بإرسالها أسلحة إلى ليبيا مع إفلات تام من العقاب”.
سبق أن قالت الأمم المتحدة، أن ليبيا تضم أكبر مخزون في العالم من الأسلحة غير الخاضعة للرقابة، يقدر بين 150 و200 ألف طن منتشرة في جميع أنحاء البلاد بما لها من تأثير على الوضع الأمني عموما وعلى حياة المدنيين.
واستنادا إلى التقرير الأممي بشأن انتهاك حظر الأسلحة إلى ليبيا تبنى مجلس الأمن الدولي قرارا يمدد لعام آخر تفويض التفتيش قبالة السواحل الليبية للسفن المشتبه في تورطها في انتهاك حظر الأسلحة، لكن التقديرات تشير إلى أن هذا القرار سيكون كسابقة، عرضة لانتهاكه من أطراف دولية عدة لها مصالح في إبقاء الصراع الليبي محتدما إلى ما لا نهاية.
أكبر مشكلة يعانيها الليبيون اليوم هي المليشيا، واستمرار تدفق السلاح لها يكفي لإجهاض كل فرص التسوية والحل السياسي، وهو الوضع الذي جعل كل طرف من أطراف الصراع يتمسك أكثر بصياغة خارطة طريق تناسب مصالحه وتحقق طموحاته بالوصول إلى الحكم والتحكم بالموارد.
هذا الأمر بدا واضحا خلال السنوات الماضية في محاولات كل طرف صياغة الدستور والتشريعات الانتخابية بطريقة تضمن استحواذه على الحكم وتحكمه بالموارد، ما عطل كليا جهود إنتاج ارضيات مشتركة تحظى بقبول جميع الأطراف على قاعدة التوافق.
ومن الواضح أنه لم يعد لدى الأطراف السياسية المتصارعة في ليبيا هامش مناورة، سوى الانهماك أكثر في فرض الأمر الواقع بالقوة القاهرة في ظل احتقانات داخلية وحالة انعدام كامل للثقة بين الأطراف المتصارعة وضع أطراف الصراع جميعاً في حالة اللاسلم واللاحرب.
الفيدرالية خياراً
تمترس الأطراف الليبية المتصارعة حول أجنداتهم الخاصة إن لم يقدهم جميعا إلى خندق الحرب، فهو حتما سيقودهم إلى التقسيم الذي يمكن ببساطة ملاحظته عند النظر إلى مناطق الصراع التي تدير قراراتها الدول المؤثرة في المشهد الليبي عبر وكلائها المحليين.
اليوم تظهر العديد من الأصوات الداعية إلى العودة لدستور 1962 (ليبيا الفيدرالية) في ظل فشل جهود التسوية ومساعي الأرضية الدستورية المتوافق عليها، وعجز بعثة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي عن إيجاد حل مناسب نتيجة انخراطهم في معادلة المصالح الدولية.
ورغم إعلان أكثر الأطراف تمسكها بوحدة الأراضي الليبية فإن دعاة الفيدرالية يضعون ذلك خيارا وحيدا قابلا للتطبيق يمكن أن يجنب ليبيا دوامة جديدة من الصراع المسلح خصوصا وهو يحاكي مطالب الأطراف المتصارعة ومصالح القوى الدولية المتحكمة في الملف الليبي.
والدعوات إلى فيدرالية ليبية ليست جديدة، فهذا النظام كان مطبقا في فترة حكم الملك إدريس السنوسي عندما كانت ليبيا مقسمة لثلاثة أقاليم، طرابلس وبرقة وفزان وسجلت فشلا ذريعا، غير أن صداها عاد بقوة في الآونة الأخيرة كحل عملي واقعي للخروج من دوامة الصراع المسلح والانقسام وسلطة الميليشيا بما يقود لواقع سياسي جديد يعزز فرص التوافق الوطني ويتيح إنتاج شكل جديد لسلطة الدولة يمكنه استعادة الأمن وضبط النظام وحل المشكلات الاقتصادية وتأمين الحدود ولم الجميع على طاولة قواسم مشتركة يمكن أن تلبي مطالب كل الأطراف وتتيح فرصا للشعب الليبي في الاستقرار وبناء الدولة الجديدة.
كان المجتمع الدولي في السابق يرفض أي توجهات لإقامة دولة فيدرالية في ليبيا، خشية أن تؤدي إلى تبعثر الثروة النفطية، غير أن الموقف تغير منذ إعلان “مبادرة القاهرة” للسلام، التي أعادت الحديث عن الشكل الفيدرالي للدولة الليبية القائم على الأقاليم التاريخية الثلاثة (برقة وفزان وطرابلس) كحل محتمل يمكن أن يضع نهاية للأزمة الليبية ويرضي جميع أطراف الصراع خصوصا بعدما أثبتت التجارب صعوبة قيام دولة مركزية.
كانت المبادرة المصرية اقترحت مشروع التوزيع العادل” للثروة بين الأقاليم الثلاثة، كما دعت إلى المحاصصة السياسية في تقاسم السلطات، وتشكيل مجلس رئاسي جديد، مكون من رئيس ونائبين، يتم اختيارهم على أساس عضو لكل إقليم جغرافي، من الشرق والغرب والجنوب، أملا في حل أزمة الصراع المزمن حول تقاسم وتوزيع الثروة والسلطة، من خلال توسيع صلاحيات الحكم المحلي وأنهاء مشكلة النظام المركزي الذي جعل من العاصمة طرابلس، مركزاً دائماً للصراع.
وفي حين ترى بعض الأطراف الليبية والدولية الدعوة إلى الفدرلة كحل محتمل للأزمة الليبية، فإن البعض الآخر يتوجس منها ويراها إعلاناً صريحا بتقسيم ليبيا إلى كانتونات لن تلبي مصالح الشعب الليبي قدر ما ستلبي مصالح الأطراف الدولية المتصارعة على الموارد الليبية.
الواقع أنه ورغم التحفظات التي يبديها البعض حيال هذا المشروع، إلا أنه يمكن لليبيين إعادة بلورة مفهوم الفيدرالية بما يقود إلى إحداث اختراق ما في جدار الأزمة، ويحافظ على مظاهر الوحدة للأمة الليبية ويحقق للشعب الليبي تطلعات ما بعد الحرب الأهلية.
ولعل أهم ما يمكن تحقيقه في هذا المشروع هو تحقيق إنجاز كبير في ترميم جسور الثقة بين الفرقاء بوصفه حائط الصد الأول لكل جهود التسوية السابقة، فما يحتاجه الليبيون اليوم بصورة ملحة هو تعزيز الثقة لدى جميع الأطراف في إمكان المشاركة في الحكم دون إقصاء أو أعمال انتقامية.
وخطوة كهذه يمكن أن تعبّد الطريق نحو مصالحة شاملة ترمم الجرح وتخفف حدة التوترات، وأكثر من ذلك إعادة فتح منشآت النفط المغلقة والتي كان لها دور كبير في تأجيج الصراع وتقويض بنيان التعايش والاستقرار.